رمضان وحال الأمة


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

أمّا بعد:فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فإنّ التقوى مِرقاة النجاة ومِشكاة الهُداة وأزكى بضاعةٍ, مرتجَاة في هذه الحياة، وها قد تدانَت لكم دواعيها، فيا فوزَ واعيها، {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أيّها المؤمنون: منذ أيّامٍ, قلائل قدّر البارِي جل وعلا المنازِل، فحبانا بشهرٍ, كريم ذي خيرٍ, عميم وضيفٍ, أثير مبجَّل، هفَت له الأشواق، وتلقَّته بالعَبرات الأحدَاق، شهرٍ, أرسَل أنوارَه على الأفئدة المؤمِنة الرضيَّة، فغشِي أقطارها بالتّقوى والحبور، وأفاض عليها من نفحاته فجلَّلها بالرَّشَد الطَّهور، {شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِن الهُدَى وَالفُرقَانِ} [البقرة: 185].

في رمضانَ نورُ الإيمان يُشِعّ ويضيء، ونفحَات الوحي المباركات تمضي وتجِيء، فالأوقاتُ بالطاعات والقرُبات مَعمورة، والأرواح بالطّمأنينة والسكينة بَهِجَةٌ مغمورة، الأجسادُ عن شهواتها وملذّاتها تخلَّت، والأرواح بحُلَى القُربات توشّت وتحلَّت، وللخير العميمِ شمَّرت وتجلّت.

معاشرَ المسلمين: إنّ شهرَ رمضان بمقاصده وخصائصِه وعَبَق ذكرياتِه هو مبعَث عِزِّنا ومناطُ فخرِنا ومَرفأ جَدِّنا ومجدِنا، تضمّن البطولاتِ والفتوحات وتنزٌّلَ الآيات البيّنات، فيه عُلوٌّ الأمجادِ والظّهور على قوى الشرِّ والإلحاد مهما أجلَبوا بالخيل والعتاد. وفي الجملة ـ يا رعاكم الله ـ هو موسمٌ لتجارةٍ, مع الله رابحةٍ,، وفرصةٌ لرفع الدرجات وتكفير السيِّئات مواتِيَة سانِحة، من ضيَّعها فقد أدنى بخسَه وأشقَى المحرومُ نفسَه. أما كان بيننا أحِبَّةٌ وأتراب، أُسِلموا للثَّرى والتراب؟! كانوا كالشّموس بيننا والأقمار، قد طواهم البوار إلى دار القرار. فيا ليت شِعري، أين فرسان الكلام وحُذّاق النِّثار والنِّظامِ يصفون لياليَه الزّهر الباهرة وآلاء أيّامه المتظاهرة، بل ما لا يكاد يُحصَى فيه من صنوفِ الخير ودُروب الهدى، ولا تسَل عن غُرَّة جبينِه ليلةِ القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.

إخوةَ الإيمان: ذلكم هو شهر رمضان، وذلكم فحواه ومبناه، وإن الغيورَ ليتساءل في لهفٍ, لهيف: هل استطاعت أمّتنا الإسلاميّة أن تعيَ حقيقةَ الصوم بكلِّ ملامحِها ودلائلها من نهَلٍ, للنَّقل وجلاءٍ, للعَقل وصفاءٍ, في القلب وأُنسٍ, للروح ووعيٍ, مقتَرنٍ, بالتقوى وعِلمٍ, متّصل بمخافة المولى جل وعلا ؟! هل أدركنا أنّ لشَهر رمضانَ نورًا يجدر أن تستضيء به النفوس والقلوب، فتثبتُ الأمّة أقدامَها على طريق التغيير بوعيٍ, لا تشوبه رغبات، وبثبات لا يعكِّره ارتجال وثَبات؟! أم أنّ حظّنا من رمضانَ هو الاسم المعروف والزّمن المألوف وصِلة المناسبة المنبَثّة عن الواقِع والحال حين تشرِق الشمس أو يُطلّ الهلال. ويالله، كم نسعد ونغتبِط بشهر رمضان حين نجعَل منه دورةً زمنيّة قويَّة خيِّرة، تقودنا إلى تحقيقِ الذات والنصرة على المعتدين بيقين وثبات، وما أعظمَه حين ذاك خيرًا يُصنَع ودرجةً مؤثّلَةً تُنال.

أمّةَ الصيام والقيام: ومما يؤسَى له في شهرِ الغفران والعِتق من النيران أنّ كثيرًا من المسلمين هداهم الله طاشت أفهامُهم عن كثيرٍ, من حقائق الصّوم ومضامينه ومراميه، فحبسوا الجوفَ عن الطعام والشّراب فحسب، وراحوا يُطلِقون في المحرّمات البصر، ولم يصونوه عن فضول النّظَر، وتقحَّموا حُمَّى اللّسان، ولم يرعوُوا عن النميمة والغيبةِ والبهتان واللغوِ وهُجر القولِ والهذَيان، ومن توافى على هذا الشأن عِياذًا بالله كان كمن أشاد قصرًا وهدم مِصرًا. خرَّج البخاريّ في صحيحه أنّ رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: ((من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابه))[1][1].

ويُطوَّح بك الشّجَن والشَّجَى حين تسمَع عن فئامٍ, من المسلمين قد غدَوا أحلاسَ اللّذّة، يكرَعون من صَرَى بعضِ الفضائيات المسِفّة في قَرَمٍ, وسُهوم، ويرمّدون أبصارَهم في نَهَمٍ, بقِتَامِها الأَدفَر عياذًا بالله. ألم يعلم هؤلاء أنّ هذه الفضائيّات الحواطِم شِراع يدفع بسفينتِنا لما فيه حتفُ شبابنا وفتياتِنا، وجرثومة خطيرة تصدِّع وادي فضائلنا وعفّتِنا؟!

ألا فليتّق الله في شهرِ التنزيل والترتيل الذين نصَبوا أنفسهم حُداةً للغرائِز والشهوات في بيداءِ الدنيا وهذه الحياة، يُلهبونها إذا سكَنت، ويُضرِمونها إن خمدت. يا وَيحهم، لا العَبرَة أراقوا، ولا على زواجِر القرآن أفاقوا. ألا فلنعُد جميعًا إلى رِباطِ الفضائل والطٌّهر والعَفاف، فنحزم به أمورَنا ونوثّق به روابطَنا قبل أن يبلُغَ الحزامُ الطٌّبيَين، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

أمّةَ القرآن، ومن خصائصِ هذا الشهرِ المبارك تنزيلُ القرآن الكريم، {إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ}[القدر: 1].

نعم، نزلت الآيات البيّنات، فأنارَت الدنيا وكانت غارقةً في لُجَّة الظلمات، غيّرتِ الجهلَ والهمجيّة إلى قمّة الحياةِ الإنسانية، في عدلٍ, شامل وعلمٍ, نافع ووعي متكامَل، وأروَى هذا الكتاب المبينُ العالم بمائِه، وما ماؤه إلا الخير المحضُ للإنسانيّة والصلاح والنفعُ والسعادة للبشرية والمضيٌّ بها في طريق الهدَى والنور. أعجزت كلماتُه البلغاء، وكاعَ دون نظمِها الفُصحاء، ألفاظه ومعانيه إليها المنتهَى، وبلاغتُه حيّرت أولي الألباب والنٌّهى، {كِتَابٌ أُحكِمَت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِن لَدُن حَكِيمٍ, خَبِيرٍ,}[هود: 1]. فهل تعي الأمّة دورَها تجاهَ كتابِ ربها في أفضل شهورِها؟! لا سيّما في هذا المنعطَف الخطير وهذه الحقبة التأريخية التي تمرّ بها وفي هذه الآونة التي ظهرت فيها شِرذمَةٌ من شُذّاذ الآفاقِ مَباءةِ كلِّ خِسَّةٍ, ولُؤم، رمَى بهمِ حقدُهم الأسوَد اللامحدود وكيدُهم الأحمر المتفاقِم لمعارضةِ القرآن الكريم والتطاول على الذاتِ الإلهية والأحكام القدسيّة والجِناب المحمَّدي، في هرطَقاتٍ, يزعمون أنّها الفُرقان الحقّ، وما هي إلا الفِرقان الخَلِق، {كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِهِم إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5]، {فَوَيلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَت أَيدِيهِم وَوَيلٌ لَهُم مِمَّا يَكسِبُونَ} [البقرة: 79]. وليس بِدعًا أن يُؤلِّف القومُ ما ألَّفوا وأن يرتكِبوا من الافتراءات والخزَعبَلات ما ارتكبوا، فهم الذين اتَّخذوا آياتِ الله هزوًا، وكتموا ما أنزل الله، وقتلوا أنبياءَ الله، وحرفوا التوراةَ وبدّلوها، كيف وقد فضَح الله خلائقهم ونيّاتهم، ولم يغادِر القرآن الكريمُ صغيرةً ولا كبيرةً مما تنطوِي عليه نفوسُهم عن الخبثِ والمكر إلاّ أوضحَها وجلاّها، {وَيَسعَونَ فِي الأَرضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبٌّ المُفسِدِينَ} [المائدة: 64].

وإنّ ما أتوه من أباطيلَ وما افتروه من تضليلٍ, لأنزلُ رُتبةً من أن يُتناوَل بردٍّ, أو نِقاش في هذا المكان المقدّس، فليبلُغَنَّ هذا الدينُ ما بلغ الليل والنهار، ولكن علينا أن ندرِك أنهم يريدون إصابتَنا ـ وما هم ببالغين ـ في مقدَّساتنا وثوابتِنا وكتابنا الذي أيقَنوا أنه حياتُنا ونجاتُنا، وأنّا به صِرنا خيرَ أمّةٍ, أُخرجت للناس، وأنه النورُ والضياء للعالمين. ولعلّ هذه الصواعقَ والرّعود نَجني منها بإذنِ الله يانع الثّمرَ والورود، فتوقِظ فينا الاستمساكَ بهذا القرآن الخالد والاعتصامَ بأحكامه وأوامِره، وأن نتواصَى على العمل به في شؤوننا كافّة، {كَذَلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ} [الرعد: 17].

معاشر الصائمين، {لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وإنّ من كمال هديِه (صلي الله عليه وسلم) في رمضان البذلَ والإنفاق، قال الإمام الماوردي رحمه الله: \"مُنِح من السّخاء والجود حتى جادَ بكلّ موجود\"، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيرًا لأَنفُسِكُم وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُونَ} [التغابن: 16]، وما الإنفاق والإحسان في هذا الشهر المبارك الميمون للمعوِزين والمعسرين والمدينِين إلاّ دليلُ حبٍّ, شفيف وإيمان مُزهرٍ, رَفيف يحمل النفسَ على المشاعرِ الرقيقة الحانية، فتسري في الأمّة المسلمة كالريح الرٌّخاء، فتبذل في نداوةٍ, ورَخاء، فمدٌّوا أيديكم ـ رحمكم الله ـ لإخوانكم بالعطاء، تحوزوا مرضاة ربِّ الأرض والسماء.

وإنّا ـ أيّها الأحبة ـ إذ نقرَعُ معكم باب الوُدّ والعطفِ ونشرع دونَكم قناةَ الحُبّ واللّطف لنقول: شاهَت وجوه الشانِئين على الأعمال الخيريّة والإغاثية التي يفوح شذاها في هذه الديار المباركة، ولستم ـ يا بغاةَ الخير والمعروف ـ الذين تفلٌّ في هِمَمكم وعزائمكم الأراجيفُ والافتراءات والأكاذيب والمثبِّطات، ولا ينافي هذا ضبطَ الموارد والمصارِف وترشيدَها، وإنّنا لنحمد الله عز وجل أن الهيئاتِ الموثوقةَ في بلادنا كثيرةٌ والمؤسّسات الأمنية عديدة، فلا تُمسِك ـ يا محبٌّ ـ الكَفّ، لعلَّك عن النار تُذادُ وتُكفّ، بمنِّ الله وكرمه.

أمّةَ الإسلام، وإنكم إذ تعيشونَ شرَفَ الزمان والمكان وتنعَمون بطيب المقام ووارفِ الأمان في هذه الأجواء العَبِقةِ الأريجة والجِواء المنشَّرة البهيجة لا مَعدَ لنا عن تذكٌّر إخوانِنا المكلومين بحسرةٍ, تكوِي أكبادَ الغيورين، وتُدمي أفئدةَ الملتاعين، في أولى القبلتين ومسرَى سيِّد الثقلين، أقرّ الله الأعيُن بفكِّ أسرِه وقربِ تحريره، حيث يسومهم جلاوِزة البغي والطّغيان دونَ حسيبٍ, أو رقيبٍ, القهرَ والتدمير والقصف والتفجير وما لا يخطر ببال من التعذيبِ والتنكيل، فهل تحرِّك الأشلاءُ والدّماء وبُكاء اليتامى وصرخات الأيامى تحت أنقاض البيوت ولوعةُ الأرامِلِ في الظّلُمات وحزنُ الملتاعين في المخيّمات دعاةَ السّلام ومحاربي الإرهابِ والمدافعين عن حقوق الإنسان؟! وإنّ ذلك الهولَ ـ وبعضَه يكفي ـ على يدِ هؤلاء الآثمين المحتلِّين الغاصبين المجرمين مدبّرٌ في تحدٍّ, جهير للقرارات الدَّولية واستطالةٍ, رعناء على مواثيق الشّرَف العالمية ونقضٍ, غير مبرَّر للعهود والمبادرات الإنسانية.

لكنها خلّة قد سيط من دمها فجَعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديل[2][2]

إنّنا نناشد باسم المسلمين الصائِمين القائمين المنظّماتِ العالميةَ والهيئات الدّولية والجمعيات الإسلاميةَ والإنسانية للتّحرّك العاجلِ الفورِيّ لوقف العدوانِ الوحشيّ المتغطرس الأرعَن في أرض فلسطين والأقصى، والالتزام بمواثيق شَرفٍ, دوليَّة تمنَع الظلمَ والعدوان، وتعمل على حماية العُزل الأبرياء الصائمين من إرهاب المعتدِين وعدوان الظالمين، مع تحقيق فحوَى القرارات والعهود الذي ضمِنت سلامتَهم ووحدة أراضيهم ومنع الظلمِ والاعتداء على مقدّسات المسلمين، بل والأقليّات المضطهدة في كلّ مكان.

أمّة الإسلام: إننا في مواجهةِ هذه المآسي اللاّفحة لنتطلّع بلهفٍ, إلى صلاحِ الأحوال واستتباب الأمن وفُشوّ الرخاءِ والاستقرار في بلاد الرّافدين الجريحة حيث الدّمار يلتهِم العجزَة والأطفال والنساء والرّجال، والأمَلُ أن تتولىّ أطيافُ البِلاد دفّةَ الأمورِ وانتظامَها سيادةً واستقلالاً في تجافٍ, للقِوى الظالمة والتدخّلات الغاشمة، فهل تنزع الأمّة الإسلامية وذلك وَشَلٌ من جِراحِها الثاعِبة زمامَ التغيير لتنقِذَ نفسَها وتستعيدَ عزّتها ومجدَها وتجنِّبَ الأجيالَ القادمة ذلَّ الدنيا وجحيمَ الآخرة.

هذا هو الرجاءُ والأمَل، وعلينا الصِّدق والعمل، وكان الله في عونِ العاملين المخلِصين لصلاحِ مجتمَعهم وعِزّ أمتهم.

اللهمّ اسلُك بنا سبيلَ المتقين الأبرار، واجعلنا من صَفوةِ عبادك الأخيار، ومُنَّ علينا جميعًا بالعِتقِ من النار، برحمتك يا عزيز يا غفّار.

أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

------------------------------------------------

1.  صحيح البخاري: كتاب الصوم (1903) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

2. من لامية كعب بن زهير في مدح الرسول

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وليِّ التوفيق والفَلاح، باسطِ النّعماء للشاكرين بالغدوّ والرّواح، تزكّت له القلوب فسعِدت بالطمأنينة والانشراح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً نستبين بها الحرامَ من المباح، وأشهد أنّ نبيّنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله إمام الجودِ والبذل والسماح، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبِه أولي التٌّقى والصّلاح، المسارعين في الخير كسواني الرّياح، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ التقوى خيرُ زاد في العواقِب، وكافيتُكم بإذن الله من شرّ كلّ غاسقٍ, وواقب، فاعمُروا بها أوقاتَكم قبل ذهابِ الفُرَص ودنوّ الآجال والغُصَص.

إخوةَ الإيمان، إنّ مما يجدُر بالصائم العنايةُ به والاهتمام فقهَ الصيام، فلنعطِف بكم ـ يا رعاكم الله ـ على طائفةٍ, من فقهِ الصيام، فمن ذلك معرفةُ المفطّرات التي تفسدُ الصومَ وتبطله.

ومنها مطلق الأكل والشرب عن طريقِ الفم أو الأنف لقول الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُم الخَيطُ الأَبيَضُ مِن الخَيطِ الأَسوَدِ مِن الفَجرِ ثُمَّ أَتِمٌّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ} [البقرة: 187]، والسَّعوطُ في الأنف بمنزلةِ الأكل والشّرب لقوله (صلي الله عليه وسلم): ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)) خرجه أبو داود والترمذي[3][1].

الثاني من المفطِّرات: ما كان بمعنى الأكلِ والشرب، كالإبَر المغذِّية التي تنوب عن الشرابِ والطعام، فإذا تناولها الصائم أفطر، وأما التي لا تغذِّي فلا تفطِّر إن شاء الله، سواءً تناولها عن طريق العروق أم العضَلات، ومثلُها القطرةُ في العين والأذُن فلا تفطِّر على الصحيح من قولي العلماء، والأحوَط أن يستعملَها ليلاً.

المفطِّر الثالث: الجماعُ في نهارِ رمضان، وإثمه عظيم، وفعلُه شنيع، ومن أتى ذلك لزِمَه مع القضاءِ الكفارة المغلَّظة، وهي عِتق رقبةٍ, مؤمنة، فإن لم يجِد فصيام شهرين متتابعين.

المفطِّر الرابع: إنزال المنيّ برغبةٍ, واختيار، كمن عمد إلى التقبيل واللَّمس ونحو ذلك فأنزَلَ، وإذا كان الإنزالُ عن احتلامٍ, فإنه لا يُفطِّر، وكذا مجرَّدُ التفكير لقوله: ((إن الله تعالى تجاوز لأمتي عمّا حدّثت به أنفسَها ما لم تتكلّم به أو تعمَل به)) خرّجه البيهقي بسند صحيح[4][2].

المفطّر الخامس: التقيّؤ عَمدًا لقولِه عليه الصلاة والسلام: ((مَن ذرَعه القَيءُ فليس عَليه قضاء، ومن استقاءَ عمدًا فليقضِ)) أخرجه أبو داود والترمذي[5][3]. ومعنى: ((ذرعه)) أي: غلَبه.

المفطِّر السادِس: إخراجُ الدّم بالحِجامةº لقوله (صلي الله عليه وسلم): ((أفطرَ الحاجِم والمحجوم)) خرّجه أحمد وأهل السنن[6][4]. أمّا خروج يسيرِ الدّم لتحليلٍ, أو لجرحٍ, ورُعافٍ, فلا يفطِّر.

المفطر السابع: نزول دمِ الحيض أو النفاس، فإنه يفطِّر ولو قبلَ الغروب بلَحَظات.

تلكم ـ رحمكم الله ـ أصولُ المفطِّرات، فصونوا ـ عباد الله ـ صومَكم عن النّقصان والبُطلان. ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنكم تستقبِلون العشرَ الأواسط من رمضان، عشرَ المغفِرة، فخذوا بأسبابِ الغفران من حُسن الصيام والقيام والمداومة على الأعمال الصالحة وتلاوةِ القرآن وملازمة التوبةِ والذِّكر والاستغفار والإلحاح بالدعاء، فإن الله سبحانه يحبّ الملحِّين في الدعاء.

ويجدُر التذكير في هذا الشهرِ الكريم بفريضةِ الزكاة، فهي قرينَةُ الصلاة في كتاب الله، فأدّوها طيّبةً بها نفوسكم.

رمضان ـ يا إخوةَ الإسلام ـ فرصةٌ لوحدَةِ الأمة على الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمّة، وتربية الشباب والأجيال على مَنهج الوسطية والاعتدال، وتربية المرأة على الحِجاب والعفاف والاحتشام والبُعد عن الاختلاطِ بالرجال، وإعزاز شعيرةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفاظ على أمنِ الأمة ورعاية مصالحها، فهل نحن مستفيدون من مدرستِه وناهلون من مَعين خيراته وبركاته؟! هذا هو المؤمَّل، وعلى الله وحدَه المعوَّل، وهو سبحانه المستعان.

تقبّل الله منّا ومنكم الصيامَ والقيام، وأدام علينا الخيراتِ في مستقبل الأيّام، إنه جواد كريم. ألا وصلوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين..

 

------------------------------------------------

1. سنن أبي داود: كتاب الطهارة (142)، سنن الترمذي: كتاب الصوم (788) عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/33)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407)، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150، 168)، وابن حبان (1054، 1078، 4510)، والحاكم (7094)، والنووي في شرح صحيح مسلم (3/105)، وابن حجر في الإصابة (5/685)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (328).

2. أخرجه البخاري في الطلاق (5269)، ومسلم في الإيمان (127) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

3. سنن أبي داود: كتاب الصوم (2380)، سنن الترمذي: كتاب الصوم (720) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/498)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676)، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).

4. أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: \"وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج\"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply