بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى -، والتمسك بكتابه فهو حبل الله المتين، من استمسك به نجا ومن تركه ضل ولم تجد له وليا مرشدا قال الله - تعالى -: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة 185].
إن رمضان هو شهر القرآن، لقد أنزله الله- تبارك وتعالى -إيذانا بانبثاق نور جديد للبشرية التي عاشت ردحا من الزمان بعيدة عن عقيدة التوحيد وملة أبينا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، لقد كان العربي قبل نزول القرآن كتل لحم تسير في الصحراء لا هم له إلا شويهاته يعيش من أجلها ويموت في سبيلها، لقد هانت عليه نفسه لدرجة أنه يصنع صنما من تمر يعبده من دون الله فإذا جاع أكله.
وفي الحديث عن عياض بن حمار: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) حينئذ نزل القرآن، ليهدي تلك القلوب التائهة، والعقول الحائرة، والنفوس المريضة، لقد حول هذا القرآن أولئك الأعراب من رعاة الغنم إلى قادة للأمم، فكم هي نعمة الله علينا - سبحانه وتعالى -: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل ولفي ضلال مبين)، [آل عمران 164] (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) [البقرة 1].
وقد وصفه الله الذي أنزله على عباده بصفات التزكية والتعظيم، ونزهة عن كل نقص وعيب فوصفه - سبحانه - بأنه نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وهو شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وهو تذكرة لمن يخشى الله، وبشارة لأولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجر كبيرا، والذين ما أن يستمعوا إلى كتاب ربهم وكلامه حتى تقشعر له جلودهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، كما أنه مبارك وعجيب يهدي إلى الرشد، ولو أنزل على الجبال الصم الصلاب، لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية رب الأرباب - سبحانه - إنه كتاب لا يمكن أن يتطرق إليه الباطل ولا يمكن للإنس والجن فضلا عن أن يكون أحدهما أن يأتي بمثل هذا القرآن.
وإن كتابا يحمل كل هذه الصفات والنعوت لجدير أن يكون له من التأثير والنفاذ إلى القلوب ما لا يملكه أي كتاب ولا أي كلام حتى الذين كانوا يقعدون بكل صراط ويصدون عن سبيل الله لم يستطيعوا إنكار إعجابهم بالقرآن الكريم.
روى ابن إسحاق في السيرة النبوية أن أبا سفيان قبل إسلامه وأبا جهل بن هشام المخزومي، والأخنس بن شريق خرجوا ذات ليلة متفرقين إلى غير موعد إلى حيث يستمعون من رسول الله وهو يتلو القرآن في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، ولا أحد منهم يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر، تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض، لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة التالية، عاد كل منهم إلى مجلسه لا يدري بمكان صاحبه فباتوا يستمعون للرسول حتى طلع الفجر، فتفرقوا، وجمعهم الطريق فتلاوموا وانصرفوا على ألا يعودوا، لكنهم عادوا فتسللوا في الليلة الثالثة وباتوا يستمعون إلى القرآن.
لقد أدهشهم كلام الله ولم يستطيعوا أن يعتقوا أنفسهم من أسره.
أما الصحابة رضوان الله عليهم فلهم شأن آخر مع كتاب الله - عز وجل -، لقد تلقفوا القرآن تلقف الإبل إليهم يقرأونه ويتدبرونه ويعملون به، عن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس - رضي الله عنهما - وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع، وعن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر الصديق: هكذا كنا.
وعن عمر بن الخطاب: أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف، فبكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف.
إن الحياة مع القرآن وتدبره نعمة لا يعرفها إلا أولئك الذين تذوقوها، نسأل الله أن يجعلنا منهم: إنها نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
إنك وأنت تتجول في كتاب الله الكريم من آية إلى آية ومن سورة إلى سورة تعيش مشاهد وأحداثا، فتقرأ: إن الله سميع بصير [المجادلة 1] وتقرأ: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة [المجادلة 7]وأنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منا وما ينزل من السماء وما يعرج فيها [سبأ 2]، فإن المسلم وهو يسمع هذه الآيات يصبح في قلبه حساسية تجاه رقابة الله لأعماله الظاهرة والباطنة، فيحرص على نظافة هذه الأعمال والمشاعر ليراها الله نظيفة فيرضى عنها ويثيب عليها.
وحيث يقرأ: هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات 58]، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. [الرعد 26]
حينئذ لم يعد القلق على الرزق يشغلهم ولم يعد يحس حين يتعرض لأي أذى أو اضطهاد أن البشر هم الذين يتصرفون في رزقه أو قوته أو أمنه أو راحته.
إننا نحن المسلمين أحوج إلى تدبر القرآن وتدارسه وتعليمه أبناءنا، إنك تفرح وأنت تسمع أن أسرة من الأسر في هذا البلد الأب يحفظ القرآن، وثلاث أبنائه يحفظون القرآن، وثلاث من البنات كذلك وبقية الأولاد يحفظون الجزء ما بين الرابع والخامس عشر إن الكل يتمنى أن لو كان أبناؤه بهذه المثابة وأسرته كهذه الأسرة، خير من أسرة أمام الشاشة بالساعات الطوال حتى إذا ما جاء القرآن رأيتهم يتأففون، (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [الزمر 45]وقد يبلغ البعض هجر سماع القرآن الكريم وقراءته، أو هجر العمل به، أو هجر تحكيمه أو التحاكم إليه أو هجر الاستشفاء والتداوي به من أمراض القلوب وأدوائها.
وهذا كله داخل في شكوى الرسول من هجر القرآن الكريم: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذ هذا القرآن مهجوراً). [الفرقان 30]
أخي: أيها المسافر في هذه الحياة، لقد أدرك الكفار أن عزة المسلمين في التمسك بهذا القرآن، فبدأوا ينفثون سمومهم ليجعلوا منه أثرا رجعيا متخلفا، أو لجعله رمزا فقط لا يعمل به، ولا تنفذ توجيهاته: يقول غلادستون رئيس وزراء بريطانيا سابقا: ما دام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق.
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر: إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا يا حي يا قيوم أقول قول هذا..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
القائل: ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر.. وأحدثكم لأربعة نفر: بعد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا هو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)).
أما بعد:
فإن الإنفاق سبيل المؤمنين المحلفين بالقران وعدهم الله جنة عرضها السماوات والأرض كما قال - تعالى -: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء. [آل عمران 134]
وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: انتهيت إلى النبي وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة قال: فجئت حتى جلست فلم اتقاءّّ حتى قمت فقلت يا رسول الله: فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرين أموالا إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل هم))، وجاء في الحديث أنه: ((ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الأخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا)).
والمسلم موعود بالخلف ممن إنه من رب العالمين قال - تعالى -: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه [سبأ 39]وقال: ((ما نقصت صدقة من مال)).
وقال: ((إن الله - عز وجل - يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين، قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)) رواه مسلم.
أخي الكريم: يا من علمناه باذلا ماله في الخير، هل تذكرت معنى حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وفيه: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))، أخي الكريم، لقد جنى الكفار أموالا طائلة لنشر دينهم ومبادئهم، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((بيننا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة (أو هي الأرض التي بها حجارة سود كثيرة) فإذا شرجة من تلك الشراج (الشرجة: مسايل الماء في الحرار) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له يا عبد الله، ما اسمك، قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له، يا عبد الله لم تسألني عن اسمي، فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها، قال: أما إذا قلت هذا، فإني نظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وأكل أنا وعيالي ثلثا، وأراد فيها ثلثه)).
أخي الكريم: لقد جنّد الكفار من اليهود والنصارى أموالا مذهلة لنشر دينهم ومبادئهم المخرفة وأفكارهم عن طريق الإذاعة والتلفزة والمراسلات وغير ذلك فقد أنفق النصارى اثنان وعشرون مليون دولار مع مدرسة تنصرية في بلد عربي، وانفق على مؤتمر للمنصرين واحدا أكثر من واحد وعشرين مليون دولار وجمع اليهود تبرعات تحت شعار (قاتلوا المسلمين) وذلك في فرنسا، فجمعوا ألف مليون فرنك خلال أربعة أيام، وهذا وهم موعودون بالحسرة كما قال الله - تعالى -: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها فثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [الأنفال 36].
فكيف بمن ينفق ماله في سبيل الله بل في خدمة كتاب الله، خصوصا ونحن نعلم أيها الأخوة الكرام أن الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالطائف تقوم بأنشطة خيرية كثيرة، وما من أحد منا لا وقد انتفع من برامج هذه الجمعية أو ولده أو ابنته أو إحدى قريباته والعاملون فيها نحسبهم من الثقات المخلصين والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا، وكثير ممن يعمل في هذه الجمعية من المحتسبين، كما أن هذه الجمعية تقوم بأعمالها على نفقات المحسنين من أمثالكم الذين ما فتئتم تقدمون كل دعم لها، وهاهم اليوم يلتمسون منكم دعما سخيا، تحتسبونه عند الله - تعالى -الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، وتترقبون أنتم دعاء الملك بالخلف ألا وصلوا..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد