بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أيّها المسلمون، من المؤلم أنّ شعبنا الفلسطيني المسلم والذي لا يزال يدفع ثمن صموده وتمسكه بأرضه ووطنه قوافل الشهداء من خيرة أبناء شعبنا، من المؤلم أنه لا يزال يتوهم بإمكانية تحقيق السلام الذي يعيد لهذا الشعب أرضه ويحفظ كرامته، ويسعى جاهدا للبرهنة على رغبته بالسلام من خلال تنفيذ خطوات تفرَض عليه من هنا وهناك.
وفي الوقت نفسه نرى الجانب الإسرائيلي يمعن برفضه أية مبادرات للتسوية أو وقف العدوان، سواء كانت هذه المبادرات من قبل حليفتها الإستراتيجية أمريكا، أو من قبل دول أوروبا أو دول عربية، لأنها على قناعة تامة بأن أمنها ونظرتها الاستيطانية التوسعية لن تخضع للمساومات أو التنازلات.
إن شعبنا الفلسطيني بكوادره وقياداته لا يعرف بعد حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، فالفلسطينيون لا يزالون يتخبطون، رغم الأسر والمعاناة في الرؤيا المستقبلية، بل إنهم يعملون لخلاص من الواقع المر، نتيجة خذلان وتخاذل الأمة ونكوص الأمة العربية عن نصرة شعبنا الفلسطيني، فهو يسارع إلى إنقاذ نفسه، ولكن حاله كالمستجير بالرمضاء، ومن حال سيئ إلى حال أسوأ.
عباد الله، شعبنا يقتل كل يوم في أرضنا المباركة، قلنا في أنفسنا: لعل المسلمين على الأقل يظهرون بمظهر الحزن، ولو يوما واحدا، لعل دور اللهو وأماكن الفساد تغلق أبوابها، لعل الخمارات تستحي حدادا على الشهداء والجرحى، فما رأينا شيئا من ذلك، وللأسف أن موقف قادتكم صمت كصمت القبور، سلبية قاتلة، لا حراك، جثة هامدة لا حياة فيها، لم نر واحدا منهم يتكلم على ذلك.
عباد الله، المسلمون الأوائل كانت لهم عزة لأنهم عرفوا الله، وضربت علينا المهانة لأننا نسينا الله، كانت لهم عزة وكرامة، كانت لهم هيبة وصرخة، لأنهم عرفوا الله وعملوا لله وأخلصوا دينهم لله، فعرفهم الله ونصرهم وثبت أقدامهم، نحن تفرقنا وتبددنا وتشتتنا وهُنّا على الناس لأننا نسينا الله، لم نقرأ قوله - تعالى -: \" وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم \" [الحشر: 19].
عباد الله، تذكروا حقيقة واضحة أننا إذا تمسكنا بديننا فسوف تكون لنا العزة والكرامة، انظروا إلى عزة الإسلام ومجده زمن عمر بن عبد العزيز، فقد بلغ إلى مسامعه أن أسيرا مسلما أهين في بلاد الروم، فكتب إلى ملك الروم: \"أما بعد، فقد بلغني أنك أهنت مسلما كتب الله له الكرامة والعزة، فإذا بلغك كتابي هذا فخل سبيله وإلا غزوتك بجنود أولها عندك وآخرها عندي\".
انظروا ـ يا عباد الله ـ أيام الخلفاء الراشدين والأمراء الصالحين، أيام نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، كانت أيام نصر وعز للإسلام والمسلمين، كلما وجدتم اقترابا من الإسلام وجدتم القوة والعزة والازدهار والنصر. أسرانا داخل السجون يعذبون، ليس لهم من نصير إلا الله، وكفى بالله هاديا، وكفى بالله نصيرا.
وبهذه المناسبة من هذه الرحاب الطاهرة نهنئ إخوتنا الأسرى الذين تم إطلاق سراحهم من سجون الاحتلال، ونسأل الله - تعالى -أن يفرج كرب الباقين، وأن يطلق سراحهم، وأن يؤيدهم بقوته، والله على كل شيء قدير.
أيها المسلمون، متى يدرك شعبنا بل متى تدرك أمتنا أن التخلي عن البعد الديني العقدي لحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي أو العربي الأمريكي لن يحقق النصر لقضايانا المصيرية العادلة، ولن يتحقق السلام المسلوب، بل يعطي الأعداء فرصة التحكم بمقدرات الشعوب وإملاء الشروط؟
أيها المسلمون، إسرائيل تخطط حاليا لشق طريق القطار السريع من القدس إلى تل أبيب عبر أراضي الضفة الغربية، وأمس كان جدار الفصل العنصري قد ابتلع الأرض الفلسطينية وجزأها إلى مقاطع، فماذا بقي للفلسطينين من أراض؟! وغدا تقوم الاحتجاجات الفلسطينية على طريق القطار السريع كما قامت على الجدار العازل، فماذا كانت النتيجة؟! بل كيف ستكون؟!
إمعان في الغطرسة الإسرائيلية، ومزيد من القتل والتدمير وسفك الدماء. إسرائيل تعتزم إزالة ما تبقى من جدار المغاربة لتوسيع حائط البراق، ولم تكن هذه الفكرة وليدة اليوم، وإنما تحدثت عنها وسائل الإعلام الإسرائيلية في العام 1994م، وعلى لسان مهندس بلدية القدس آنذاك.
أمام هذه الغطرسة نسمع وللأسف تعليقات، وتتعالى الأصوات هنا وهناك لوقف ما يسمى عسكرة الانتفاضة، وكأن الأمر يظهر أن الفلسطينيين هم المعتدون وهم الجناة، والأعداء هم الضحية.
عباد الله، إن السقوط في فخ محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية هو طعن لقيمنا الإسلامية ولوجودنا في أرضنا المباركة. إن تكريس الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه من خلال عملية المفاوضات والتي تسعى أمريكا إلى فرضها على طرف واحد هو الفلسطينيون استنادا إلى شرعية الانتخابات الفلسطينية هو المصير الأسود الذي ينتظر أمتنا، وهذا هو الإخفاق بعينه والتخبط بذاته.
إسرائيل ماضية وفق سياسة واضحة المعالم، لا سلام يعرض أمنها للخطر، ولا سلام يمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة باستعادة أراضيهم المحتلة والمغتصبة، ولا سلام يؤمن عودة المهاجرين والنازحين إلى ديارهم. إسرائيل تتبنى سياسة \"نعم لسلام الاستسلام\"، نعم للسلام الذي يضفي الشرعية على إقامة المستوطنات وترسيم الحدود وفق مسار جدار الفصل العنصري.
أيها المسلمون، في العراق حرب ضد السنة، ضد الإسلام، أصحاب الأراضي وأصحاب الحق وأصحاب السيادة وأصحاب العقيدة الصحيحة، يحاربون علنا لاستبعادهم عن أية مناصب حكومية رسمية في بغداد.
تنبهوا إلى مخاطر التقسيم الطائفي في العراق، تنبهوا إلى مخاطر حرية الأديان التي تريدها الإدارة الأمريكية في العراق، إنها الحرب ضد الإسلام من خلال ضرب السنة وإقصائهم عن سدة الحكم وجعلهم أقلية ضعيفة، ثم يتحدثون عن وحدة العراق سنة وشيعة وأكرادا، والواقع يسير نحو الانفصال، ونحو الحكم الذاتي لكل من الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال.
إن تفتت وحدة العراق هو الهدف الرئيسي للعدوان الأمريكي، وإذا كان المسلمون السنة يواجهون هذا المخطط بالمقاومة الشرسة المشروعة فإن على الأمة الإسلامية التنبه إلى هذا الوضع الخطير.
غير أن بشائر النصر ستأتي من أرض الرافدين، فالخسائر الأمريكية الفادحة التي تمنى بها قوات الغزو الأمريكي كبيرة جدا، والخبراء العسكريون يتوقعون إطالة أمد الحرب والاحتلال، وأن أمريكا بحاجة إلى نصف مليون جندي لمواجهة المقاومة، وأنها لن تحقق ما خططت له من قبل، وستخرج من أرض الرافدين مدحورة إن شاء الله.
عباد الله، ما أحوجنا لرجل مثل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - سيف الله المسلول، ما أحوجنا إليك يا خالد لتحرير المسجد الأقصى، خالد الذي دحر دولة الفرس في أحد عشر يوما.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لهذا البطل وهو على فراش الموت كان يقول، كان يبكي بدموع الأسى ويقول: (ها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، وقد خضت مائة معركة في سبيل الله، وليس في جسمي قيد شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وكنت أود أن أموت شهيدا في سبيل الله، فلا نامت أعين الجبناء).
فاتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا قول رسول الله: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)).
الخطبة الثانية:
عباد الله، نحن اليوم في اليوم الثاني من أيام عيد الأضحى المبارك الذي هو من معالم الدين ومظاهر الابتهاج، شرعه الله إظهارا لشعائر الدين وإعلاء لذكره وابتهاجا بأداء طاعته عند البيت المحرم.
هذا هو أكبر عيد للمسلمين وأعظمه بينهم، شرع الله فيه التكبير من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، خمسة أيام متوالية، يكبر الحجاج في أرض الحرم، فيتردد الصدى في الآفاق، فيجيب العالم الإسلامي بالمثل، والكل يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا، الله أكبر، الله أكبر، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الله قد شرع لكم في عيدكم هذا سنة الأضاحي، ووقتها بعد صلاة العيد إلى قبيل مغيب شمس اليوم الرابع من أيام العيد. ويسن أكل ثلثها، والتصدق بثلثها على الفقراء، وإهداء ثلثها إلى الأقارب والأصدقاء. ويسن للذابح أن يصلي ويسلم على النبي ويكبر ثلاثا ويقول بعد التسمية: اللهم هذا منك وإليك، فتقبل مني. وسن التوسعة في العيد على الأهل والإحسان إلى الفقراء وزيارة الأرحام والأقارب.
أيها المؤمنون، إليكم هذه التنبيهات بالنسبة لأضحية العيد:
أولا: لا يجوز ذبح الأضحية إلا بعد صلاة العيد لقول الرسول: ((من ذبح قبل الصلاة فليعد ذبيحته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد أدى السنة)).
ثانيا: يستحب لك أن تقسم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: قسم لك ولأهل بيتك، وقسم للفقراء والمساكين، وقسم تهدي منه أصدقاءك.
ثالثا: إذا أردت أن تعطي الفقراء من الأضحية فأعطهم أفضل الأقسام الثلاث، فالرسول جيء له بكبشين أملحين أقرنين فذبح أحدهما وقال: ((اللهم إن هذا عن محمد وآل محمد))، وذبح الثاني وقال: ((اللهم إن هذا عن فقراء المسلمين)).
فلا تحزن أيها الفقير، فقد ضحى عنك البشير النذير، ودخل النبيّ آخر النهار بيته، وسأل زوجته عائشة: ((يا عائشة، كم بقي من الأضحية؟)) فقالت: يا رسول الله، تصدقنا بها كلها، ولم يبق إلا ذراعها، أتدرون ماذا قال لها المصطفى؟ قال لها: ((بل كلها باقية إلا ذراعها يا عائشة)).
اليوم الحادي عشر من شهر ذي الحجة، وفيه يرمي الحجاج الجمار الثلاثة، بإحدى وعشرين حصاة توزع سبعا فسبعا فسبعا، ويقضون ليلة ثانية بمنى، وغدا يرمون الجمار الثلاثة بإحدى وعشرين حصاة أخرى، فيكون مجموع الحصيات تسعا وأربعين حصاة مع رمي اليوم الأول، وصدق المولى الكريم وهو يقول: \" وَاذكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ, مَعدُودَاتٍ, فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ فَلا إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَن اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرُونَ \" [البقرة: 203].
إبليس عدو الله يرجم، كلهم يحثون الجمار على رأسه، يبكي ويقول: ويلي، أضِلّهم طول العام ويغفر لهم هذا اليوم.
فاتقوا الله يا عباد الله، وأخلصوا نياتكم لله، تفوزوا برضاه.
فكن ـ أيها المسلم ـ مثل السلف الصالح رضوان الله عليهم: زاهدا في هذه الدنيا الفانية، وارغب في حياتك الباقية، واعمل الصالحات، واجتنب المنكرات، تفز برضوان رب الأرض والسماوات...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد