بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اصطفانا من بين الخليقة لجوار بيته، واختصنا من بين الأمم بخدمة ضيوفه أحمده - سبحانه - وأشكره على هذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فأوصيكم ياجيران الحرم بخير زاد أوصى به العليم الخبير - سبحانه - فقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِي يَاأُولِي الأَلبَابِ}(1).
حديثي اليوم إلى أهل مكة إلى من اصطفاهم الله وكرمهم بجوار بيته وإلى كل من شرفه الله بخدمة ضيوفهº حديثي اليوم عن التجارة، فإلى كل قاعد في بيته وإلى كل نائم في سربه أقول له هذا الموسم وهنا التجارة الرابحة فكيف تعرض عنها؟ موسم الحج موسم يسعى فيه الغني والفقير والذكي والبليد وراء الكسب فأين أنت منهم؟ يرد الناس أفواجاً إلى مكة لاغتنام الموسم، وأنت نائم في بيتك متدثر بلحافك! º التجارة التي أقصدها معاشر المصطفين لخدمة ضيوف الرحمن ليست تجارة الدرهم والدينار وإنما تجارة الحسنات تجارة الرفعة في الدرجات تجارة ثمنها جنة عرضها الأرض والسمواتº هي تجارة لا تتعارض مع تجارة الدرهم والدينار ومن جمع بينهما وهو الواجب عليه والمؤمل فيه فقد جمع بين خيري الدنيا والآخرةº أول مكونات بضاعة هذه التجارة الإكرام لضيوف الرحمنº فالرجل منا لا يرضى لمن يقوم على خدمة ضيوفه ألا أن يكرمهم، فكيف بضيوف الملك الديان، اترضى لضيوفك أن ينزلوا في أماكن ضيقة غير مهيأة؟ أتضع لضيوفك فرش قديمة أو منتنة؟ أترضى أن يضيع ضيف من ضيوفك ولا تستنفر طاقتك للبحث عنه؟ أترضى أن تقدم لضيوفك طعاماً بأبخس الأثمان؟ لا شك أن الإجابة علىهذه الأسئلة ومثيلاتها هي لا بالطبع، فضيف الله أولى بالإكرام وأقل درجة في ذلك تطبيق التوجيه النبوي الكريم الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ, عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَو قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبٌّ لِنَفسِهِ))(2)، ومن مكونات هذه التجارة الرحمة فديننا يقوم على الرحمة ومن لا يرحم لا يرحمºفهل علمتم يا من اصطفاكم ربكم وخالقكم لخدمة ضيوف بيته أن الواحد منا يستطيع أن يكفر ما مضى من ذنبه في هذا الموسمº أخرج البخاري عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((غُفِرَ لِامرَأَةٍ, مُومِسَةٍ, مَرَّت بِكَلبٍ, عَلَى رَأسِ رَكِيٍّ, يَلهَثُ قَالَ كَادَ يَقتُلُهُ العَطَشُ فَنَزَعَت خُفَّهَا فَأَوثَقَتهُ بِخِمَارِهَا فَنَزَعَت لَهُ مِن المَاءِ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ))(3).
فهذه امرأة زانية بغي رحمت كلباً فغفر الله لها زناها فكيف بك إذا رحمت عبداً مؤمناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وهو ضيفاً من ضيوف الرحمن، وأنت كم عندك من الذنوب تستطيع تكفيره برحمة ضيف من ضيوف الرحمن قد شاب شعره ورق عظمه فتحمل عنه متاعه، أو تدله على طريق سكنه إن كان تائهاً أو تحمله معك في سيارتك وتوصله إلى قصده مجاناً لوجه الله واسمع لبشرى من خير الورى يوم أن يقول: ((المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لَا يَظلِمُهُ وَلَا يُسلِمُهُ مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ, كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ))(4).
فلا إله إلا الله كم من حاجة لك عند الله من حوائج الدنيا والآخرة فإذا كان الله في حاجتك من ذا الذي يمنعك إياها، ثم تخيل يوم أن يرفع ذلك الشيخ الكبير أو المرأة العجوز أكفهم إلى الله بالدعاء لك بقلب صادق كم من السعادة قد تنالها في الدنيا والآخرة والتي والله لو أنفق غيرك الملايين لم يحز عليها ولا تنسى أنها دعوة من ضيف الرحمن، معاشر من اصطفاهم ربهم وخالقهم لخدمة ضيوفه إذا احتاج أحدنا للمال وكان عنده رصيد في المصرف فماذا يفعل؟ يدخل البطاقة في الصراف فيحصل على المال أما إذا لم يكن لديه رصيد فلن يخرج له شيئاً فهل أرشدك إلى طريق تجعل لك به رصيد عند ربك - جل وعلا - يفيدك بإذن الله في أوقات الضيق والأزمات الاخلاص في الأعمال الصالحة ومن بينها وأهمها في هذا الوقت خدمة ضيوف الرحمن أتريد دليلاً على ذلك؟ استمع لذلك من صحيح البخاري عَن ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((خَرَجَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ, يَمشُونَ فَأَصَابَهُم المَطَرُ فَدَخَلُوا فِي غَارٍ, فِي جَبَلٍ, فَانحَطَّت عَلَيهِم صَخرَةٌ قَالَ فَقَالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ, ادعُوا اللَّهَ بِأَفضَلِ عَمَلٍ, عَمِلتُمُوهُ فَقَالَ أَحَدُهُم اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ فَكُنتُ أَخرُجُ فَأَرعَى ثُمَّ أَجِيءُ فَأَحلُبُ فَأَجِيءُ بِالحِلَابِ فَآتِي بِهِ أَبَوَيَّ فَيَشرَبَانِ ثُمَّ أَسقِي الصِّبيَةَ وَأَهلِي وَامرَأَتِي فَاحتَبَستُ لَيلَةً فَجِئتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ قَالَ فَكَرِهتُ أَن أُوقِظَهُمَا وَالصِّبيَةُ يَتَضَاغَونَ عِندَ رِجلَيَّ فَلَم يَزَل ذَلِكَ دَأبِي وَدَأبَهُمَا حَتَّى طَلَعَ الفَجرُ اللَّهُمَّ إِن كُنتَ تَعلَمُ أَنِّي فَعَلتُ ذَلِكَ ابتِغَاءَ وَجهِكَ فَافرُج عَنَّا فُرجَةً نَرَى مِنهَا السَّمَاءَ قَالَ فَفُرِجَ عَنهُم وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِن كُنتَ تَعلَمُ أَنِّي كُنتُ أُحِبٌّ امرَأَةً مِن بَنَاتِ عَمِّي كَأَشَدِّ مَا يُحِبٌّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ فَقَالَت لَا تَنَالُ ذَلِكَ مِنهَا حَتَّى تُعطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ, فَسَعَيتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعتُهَا فَلَمَّا قَعَدتُ بَينَ رِجلَيهَا قَالَت اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَقُمتُ وَتَرَكتُهَا فَإِن كُنتَ تَعلَمُ أَنِّي فَعَلتُ ذَلِكَ ابتِغَاءَ وَجهِكَ فَافرُج عَنَّا فُرجَةً قَالَ فَفَرَجَ عَنهُم الثٌّلُثَينِ وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِن كُنتَ تَعلَمُ أَنِّي استَأجَرتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ, مِن ذُرَةٍ, فَأَعطَيتُهُ وَأَبَى ذَاكَ أَن يَأخُذَ فَعَمَدتُ إِلَى ذَلِكَ الفَرَقِ فَزَرَعتُهُ حَتَّى اشتَرَيتُ مِنهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا عَبدَ اللَّهِ أَعطِنِي حَقِّي فَقُلتُ انطَلِق إِلَى تِلكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَكَ فَقَالَ أَتَستَهزِئُ بِي قَالَ فَقُلتُ مَا أَستَهزِئُ بِكَ وَلَكِنَّهَا لَكَ اللَّهُمَّ إِن كُنتَ تَعلَمُ أَنِّي فَعَلتُ ذَلِكَ ابتِغَاءَ وَجهِكَ فَافرُج عَنَّا فَكُشِفَ عَنهُم)) (5).
وأنت أخي الحبيب نعم أنت إذا كنت ممن خدمت ضيوف الرحمن مخلصاً لله ثم نزلت بك مصيبة أو بلاء فارفع يديك إلى الكريم وقل يا رب إني خدمت ضيوفك في موسم حج عام ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف اللهم إن كان هذا خالصاً لجلال وجهك فافرج عني ما أنا فيه وثق تماماً أن الكريم سيفرج عنك، ياجيران الحرم لما لا نحرص أن يعود الحاج إلى بلده بالهداية إلى جوار الهدايا بدلاً من أن يعود بالهدايا فقط، و والله أقسم غير حانث أنه لو تم استغلال موسم الحج على الوجه الأمثل في الدعوة إلى الله لتغير وجه العالم الإسلامي بأكمله. كما أود أن أنبه أيها الأحبة في الله أن أمن الحجيج أمانة في أعناقنا جميعاً وليس هو مسؤولية رجال الأمن فقط فإذا رأى أي واحد منا ما يرتاب فيه أو يظن أنه يسعى للتأثير على أمن الحج والحجيج فليسارع بإبلاغ الجهات الأمنية عن ذلك ويحتسب أجره عند الله في إنقاذ الموسم مما يكدره. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} (6).
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ولنربي أولادنا على أن خدمة الحجيج هي واجب علينا وشرف لنا، ولا نربيهم على كم هو المال الذي يستطيع الإنسان كسبه في الحج، لنعلمهم بالقول والعمل أن أهل هذه البلد الحرام يجب عليهم أكثر من غيرهم التمسك بتعاليم هذا الدين في المظهر والمخبر لأنهم قدوة لملايين المسلمين.
ألا واعلموا أن بين يديكم أياماً عظيمة هي أيام العشر الأول من ذي الحجة والتي يقول فيها رسولن - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيامٍ, العملُ الصالحُ فيها أحبُ إلى الله من هذه الأيامِ)) -يعني أيام العشر - قالوا: يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرجَ بنفسهِ ومالهِ فلم يرجع من ذلك بشيء)).
فاحرص أخي الحبيب على اغتنامها وأكثر فيها من الصيام وتلاوة القرآن والذكر، ومن كان في خدمة الحجيج فليستحضر النية بأنه إنما يخدمهم لكونهم ضيوف الرحمن يبتغي بذلك وجه الله فهي عبادة جليلة، ولا يمنعه ذلك من كثرة ذكر الله أثناء عمله.
واعلم أخي الحبيب رحمني الله وإياك أن مما استحب لك في نهاية هذه العشر هو الأضحية وهي خير من أن تتصدق بثمنها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا عَمِلَ ابنُ آدَمَ يَومَ النَّحرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ - عز وجل - مِن هِرَاقَةِ دَمٍ, وَإِنَّهُ لَيَأتِي يَومَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظلَافِهَا وَأَشعَارِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ - عز وجل - بِمَكَانٍ, قَبلَ أَن يَقَعَ عَلَى الأَرضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفسًا)) أخرجه ابن ماجة، كما يستحب لمن نوى الأضحية أن لا يأخذ من شعره أو ظفره لما أخرج الإمام مسلم عن أمنا أم المؤمنين أم سلمة أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِذَا رَأَيتُم هِلَالَ ذِي الحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَن يُضَحِّيَ فَليُمسِك عَن شَعرِهِ وَأَظفَارِهِ)).
------------------------
(1)البقرة:.
(2) مسلم، الإيمان، ح(64).
(3) البخاري، بدء الخلق، ح (3074).
(4) مسلم، البروالصلة، ح(4677).
(5)البخاري، البيوع، ح(2063).
(6) النحل:97.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد