بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كم تصبح الحياة قاسية حين ينضب معين الأخوة، وتجف ينابيع الحب في الله، وإذا حلِّت الأنانية وحب الذات
محل الأخوة عند ذلك يعيش الفرد حياة نكدة، ويشعر بعزلة قاسية عن مجتمعه.
كثير من الناس يمارس ألوانًا من مفسدات الأخوة، فيتفنن في إبعاد الآخرين عنه، تارة يشعر بذلك، وتارة لا يشعر بذلك، فيعيش عزلة نفسية يتجرعها في الدنيا.
وانطلاقًا من هذا نحاول أن نتكلم عن مفسدات الأخوة في الله، ولكن قبل ذلك لا بد أن نقوم بجولة في رياض السنة لنقتطف بعض الأحاديث الثابتة عن الأخوة في الله، والحب في الله، ونزينها ببعض أقاويل سلف الأمة، وقبل ذلك يقول -سبحانه وتعالى-: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم...[10]}[سورة الحجرات]. وذكر من نعيم أهل الجنة المعنوي: {وَنَزَعنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِن غِلٍّ, إِخوَانًا عَلَى سُرُرٍ, مُتَقَابِلِينَ[47]}[سورة الحجر]. فإن الذي ينغص ويفسد جو الإخوة أن يكون في القلوب غلٌ وحقدٌ وحسدٌ، ينكد على الإنسان عيشته في الدنيا.
وذكر -صلى الله عليه وسلم- في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: [... وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجتَمَعَا عَلَيهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيهِ... ] رواه البخاري ومسلم. وفي الحديث القدسي: [قَالَ اللَّهُ -عز وجل- المُتَحَابٌّونَ فِي جَلَالِي لَهُم مَنَابِرُ مِن نُورٍ, يَغبِطُهُم النَّبِيٌّونَ وَالشٌّهَدَاءُ]رواه الترمذي وأحمد.
وفي الحديث القدسي الآخر يقول: [حَقَّت مَحَبَّتِي لِلمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّت مَحَبَّتِي لِلمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَحَقَّت مَحَبَّتِي لِلمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَحَقَّت مَحَبَّتِي لِلمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ] رواه مالك وأحمد.
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: [أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَريَةٍ, أُخرَى فَأَرصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيهِ قَالَ أَينَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ القَريَةِ قَالَ هَل لَكَ عَلَيهِ مِن نِعمَةٍ, تَرُبٌّهَا قَالَ لَا غَيرَ أَنِّي أَحبَبتُهُ فِي اللَّهِ - عز وجل - قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَد أَحَبَّكَ كَمَا أَحبَبتَهُ فِيهِ] رواه مسلم.
أما أقوال السلف:
فيقول محمد بن المنكدر -لما سئل ما بقي من لذته في هذه الحياة؟ - قال: "لقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم".
وقال الحسن: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا".
وسئل سفيان: ما ماء العيش؟ قال: "لقاء الإخوان". وقيل: "حلية المرء كثرة إخوانه". وقال خالد بن صفوان: "إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم"..
تأمل هذه الأقوال الجميلة: آيات الله، وأحاديث الرسول، وأقوال سلف الأمة، وانظر إلى الواقع يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها.. فمن الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضم هذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلك قال عمر: "لقاء الإخوان جلاء الأحزان".
إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصر الأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجها العظيمة؟!
مفسدات الأخوة:
هناك مفسدات كثيرة نذكر منها:
أولاً: الطمع في الدنيا بما في أيدي إخوانك: قال -صلى الله عليه وسلم-: [ازهَد فِي الدٌّنيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازهَد فِيمَا فِي أَيدِي النَّاسِ يُحِبٌّوكَ] رواه ابن ماجة. فلا شك أن الذي يتطلع لما في يدك لا تحبه، والذي يشعرك بالزهد في ما بين يديك تجله، وتجعل له تقديرًا لائقًا به، لذلك لا ينبغي للعاقل أن يتطلع لما في أيدي الناس.
وإذا ألمت بك مصيبة فاطلب مشورة أخيك، ولا تطلب منه حاجتك، فهو إن كان يعزك ويعرف قدرك فسينبري لمساعدتك، ولا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه.
ثانيًا: المعاصي، وتضييع الطاعات: فإذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أو التناصح والتذكير والتعليم فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوة القلب والملل حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: [المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لَا يَظلِمُهُ وَلَا يَخذُلُهُ وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ, بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثنَانِ فَفُرِّقَ بَينَهُمَا إِلَّا بِذَنبٍ, يُحدِثُهُ أَحَدُهُمَا]رواه أحمد.
لذلك ذكر ابن القيم -رحمه الله- في "الجواب الكافي": "من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه". لذلك تجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، فالمعاصي قطعت العلائقº لأنه قطع الصلة بالله، فانقطعت الصلة مع أحببته في الله.
وانظر وتفقد قلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج، راقب نفسك، حاسب نفسك.
أما أصحاب المعاصي والمنكرات فعلائقهم مادية تراهم في يوم في ضحك وجلسات وسفرات، ثم تنقلب إلى عداوة لأنها ما بنيت على تقوى، ثم يكون لهم الخزي والعار يوم القيامة: {الأَخِلَّاءُ يَومَئِذٍ, بَعضُهُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ إِلَّا المُتَّقِينَ[67]}[سورة الزخرف]. أخوة في الله في الدنيا، وتواصل في الجنان {... إِخوَانًا عَلَى سُرُرٍ, مُتَقَابِلِينَ[47]}[سورة الحجر].
ثالثًا: عدم التزام الآداب الشرعية في الحديث: فقد ترك لنا النبي منهجًا راقيًا، يبني علاقاتنا، ويزكي نفوسنا، ويهذب مشاعرنا، ويصفي علاقاتنا، من ذلك:
اختيار أطايب الكلام في محادثة الإخوان: قال -سبحانه-: {وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[53]}[سورة الإسراء]. يسميه الناس الآن الاصطياد في الماء العكر، يلقي كلمة ما قصد بها شراً، لكن تحتمل معاني، هذه فرصة الشيطان: يقصدك.. تنقصك.. يرمي إلى كذا.. هل يقصد كذا؟
لذلك وجب على المتحابين أن ينتقوا أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الطعام، وقديمًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [... الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ... ]رواه البخاري ومسلم. وقال -سبحانه- موجهًا إلى خفض الصوت مع الإخوان: {... وَاغضُض مِن صَوتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ[19]}[سورة لقمان].
تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أن تتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.
وبعض الناس -حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب- لم يتعود على الكلام المهذب، ديدنه رفع الصوت، والسباب والشتم، والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات، ويقضي على العلاقات.
رابعًا: كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفية علائقنا: الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام: لذلك قال أحد السلف "إن الرجل ليحدثني بالحديث أعرفه قبل أن تلده أمه، فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ".
وقال الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعلـه أدرى بـه
أدرى بالحديث ومراميه، ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماع.. بينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا.. أنا مر عليّ هذا.. كأنه يقول: أنت جاهل، فقدرك أن تكون مستمعًا!
خامسًا: المبالغة في المزاح إلى حد الجرأة خاصة مع أهل الفضل: لذلك قالوا: "كثرة المزاح تجرأ السفهاء، وتسقط الهيبة" مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها.. لا يا أخي، لم يكن النبي بهذا الشكل، كان مزحه خفيفًا، وملائمًا، وكثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة، أو تعليقة سخيفة، أليس كذلك؟
سادسًا: المراء والجدال: قد تنقطع العلاقة المتينة بسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس، وبتغريرٍ, من الشيطان يدافع عن عقيدته ووطنه، وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته وكبريائه، بسبب بروز طبائع العناد والمكابرة، فلا يبقى معها مكان للأخوة، ولا تقدير للعِشرة.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: [إِنَّ أَبغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدٌّ الخَصِمُ]رواه البخاري ومسلم. كثير الخصومة.. افتعال المعارك الكلامية.. حب الجدال والمناظرة وإظهار الرأي.. هذا أبغض الناس إلى الله.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: [مَا ضَلَّ قَومٌ بَعدَ هُدًى كَانُوا عَلَيهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ... ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
إذن من علامات الخذلان وضياع الهداية أن يؤتى الإنسان الجدل، كأنه ينتصر لقضية وهو ينتصر لنفسه، وكل هذه الأدوات، وهذه الحجج موظفة لنفسه.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق للجاهل والمبتدع، فلا بأس به، لكن إذا خرج الجدال عن إطاره المشروع، وبدأت حظوظ النفس تتسلل، وظهر لك أن الخصم جدلي مقيت لا يريد حقاً، إنما يرد مشاغبة، فانسحب بلطف، فالجدال الذي من أجل إظهار النفس لا طائل من ورائه، ولا شك أنه دليل على ضعف الإيمان، وقلة التربية.
فهذا الجدال قد يذهب بالأخوة يرتفع صوته ويشق على أخيه.. لماذا؟ يريد أن يثبت أمام الناس أنه أقوى حجة، فيقطع علاقة متينة لأنه أورث الجدل.
سابعًا: من مفسدات الأخوة: النجوى: أشياء بسيطة في ظاهرها لكن لها معانٍ, عميقة لمن يفكرون في بناء العلاقات الصحيحة، المؤسسة على كتاب الله، وسنة رسوله: {إِنَّمَا النَّجوَى مِنَ الشَّيطَانِ لِيَحزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا... [10]}[سورة المجادلة].
ما معنى النجوى؟ يفصلها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: [إِذَا كُنتُم ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُحزِنُهُ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
قال العلماء: إن الشيطان يوسوس له ويقول له: إنهم يتكلمون فيك، ويستهدفونك في كلامهم، فاشترط العلماء طلب الإذن قبل المناجاة إن كان هناك حاجة. بل قال بعضهم: إذا ظهرت على الأخ أمارات الريبة، فأبن له أطراف الموضوع إن كان سائغًا، حتى تطيب نفسه بأنه ليس له علاقة بالحديث، وأنه لن يذكر من بعيد، ولا قريب.. آداب نبوية لمن أراد أن يبني الأخوة على أسس صحيحة، وهكذا الأخ ينبغي عليه إذا ظن به ظناً أن يستعيذ بالله من الظنون السيئة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
ااااا
11:33:22 2022-04-04