رجال !


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

يقولون لا يعرف الرجال إلاَّ بالمواقف! وأنا أقول نعم! فقد مرَّ بي سنة تغربت فيها للدراسة في مصر وذقت فيها الأمّرين! من أناس كنت أحسب أنهم أول من يمد نحوي يده ويعينني على الأقل بلسانه فإذا هم يقلبون لي ظهر المجنّ، ويُرونني ما لا عين رأت! سنة كاملة لم أذق فيها طعم الراحة التي يعرفها أبناء أبينا آدم..لكنني عرفت قدر نفسي التي كانت تثق بكل من أبان لي عن بياض أسنانه..

 

فجزى الله النوائب كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي!

 

بدأت أراجع حساباتي كما يقال.. وأضع النقاط على الحروف، والاقتصاد في العلاقات إلى درجة خرجت عن الحدود! لا أنكر أنه اعترتني ردة فعل كبيرة توصلت إلى ما يشبه الإحباط.. وليس أمرٌّ من الظلم على النفوس أبداً!.

استعرضت أسماء أصدقائي ومعارفي.. وطرقت أبواباً كثيرة، لأمور كثيرة، فرجعت بفوائد كثيرة! أعظمها أن الرجال الصادقين قليل جداً، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أستغفر الله.

 

لقد رأيت أناساً تمثلت فيهم أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلاً.. أناساً يحبون نصرة المظلوم، كما يحبون أنفسهم بل أشدٌّ.. يحبون المشي في حاجات العباد كحبهم للحياة.. يسهرون للبحث عن راحة إخوانهم.. فيشعلون أنفسهم ويحرقونها ليضيئوا لغيرهم..

 

هؤلاء يعجز القلم عن ذكر فضائلهم.. ولكن الله - تعالى -يشكرها لهم ويثيبهم عليها!!، إن أحدهم ليعمل العمل ويخاف أشدَّ الخوف أن يطلع عليه.. وتجده والله - لا ينسب الخير لنفسه أبداً وإذا ما نُسب إليه اربدَّ وجهه وتغير واصطنع التورية ليبعد الثناء عن نفسه طمعاً فيما عند الله.. {إِنَّمَا نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُم جَزَاء وَلَا شُكُوراً}الإنسان9

 

لقد سعى لي أحدهم في أمرٍ, في شهر رمضان الماضي 1426هـ فحاولت أن أشكره بلسان ملتاث.. فلم أتذكر إلاَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - \".. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها ثبت ّالله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام \"..

فوالله الذي لا إله غيره.. لقد نشج وشهق شهقة خلت أن روحه ستخرج.. ولم يستطع الكلام إلاَّ بقوله \".. جزاك الله خير.. جزاك الله خير يا شيخ.. عسى ربي يعتقني من النار في هذه الليلة \" ثم بكى وأغلق الخط..

ما الذي يكافيء هذا؟ أتكافأة أموال الدنيا جميعاً؟! كلا والله.. لا يستطيع أن يكافأه على ما فعل إلاَّ الله - تعالى -! وليس أقول ذلك لأنه فعل ذلك معي فحسب وإن كان واجباً عليّ شكرهº بل لأني أعرف أن ذلك خلُقٌ فيه جُبل عليه مع الأبعدين والأقربين.. عرف ما معنى الإقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً قبل القول.. وتطبيقاً قبل التنظير.

 

كم نحن بحاجة ماسة إلى أن نمحو من أذهان الناس صورة الشاب الملتزم المنظّر، الذي يحسن إلقاء الوعظ ويتقن تخريج الأحاديث أثناء كلامه والعزو إلى الكتب وكأنه يقرأ من صحيفة أمام عينه.. ويكثر من الاستشهاد بأقوال أهل العلم الأموات والأحياء.. وكأنه من أقرانهم.. ثم.. ثم إذا وُضع على المحك وجاء دور التطبيق.. فشل فشلاً ذريعاً، وأخفق في ذلك الامتحان إخفاقاً مقيتاً.. وما أبري نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلاَّ ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم..

 

وآخرون بذلوا من أموالهم.. وأوقاتهم وجاههم.. مالم يبذله الآخرين.. أسأل الله - تعالى -أن يعطيهم أعظم ما في نعيم الجنات وأن يرضى عنهم وأن يعينني على الدعاء لهم على الأقل إذ لم أستطع أن أفعل معهم مثل ما فعلوا معي!.. وآخرين سقطت أقنعتهم عن وجوههم وظهروا عراة في صحاري الإنسانية والأُخّوة.. والمرؤات وذهبت عنتريتهم أدراج الرياح! وأصبحت كلماتهم الملتهبة هباءً منثوراً!!

 

تعجب من بعضهم أشد العجب! أصحاب الميكرفونات وإعلانات المحاضرات الكبيرة جداً التي تعلق على أكبر جدار وتتحدث عن مثل عليا ويخيل إليك وأنت تسمعه أنك في أزهى عصور الخلافة الإسلامية.. في عصر عمر بن عبد العزيز.. أو أن هذا هو كزين العابدين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في محبته لنفع المسلمين!

 

تراه إذا ما جئته متهللاً.. لكن لا تسأله شيئاً يعيينك على نوائب الدهر.. ولا تطلعه على بشريتك إن كنت تريد أن تظل في عينه مَلكاً.. فإنه إذا اكتشف أنك بشر.. يعتريك ما يعتري إخوتك من أبناء آدم.. من همٍ, وكربٍ, واحتياج.. أسقطك من عينيه تماماً.. ونظر إليك بازدراء شديد، بل جلست بجوار أحدهم في مجلس مرة فقام وانتقل إلى جانب المجلس الآخر بحجة هواء المكيف! دون أن يستأذني وهو يعلم أني أخذت مقعدي بجواره قصداً.. ونسي محاضراته المثالية التي لبس فيها ثياب عبد الله بن المبارك.. وتكلم فيها بلسان الحسن البصري.. أحدهم وهو من كبارهم جداً.. أتعب تعباً عظيماً في الحصول عليه للاستعانة به في أمور الدعوة.. وإن وجدته نظر إليَّ شزراً كأنني من عبيده.. ولا أخرج منه بفائدة تنفع الناس إلاَّ بعد أن تخرج روحي!.

 

وجاء قدر الله برجل من أكابر أهل الدنيا.. رجل آتاه الله بسطة في الجاه والمال.... فعرّفته بصاحبي ذلك.. فتشبثت به وتركني!! فكنت إذا اتصلت به من هاتفي الجوال لم يجب! وإذا اتصل به هذا الرجل بعدي بثوانٍ, قليلةٍ, أجاب بكل فخر! والذريعة طبعاً هي \" المصلحة الدعوة ونصرة الإسلام والمسلمين \"!!.

أعلم أن منكم من سيطيل لسانه ويتهمني بالتشاؤم ويتفلسف.. وينسى قول العرب: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة \"..

 

لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده *** ولا الصبابة إلاَّ من يعانيها!

لا يسير الليل إلاَّ من به ألم *** ما تحرقُ النارُ إلاَّ رجل واطيها!

 

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply