بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، يعد كثير من الناس الإجازة متنفساً لهم بعد عناء الدراسة، ورحلة الامتحانات، ويختلفون في قضاء أوقاتهم تفاوتاً عظيماً كما بينهم من التفاوت في العقول والثقافات والأرزاق ونحو ذلكº لكن الإجماع منهم ينعقد على شيء من الترويح عن النفس، والتوسعة على العيال، والبحث عن المتنزهات المناسبة القريبة في مدينتهم، أو البعيدة عن طريق السفر إليها، وكثير أولئك الذين يفضلون الضرب في مناكب الأرض، ويرون في الأسفار متنفساً يروحون به عن أنفسهم ويعبرون به عن فرحتهم.
وهكذا يسيرون في أرض الله متفكرين ومتدبرين ومتأملين، في عجيب المخلوقات وبديع الكائنات، مما يزيدهم معرفة بربهم ويقيناً بأن لهذا الكون مدبراً لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
معاشر المسلمين، ومع دعائنا بالحفظ والرعاية للمتنزهين والمسافرين إلا أنا ندعوهم إلى معرفة شيء من آداب الرحلة والنزهة والسفر.
وحديثي اليوم مع الذين اختاروا هذه البلاد وما شابهها، أما الذين آثروا السفر والنزهة في بلاد الكفار فليس لي معهم كلام هذا اليوم (وقد أفردتهم بخطاب سابق أسأل الله أن ينفعهم به).
معاشر المسلمين، ولعلي أبادر إلى شيء من الآداب فأقول: إن السفر والنزهة في هذه الآونة يختلف عنه في أزمان مضت، فقد مهدت الطرق وجرت عليها العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاؤوا أو تقلهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا.
كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتم في شهور بشق الأنفس أضحى يتم في أيام قصيرة بل ساعات قليلة، وبجهود محدودة.
ومع هذه الراحة الميسرة إخوة الإسلام إلا أن الأخطار المبثوثة في البر والبحر والجو لم تنعدمºبل إنها في ازدياد عن ذي قبل، مما يؤكد الأدب الأول وهو الاحتماء بالله وارتقاب لطفه واللجوء إليه وعدم مبارزته بالمعاصي ونحوها من المقاصد السيئة والأعمال الرديئة، وهذا أمر يغفل عنه كثير من المتنزهين والمسافرين، فتجد من البعض إعراضاً عن مراقبة الله - تعالى -، بل إن بعضهم ـ ولا قوة إلا بالله ـ يخيل إليك عند النظر في أفعاله أنه في نجوة من الحساب أوقد أفلت من قبضة الكريم - سبحانه -، ولذا تجد القليل منهم من يوفق، بل إن بعضهم لتقدر عليه الأقدار المؤلمة، ثم يختم له بالخاتمة السيئة والعياذ بالله.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، أن يستحضر النية الطيبة بالسفر والنزهة بأن ينوي التقوِّيَّ على طاعة الله - تعالى -، والتوسعةَ على العيال، وإدخالَ السرور عليهم، وإن حصل له أن يزور أحد الحرمين الشريفين، فهو أولى وأكمل فيعتمرَ أو يزورَ مسجد النبي ليحصل بذلك على الأجر العظيمº وليكون سفرُه سفرَ طاعةٍ, من أحسن أنواع الأسفار.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، الاستخارة في أمر نزهتك وسفرك فإن الإنسان لا يدري عن أمره هذا؟؟ أهو خير له؟؟ أم فيه عطبه؟؟.
وقد عوض النبي أمته عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام بهذه الاستخارة.
ومن عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي ويخرج من مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من ديونهم، ويرد الودائع، ويكتب وصيته ويوكل من يقضي دينه ما لم يتمكن من قضائه ويترك لأهله ما يلزمهم من نفقة ونحوها إن لم يكونوا معه.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، أن يستعد للنزهة أو السفر استعداداً كاملاً، يأخذ فيه الاحتياطات اللازمة، ويهتم بجوانب السلامة في تنقلاته، من تفقد الإطارات، والتزام السرعة المقدرة له في الطرق، ونحو ذلك، وهذا وإن كان أمراً دنيوياً، والحفظ بيد الله إلا أنه أمر شرعي بالنسبة للولي، لا يجوز له أن يقصر فيه لأنه راعٍ, في بيته وهو مسؤول عن رعيته، وهذا أمر يحصل التقصير فيه كثيراً، ويصاب كثير من الناس في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، يستحب للمسافر أن يختار يوم الخميس لسفره لحديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: (قل ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج في سفر إلا في يوم الخميس). رواه أبو داود.
والسنة أن يخرج باكراً، لحديث صخر بن وداعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها))، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجرًا فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله، أخرجه أبو داود والترمذي.
ونهى رسول الله عن سفر الإنسان وحده، لحديث عبد الله بن عمر رضي عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)) رواه البخاري.
ثم يودع الإنسان أهله وأقاربه فيقول: ((استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)) ويقولون هم: ((نستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)).
ولا ينسى في أول سفره دعاء السفر: ((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)).
وتعرض للمتنزه والمسافر أمور كثيرة، ولكل منها أدعية مخصوصة، منها ما قدمنا من ركوب الدابة وكذلك التسبيح والتكبير عند الارتفاع والانخفاض ونحو ذلك مما يدعونا إلى التأكيد على اصطحاب أمرين مهمين هما كتاب في الأذكار لعين الإنسان على أن يكون متصلاً بالله - تعالى -كما نؤكد على اصطحاب كتاب فقه ميسر لكي يعرف المتنزه الأحكام التي تعرض له.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، عند اختيار المكان لجلوس العائلة لا بد أن يكون ساتراً لهم ليتمكنوا من أخذ راحتهم والتعبير عن فرحتهم دون مبالغة في التشدد أو التساهل.
والناس في هذا متفاوتون، فمنهم من يتساهل جداً ويأخذ راحته وأولاده في مكان إنما هو من نواصي الطرقات ويراه فيه كل من مرّ أو جاء.
والبعض الآخر لا يجد المكان إلا بشق الأنفس ويكون في معزل عن البشر ومع ذلك لا يأخذ راحته، ولا يأذن لمن معه أن يأخذ راحته، وهذه طبائع في الناس لا بد أن يغيروها بما يوافق الشرع.
وما بين الطرفين المذكورين هو الوسط الذي اختاره الله لنا.
وعند اختيار المكان والنزول فيه لا بد أن يقول كل واحد ما ورد في نزول المنزل ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) فإنه إذا قال ذلك حفظ بإذن الله هو وذريته من العقارب والهوام ونحوها.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، عدم إيذاء المتنزهين الآخرين، وكثير من الناس إذا خرج من حدود بلده أو خرج إلى موقع رحلته، خرج هو أيضاً عن طوره وتبخرت جميع الأخلاق والآداب وكأن النزهة لا تحصل إلا بهذا الأسلوب القبيح، فتجده يؤذي الناس في المتنزهات والأماكن العامة برفع صوت الغناء أو بالقيادة المتهورة أو بالتدخين في أماكن لا يسمح بالتدخين فيها، أو يجاهر بمعصية ليستفز بها المشاعر ونحو ذلك من الإيذاء المتعمد الذي يفعله كثير من السوقة الأرذال.
وصور أخرى من إيذاء الناس تحصل من أناس عقلاء مع الأسف ومن عائلات محترمة تظهر في التساهل في رمي المخلفات في أماكن الجلوس العامة وإفساد الطريق أو الظل النافعين، أو موارد المياه العذبة ونحو ذلك، وقد يحصل هذا من الأطفال لكن دون نهي من الأهل، وهذا تفريط لا يجوز، وهو نوع من الإيذاء المحرم كما قال: ((اتقوا اللاعنين: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم)) رواه مسلم.
وما أجمل أن يظهر المسلم بصورة الواعي الذي لا يفكر في نفسه فقط بل يفكر في نفسه وفي من يأتي بعده من الناس، والذي يقيم واجب الجوار في المتنزهات العامة فلا يؤذي مشاعر من يجلس بجواره، بل يبادر إلى الإحسان إلى الجار بالهدية الطيبة من الطعام أو من الكتيبات والأشرطة ونحوها.
معاشر المسلمين، ومن الآداب أيضاً، عدم الغفلة عن الواجبات الشرعية وعلى رأسها الصلوات الخمس في أوقاتها، ويجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفي السفر، لكن لا يجوز أن تؤخر الصلاة عن وقت إحداهما، ويفرط كثير من الناس في الصلوات في أوقاتها في رحلاتهم وأسفارهم، وقد قال الله - تعالى -: (فَوَيلٌ لّلمُصَلّينَ الَّذِينَ هُم عَن صَلَـاتِهِم سَاهُونَ [الماعون: 4، 5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد:
فيا عباد الله، ومن الآداب أيضاً، اجتناب المنكرات، نجد البعض يعطي نفسه إجازة دينية في أسفاره، فبمجرد خروجه من بيوت قومه يبدأ بالإعراض عن الله، وهذا ليس من دين الإسلام في شيء (ليس في الإسلام إجازة دينية) الإسلام منهجه غير هذا، الإسلام منهجه ( وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ ) [الحجر: 99].
وإن من المنكرات التي يقع فيها البعض:
حضور الحفلات الغنائية والتي بدأت تنتشر بحجة السياحة، ومن المعلوم أن سماع الغناء والموسيقى محرم أشد التحريم، ويعد صاحبه فاسقاً، ومن يدل زوجته وذريته لمثل هذه المواضع، فهو لهم غاش، وعليه إثم معصيته وإثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً، وبدل أن يعلمهم الولي كل خلق كريم يدلهم على كل منكر أثيم، وهذا ولا شك من الخذلان الذي يبتلى به بعض الأولياء هداهم الله.
ويمكنك أخا الإسلام أن تتنزه أنت وأولادك، وأن تنال قسطاً من السياحة المباحة وتبتعد عن أماكن الحفلات الغنائية، والمسارح الهابطة.
ومن المنكرات أيضاً: التساهل في مسألة الحجاب والستر بحجة السفر والسياحة، فيحصل من العوائل المعروفة بالمحافظة الشيء الكثير من التساهل هناك، من تبرجٍ, بخفية، واختلاطٍ, واحتكاكٍ, بالرجال في الأماكن العامة والحدائق والمنتزهات دون تحفظ أو احتراز.
ومن المنكرات أيضاً: السهر ولو كان في مباح ثم تضييع صلاة الفجر، ويستحسن كثير من الناس السهر في أسفارهم ومنتزهاتهم بحكم شدة الحر في النهار، لكن نقول هذا لا إشكال فيه إذا كان في مباح ولم يحصل فيه تضييع لإحدى الصلوات كالفجر أو الظهر، فإن كان في معصية أو يحصل به تضييع الصلاة فهو سهر محرم لا يجوز.
ومن المنكرات أيضاً: التساهل في مسألة الأسواق والدخول فيها لغير حاجة، وهي من أبغض البقاع إلى الله كما صح الخبر بذلك عن رسول الله وتتضاعف مفاسدها وكراهية دخولها للذي يأتيها لتزجية الوقت والتمشية دون حاجة ضرورية أو نية شرائية.
إخوة الإسلام، والمنكرات التي يقع فيها المتنزهون مع الأسف كثيرة يصعب حصرها، والبعض منها يستحي الإنسان من توصيفه، وفيها من البشاعة الشيء الكثير، لكن نقول للمتنزهين (اتقوا الله) (اتقوا الله) (اتقوا الله) في أنفسكم، واعلموا أن متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد