إعصار كاترينا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 
الخطبة الأولى

أما بعد: فأوصيكم ـ إخوتي في الله ـ بما أوصي به نفسي تقوى الله - عز وجل -، وصية الله لخلقه الأولين والآخرين، يقول- تبارك وتعالى -: ( وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) [النساء: 131]، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين.

اللهم اجعلنا جميعًا من عبادك المتقين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم عاملنا بعفوك، وأحسن إلينا بلطفك، ولا تحرمنا من فضلك. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ومن المصائب والمحن، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين التائبين المنيبين المؤمنين الصادقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

إذا مـا خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رَقِيبُ

ولا تَحسبـنَّ اللهَ يغفـل سـاعةً  *** ولا أنّ ما تخفي عليه يغيـبُ

غفلنـا لعَمرُو الله حتى تداركـت  *** علينا ذنوبٌ بعدهُنّ ذنـوبُ

فيـا ليت أنّ الله يغفر مـا مضى *** ويأذن في تَوبَاتنـا فنتـوبُ

اللهم تُب علينا، اللهم مُنَّ علينا *** بتوبة نصوح يا رب العالمين.

أيها الإخوة المؤمنون، وتنقل لنا وسائل الإعلام ما يجعل الإنسان العاقل يزداد إيمانًا، ويزداد يقينًا بقدرة خالقه ومولاه، وما يجعله يقول: \"لا إله إلا الله\" خالصة من قلبه. ( أَمَّن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهجَةٍ, مَا كَانَ لَكُم أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَل هُم قَومٌ يَعدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأَرضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَينَ البَحرَينِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السٌّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهدِيكُم فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ وَمَن يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ - تعالى -اللَّهُ عَمَّا يُشرِكُونَ أَمَّن يَبدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ ) [النمل: 60-64].

لا إله إلا الله، في شهر ذي القعدة من العام الماضي دمّر المدٌّ البحري قرى بأكملها، دقائق ثار البحر من أعماقه، فتلاطمت أمواجه، فأهلك الحرث والنسل.

ثوانِي أذلَّت رقابًا عَوَاتِيـا  *** كـم ارتقب النـاسُ إذلالَها

بِها ذُهِل الأب عن ولده  *** ولَـم تذكـر الأمّ أطفـالَها

وكم فئة في العَوَالي تمنّت ***لو الكُوخ قد كان سُكنى لَها

وفي العام الذي قبله، وفي شهر ذي القعدة أيضًا حدث زلزال بام، آلاف القتلى تحت أنقاض منازلهم. وفي هذه الأيام ها هي وسائل الإعلام تنقل ما يحدث من أعاصير مدمّرة، تسببت بقتل مئات البشر، وصدق الله - عز وجل -: ( وَكَم أَهلَكنَا مِن قَريَةٍ, بَطِرَت مَعِيشَتَهَا فَتِلكَ مَسَاكِنُهُم لَم تُسكَن مِن بَعدِهِم إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحنُ الوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبٌّكَ مُهلِكَ القُرَى حَتَّى يَبعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهلُهَا ظَالِمُونَ ) [القصص: 58، 59]. تأمّلوا هذه الآية أيها الإخوة: ( وَكَم أَهلَكنَا مِن قَريَةٍ, بَطِرَت مَعِيشَتَهَا، أي: طغت وأَشِرت وكفرت بأنعم الله، كثير هي القرى التي أهلكها الله - عز وجل -، مَنِ الذي أغرق قوم نوح؟! ومَنِ الذي أهلك عادًا بريح صَرصَرٍ, عاتِية؟! ومَنِ الذي أهلك ثمود بالصاعقة؟! ومَنِ الذي قَلَبَ على قوم لوط ديارهم وأتبعها بالحجارة من السماء؟! ومَنِ الذي أغرق فرعون وجنده؟! يقول - عز وجل -: ( فَتِلكَ مَسَاكِنُهُم لَم تُسكَن مِن بَعدِهِم إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحنُ الوَارِثِينَ)  [القصص: 58]، أي: دثرَت ديارهم، صارت خرابًا ليس فيها أحد.

( وَمَا كَانَ رَبٌّكَ مُهلِكَ القُرَى حَتَّى يَبعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِنَا ) [القصص: 59]، الله - عز وجل - عادل، الله - عز وجل - لا يمكن أن يظلم أحدًا أبدًا، لا يهلك قرية حتى يقيم الحجة على أهلها بأن يبعث في أُمّها رسولاً، يعني في مكة أم القرى، يقول ابن كثير في تفسيره: \"فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِنَا، فيه دلالة على أن النبي الأمّي وهو محمد المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام، كما قال - تعالى -: ( لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَن حَولَهَا ) [الشورى: 8]\".

أيها الإخوة المؤمنون، مهما وصل الناس من علم، ومهما بلغوا من تطوّر، ومهما بلغوا من قدرة، أمام الجبّار جلّ جلاله لا شيء، أين علمهم؟! أين قدرتهم؟! أين سيطرتهم؟! أين أسلحتهم؟! أين أجهزتهم؟! نعمº ولكنّه الله مالك الملك العزيز القهّار الجبّار، لا تقف قوة أمام قوته، ولا توازي عظمة عظمته، ( وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) [هود: 103].

أيها الإخوة، إن الله - عز وجل - من سعة رحمته وجزيل فضله وتمام كرمه أنه يبتلي عبادهº لتستيقظ نفوس غافلة، ولتلين قلوب قاسية، ولتدمع عيون جامدة. إن الله - سبحانه وتعالى - يذكّر عباده ليتعظوا ويعتبروا، ليستيقظوا من غفلتهم، وليراجعوا أنفسهم، يقول جلّ جلاله: ( وَلَقَد أَهلَكنَا مَا حَولَكُم مِنَ القُرَى وَصَرَّفنَا الآياتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ) [الأحقاف: 27]، أي: لعلهم يستيقظون من غفلتهم، لعلهم يراجعون أنفسهم.

ويقول- تبارك وتعالى -: (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَو تَحُلٌّ قَرِيبًا مِن دَارِهِم حَتَّى يَأتِيَ وَعدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ ) [الرعد: 31]، يقول ابن عباس: (تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ عذاب من السماء ينزل عليهم)، وفي رواية عنه أيضًا قال: (نَكبَة)، أي: تصيبهم نَكبَة. فالله - سبحانه وتعالى - يذكّر عباده ليتعظوا بغيرهم، والسعيد من وُعِظَ بغيره.

أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من الذين إذا وُعِظُوا اتعظوا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، برحمته فهو أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها المسلمون، يخطئ كثير من الناس لضعف إيمانهم وقلّة يقينهم في تفسير ما يحدث حولهم، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على خلل في عقائدهم ولَوثَة في أفكارهم وكفر بربهم، ففي الحديث المتفق عليه عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرنا بنَوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).

أيها الإخوة، ينسب بعض الجهلة مثل هذه الأعاصير وتلك الزلازل وما يحدث من نَكَبات إلى الظواهر الطبيعية، وهذا الفعل من أخطر الأفعال، وهذا القول من أشنع الأقوال، يقول فضيلة الشيخ صالح الفوزان في إحدى خطبه: \"قد يقول بعض المُتَحَذلِقين من الجغرافيين: هذه الزلازل ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، كما يجري ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها، كما يقول أشباههم من قبل عندما تصيبهم الكوارث والنكبات: قَد مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف: 95]، فيعتبرون ذلك حالة طبيعية، وليست عقوبات لهم، فيستمرون على غيّهم وبَغيهم، ولا يتوبون من ذنوبهم. والذي نقوله لهؤلاء المُتَحَذلِقِين: إن الكتاب والسنة يدلاّن على أنّ هذه الزلازل كغيرها من الكوارث إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم، وكونها تقع لأسباب معروفة لا يخرجها عن كونها مُقَدَّرة من الله - سبحانه - على العباد لذنوبهم، فهو مُسَبِّب الأسباب\".

أيها الإخوة المؤمنون، فلنتق الله - عز وجل -، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا، فالسعيد من وُعِظَ بغيره، والشقي من صار موعظة لغيره.

أسأله - عز وجل - أن يهدي ضالّ المسلمين، وأن يرزقنا جميعًا الفقه في الدين، وأن يجعلني وإياكم من عباده الصالحين. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply