بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، تجتاح مجتمعَنا آفاتٌ اجتماعية كثيرة، كالمخدرات والاتّجار بها وتعاطيها ومعاقرة الخمور، وما ينتج عنها من جرائم القتل والزنا والسّطو على البيوت والممتلكات وسرقة الأموال والمحتويات واستعمال السلاح لأتفه الأسباب، مما يؤدي إلى جرائم القتل أو الإصابات والجراحات التي لا سبب لها إلا الانفلات الأمني والأخلاقي وغياب الوازع الديني الذي يهذّب النفوس ويزكّي الأخلاق، حتى غدا المجتمع ـ مع شديد الأسف ـ كأنه مجتمع يعيش حياة الجاهلية بعصبيّتها المُنتِنة وثاراتها الغائرة وقَبَلِيّتها المُتَناحِرَة، فقد تقدّمت الرذيلة، وتراجعت الفضيلة، وغدا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وقد أغلقت القلوب على نكتة سوداء، حتى أصبحت لا تميّز بين الخير والشر، أو تراهما سِيّان، ولا تغيير لهذا الواقع المؤلم إلا بتغيير النفوس، مِصدَاقًا لقوله - تعالى -: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم ) [الرعد: 11].
أيها المسلمون، لا عذر لمسلم ـ فردًا كان أم جماعة أم حكومة ـ أن يقتل مسلمًا بغير حق، كما قرّر الدينُ الحنيف والشرعُ القويمº لأن دماء المسلمين معصومة وحُرُماتها مَصُونة، والرسول يقول: ((لا يحلّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
لقد ضمنت شريعتنا الغَرّاء حفظ الضرورات التي لا تقوم الحياة إلا بها ـ وعلى رأسها حق الحياة ـ بحفظ النفس والعقل والنَّسل والدين، وبهذا سبقت شريعتُنا السمحة كلَّ المواثيق الدولية التي تدَّعِي محافظتها على حقوق الإنسان، في الوقت الذي تُسَامُ شعوبٌ كثيرة ظلمَ الدول الاستعمارية، وتُذبَحُ شعوبُها قَرَابِين للمصالح الدولية، تحت شعارات الحرية والديمقراطية والعولمة والأفكار الوافدة.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، وكما حرّم الإسلامُ دمَ المسلم إلا بحق حرّم إيذاءَ المسلم في عِرضِه أو ماله أو ترويعه بالسلاح وغيره، فقال - تعالى -: ( وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا ) [الأحزاب: 58]، وقال رسول الله: ((لا يُشِير أحدكم إلى أخيه بالسلاحº فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من حفر النار))، فهل يرعوي أولئك الذين يتباهون بإشهار السلاح في وجوه الآمنين فيستعملونه لتخويف الأبرياء لنهب أموالهم أو لتحقيق مصالح آنية من شأنها نَشر البَلبَلَة والفوضى بين أبناء المجتمع؟! والرسول يقول: ((مَن مَرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نَبل فليمسك أو ليقبض على نِصَالها بكفّهº أن يصيب أحدًا من المسلمين بشيء))، فكم هي الإصابات التي وقعت جرّاء استعمال السلاح في الأفراح أو الاستعراض بين أبناء شعبنا الذي قدّم الكثير من التضحيات وهو يتحدّى رصاص المحتلّين واحتلالهم.
أيها المسلمون، لقد حرّم الله إيذاء المؤمنين بأي صورة من صور الإيذاء المادي أو المعنوي، فالإيذاء المادي كالقتل والجروح والاعتداء على الأموال بالسرقة أو الإتلاف، والإيذاء المعنوي بفُحش الكلام وقَذف الأعراض أو الوِشَاية للأعداء أو الغيبة والنميمة بهتك الحرمات وإشاعة الفتنة وإساءة الظن، فقد نهانا الله - تعالى -عن سوء الظن بقوله: ( يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ ) [الحجرات: 12]، ونهانا - تعالى -عن استخدام الجوارح والحواس في غير رضوان الله فقال - تعالى -: ( وَلا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً ) [الإسراء: 36].
فعلى المسلم أن يسخّر حواسّه وجوارحه في عمل الخير، حتى لا تشهد عليه يوم القيامة بما اقترف، لقوله - تعالى -: ( يَومَ تَشهَدُ عَلَيهِم أَلسِنَتُهُم وَأَيدِيهِم وَأَرجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ ) [النور: 24].
إن انتشار الأذى المادي والمعنوي في المجتمع يؤدّي إلى قطع المودّة وإثارة الفتنة وانتشار الخصومة، ويهيج العداوة والبغضاء، ويفرّق الجماعة، ويمزّق الوحدة، ويهضم حق المؤمنين، ويطعنهم في الصميم، وعلاج ذلك أن ينهض كل فرد وجماعة وفَصِيل ومسؤول بواجبه في جمع الكلمة وتوحيد الصف والتصدّي لكل مظاهر الفساد والفتنة، فالرسول يقول: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أرأيت إن كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: ((تمنعه من الظلمº فإن ذلك نصره))، قال رسول الله: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
الخطبة الثانية
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، هلاّ جعلنا من شهر رمضان المبارك الذي يحلّ على أمتنا بعد أيام قلائل موسمًا لمراجعة أحوالنا، ومائدة لفعل الخير، وفرحة للتوبة من الذنوب، ومحطة للتزود بالإيمان والتقوى، حتى نتغلّب على شهوات النفس، ونقهر دواعي الشر والفساد والجريمة، ونوقف حالة الفوضى التي يعيشها شعبنا المرابطº لأن مسؤولياتٍ, جِسَامًا تقع على عاتق هذا الشعب، فيجب أن ينهض بها، وعلى رأسها رعاية المسجد الأقصى المبارك الذي تُحدِقُ به الأخطار، ويطمع به الأعداء ضمن محاولات ومخطّطات للتدخّل في شؤونه، وفرض واقع جديد فيه لا يرضى به مسلم يحمل عقيدة الإيمان وتحرّكه عزة الإسلام.
كما تتعرّض المدينة المقدسة لهجمة استيطانية غير مسبوقة، إمعانًا في تهويدها وطَمس معالم حضارتها الإسلامية وقَلع جذورها العربية، في الوقت الذي تُهَروِل فيه دول العُرُوبة والدول التي تسمّي نفسها دولاً إسلامية لتطبيع علاقاتها مع حكومة الاحتلال الإسرائيلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن أمتكم الإسلامية تملك من عوامل الوحدة والقوة ما يجعلها في مقدمة الأمم إن هي أخذت بهذه العوامل منهجًا لحياتها، فالعقيدة الإسلامية تجمعها على التوحيد والإيمان، والشريعة الإسلامية توحّدها في بيان الأحكام والاحتكام، ومواردها من الثروات الهائلة وموقعها الجغرافي الذي يجعلها تتوسّط أمم العالم عوامل قوة تدفعها لمقدمة رُتَب الأمم، بدلاً من السير في ذيل القافلة. فهلاّ أخذت أمتنا بهذا المنهاج العظيم الذي أعزّ سلفَنا الصالحَ وأورثنا هذه الديار المباركة أرضًا وديارًا إسلامية؟!
ورحم الله الفاروق عمر فاتح هذه البلاد حينما قال: (نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد