حكم وقف الإمام للغنائم مما فتح عنوة


بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً: صورة المسألة:

ما فتحه المسلمون عنوة فهل تقسم غنائمه أم تكون وقفاً على جميع المسلمين أم يختار الإمام الأصلح؟

الأصل في هذه المسألة:

1- قوله - تعالى -: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى\" واليتامى\" والمساكين وابن السبيل(41) - صلى الله عليه وسلم - الأنفال: 41}.

2- قوله - تعالى -: ما أفاء الله على\" رسوله من أهل القرى\" فلله وللرسول ولذي القربى\" واليتامى\" والمساكين وابن السبيل7 - صلى الله عليه وسلم - الحشر: 7}.

 

ثانياً: الخلاف في المسألة:

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:

القول الأول:

ذهب الحنفية(1) إلى أن للإمام الخيار في الأراضي، فله أن يقسمها، وله أن يتركها وقفاً، وهو قول الثوري، وابن المبارك(2)، واختاره الجصاص وابن قدامة(3).

واستدل أصحاب هذا القول بالآيتين السابقتين، إضافة إلى:

1- ما رواه أبو داود عن سهل بن أبي حثمة، قال: \"قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً\"(4).

ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرين جميعاً في خيبر فقسم نصفها، ووقف نصفها لنوائبه.

2- قول عمر}: \"لولا آخر الناس لقسمت الأرض كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر\"(5)، فقد وقف الأرض مع علمه بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدل على أن فعله ذلك لم يكن متعيناً.

 

القول الثاني:

ذهب مالك(6) إلى وجوب قسمة الغنائم مما فتح عنوة، واستدلوا بما يلي:

1- عموم قوله - تعالى -: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى\" واليتامى\" والمساكين وابن السبيل 41 - صلى الله عليه وسلم - الأنفال: 41}.

2- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وفعله أولى من فعل غيره.

 

القول الثالث:

قال الشافعية(7): تجب قسمة الأراضي بين الغانمين، كسائر الأموال، إذ لا فرق بين العقار والمنقول، لعموم آية الغنائم واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى\" واليتامى\" والمساكين وابن السبيل 41 - صلى الله عليه وسلم - الأنفال: 41} إلا أن تطيب نفوس الغانمين بها، فللإمام أن يوقفها، وقد استطاب عمر} نفوس الغانمين.

 

ثالثاً: الترجيح.

الراجح - والله أعلم - قول مالك ومن وافقه، فليس للإمام أن يوقف شيئاً مما فتح عنوة، وإنما الواجب قسمتها بين الغانمين، يدل على ذلك ما يلي:

1- قوله - تعالى -: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى\" واليتامى\" والمساكين وابن السبيل 41 - صلى الله عليه وسلم - الأنفال: 41} فأضاف الغنيمة لهم، فهي حق فرضه الله لهم.

 

2- ما رواه أبو هريرة} قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم\"(8). قال في طرح التثريب(9) ومعالم السنن(10): \"استدل به على أن أرض العنوة حكمها حكم سائر الغنيمة لأن خمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها للغانمين\".

 

3- أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من فعل غيره وقد قسمها على أهلها مما فتح عنوة من خيبر، \"ومتى اختلف الصحابة، وكان بعضهم يوافق الكتاب والسنة كان أولى\"(11)، ولا نسلم أن أحداً من الصحابة، بل أكثرهم يصير قدوة على خلاف ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن عبدالبر: \"ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يترك من قوله إلا ما تركه هو ونسخه، قولاً أو عملاً، والحجة فيم قال - صلى الله عليه وسلم - وليس في قول غيره حجة\"(12).

وأما استدلالهم بفعله - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة على هذا ففيه نظر، فبالإضافة إلى أن ظهوره - صلى الله عليه وسلم - على مكة مختلف فيه، هل دخلها عنوة أو لا؟ (13)، فإن مكة بلد الله الحرام، فضلها الله على غيرها من البلدان، فهي بلد الله الحرام، الذي لا يقطع شجره، ولا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده.

 

4- لم يجمع الصحابة - رضوان الله عليهم - على فعل عمر}، فقد خالفه الزبير، وبلال، وسلمان، وغيرهم، تمسكاً منهم بظاهر فعله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر.

 

5- من الاشكالات التي ترد على قول المخالفين، أن ترك الأمر للإمام لا يمكن ضبطه بضابط يضمن تحريه المصلحة في اختياره، لأن الأمر متعلق بحقوق أوجبها الله للغانمين، وجل من رأى أن الأمر متروك للإمام، قيدوه ب: (العادل)، وقد توسط بعضهم، كالشافعية، فقالوا: \"إلا أن تطيب نفوس الغانمين بها فللإمام أن يوقفها، وقد استطاب عمر نفوس الغانمين\".

وأما قولهم في فعله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، وأنه قسمها نصفين، نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين فيرد عليه الخطابي في معرض بيانه لحديث: \"قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً\" حيث قال: \"وفيه من الفقه أن الأرض إذا غنمت قسمت كما يقسم المتاع..لا فرق بينها وبين غيرها من الأموال، والظاهر من أمر خيبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحها عنوة، وإذا كانت عنوة فهي مغنومة، وإذا صارت غنيمة فإنما حصته من الغنيمة خمس الخمس، وهو سهمه الذي سماه الله له في قوله: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى\" واليتامى\" والمساكين وابن السبيل 41 - صلى الله عليه وسلم - الأنفال: 41} فكيف يكون له النصف منها أجمع، حتى يصرفه في حوائجه ونوائبه على ظاهر ما جاء في هذا الحديث.قلت: وإنما يشكل هذا على من لا يتتبع طرق الأخبار المروية في فتوح خيبر حتى يجمعها ويرتبها، فمن فعل ذلك تبين أمر صحة هذه القسمة من حيث لا يشكل معناه، وبيان ذلك: أن خيبر كانت لها قرى وضياع خارجة عنها، منها: الوطيحة، والكتيبة، والشق، والنطاة، والسلاليم، وغيرها من الأسماء، فكان بعضها مغنوماً - وهو ما غلب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان سبيلها القسم، وكان بعضها فيئاً - لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب - فكان خاصاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضعه حيث أراه الله من حاجته ونوائبه ومصالح المسلمين، فنظروا إلى مبلغ ذلك كله فاستوت القسمة فيها على النصف والنصف، وقد بين ذلك الزهري بقوله: \"بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحقن دماءهم ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب(14).

 

-----------------------------------------------

الهوامش:

1- المبسوط: (16/10)، والبناية: (533/6).

2- المجموع: (237/21).

3- أحكام القرآن للجصاص (430/3) والمغني (189/4-190).

4- السنن: كتاب الخراج، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر (408/3).

5- أخرجه البخاري (2334) و (4235، 4236).

6- المدونة: (26/2)، وحاشية الدسوقي: (189/2).

7- الحاوي الكبير: (388/8)، والمجموع: (237/21).

8- أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: حكم الفيء: (1376/3)، حديث رقم: (1756).

9- طرح التثريب في شرح التقريب: (251/7).

10- معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود: (427/3)، رقم: (3036).

11- المغني: (289/9).

12- التمهيد: (159/1).

13- ممن قال بأن مكة فتحت صلحاً: الماوردي في الحاوي: (407/8).

14- أخرجه أبو داود: (3016)، وانظر معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود: (411/3).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply