آلام وآمال


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد...

عباد الله اتقوا الله الذي أوصاكم بتقواه واشكروه على أن اختاركم على العالمين فجعلكم من أتباع خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في وقت اندرست فيه أعلام الهدى، وكثر فيه أهل الباطل والفساد، ونفقت فيه بضاعة أهل الإباحية والإلحاد، وراجت فيه سوق الزندقة والنفاق عند أكثر العباد، تفشت فيه البدع والحادثات فلبست الأمة فتن ربا فيها الصغار، وفني عليها الكبار. قل الفقهاء والعلماء والصلحاء، وكثر الأدعياء والقرّاء فظهر صدق ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ستقع فيه الأمة من الانحرافات والمنكرات والمخالفات فمن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أمضى أكثر دعوته يحذر من الشرك ويدعو إلى التوحيد أخبر أن الشرك سيقع في الأمة فقال: ((لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان))(1) وهاهو صدق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - فإن فئاماً من الأمة يبنون القباب على القبور، ويعمرون المشاهد والأضرحة، يدعون غير الله ويعبدن الأموات ويذبحون لهم القرابين وينذرون لهم النذور، يعلون أعلام الشرك ويطمسون منارات التوحيد، ومما وقع في الأمة وقد أخبر به - صلى الله عليه وسلم - متابعة اليهود والنصارى والتشبه بهم والأخذ عنهم ففي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟ ))(2) و الأمة اليوم تتسابق وتتسارع في التبعية لليهود والنصارى والتشبه بهم حتى أصبح تقليدهم ومضاهاتهم في سلوكهم وأفكارهم وأخلاقهم ونظمهم واقتصادياتهم وسياساتهم معيار التحضر والتقدم والتمدن عند كثير من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

 وأخبرنا أيضاً - صلى الله عليه وسلم - أن الأمة ستضطرب موازينها وتنتكس مقاييسها وتغش معاييرها فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العـامة))(3).

 

ومما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - أن الأمة ستدع الجهاد وتأخذ أسباب الضعف والرقاد فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينـزعه حتى ترجعوا إلى دينكم))(4) رواه أبو داود وغيره.

 

وهاهي الأمة ركنت إلى الدنيا وأعرضت عن الآخرة هجرت ظهور الخيل التي عقد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأخذت أذناب البقر فسلط الله عليها الذل الموعود حتى تجرعت كؤوس الذل والهوان والصغار من أذل الخلق يهود الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب على غضب حتى غدت كما قال الأول:

 

ويقضى الأمر حين تغيب تيم *** ولا يستأذنون وهم شهود

 

هذا بعض ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع في الأمة. وهو وللأسف جزء من واقعها اليوم لا يمكن إغفاله فالأمة اليوم تصطلي بنار الوهن والضعف والغفلة من أبنائها و بنار الكيد والمكر والتخطيط والتشويه والتدمير والمسخ من أعدائها، فالأزمات والكروب تحدق بها من كل جانب، فالحق في أمتنا ضعيف الشوكة مهيض الجناح. لذا فإن الناظر لحال أمتنا اليوم قد تعتريه مشاعر اليأس والقنوط من ابتعاث هذه الأمة وحياتها وقد تنتابه مشاعر الإحباط من أن تعود هذه الأمة إلى سابق عزها وسالف مجدها ومكانتها.

 

ولكن هذا الشعور وهذه الهواجس والوساوس سرعان ما تتبدد وتنقشع وتزول وتضمحل عندما ندرك أن الله - سبحانه وتعالى -  وعدنا بحفظ دينه كما قال - تعالى -: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (5) فهذه الأمة محفوظة بحفظ رسالتها ودينها وكتابها فهي باقية ما بقي الليل والنهار.

 

ووعد الله هذه الأمة أن لا يجمعها على ضلالة وأنها مهما ضعفت وبعدت وأعرضت عن ذكره ودينه - سبحانه - فلا تزال فيها طائفة تحمل هذا الدين هي منار للسائرين ودليل للحائرين وملاذ للمستضعفين يقومون لله بالحجة ويدعون إليه على بصيرة يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله فمما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة))(6) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري من حديث معاوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك))(7) جعلنا الله وإياكم منهم.

 

ومما يسري عن المؤمنين الصادقين الذين تقرحت قلوبهم وتفتقت أفئدتهم مما نزل بالأمة من المآسي والخطوب أن يعلموا أن الإسلام دين الله وأنه ليس أحد أغير من الله على دينه أن يذل أو يمتهن ولا على أوليائه أن يعذبوا أو يقهروا وهو - سبحانه وتعالى -  تكفل بنصر دينه وإظهاره على كل دين قال الله - تعالى -: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)(8) وقد بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال فيما أخرجه مسلم وغيره عن ثوبان - رضي الله عنه -: ((إن الله زوى لي الأرض أي جمعها وضمها فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها))(9) وقال - صلى الله عليه وسلم - مبشراً أمته فيما أخرجه أحمد وغيره: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزّاً يعز الله به الإسلام وذلّاً يذل به الكفر))(10).

 

وما أجمل ما قاله ابن القيم - رحمه الله - في نونيته:

 

فالله ناصر ديـنـه وكـتابه *** والله كاف عـبده بأمان

 

لا تخش من كيد العدو ومكرهم *** فقتالهم بالكذب والبهتان

 

واثبت وقاتل تحت رايات الهدى *** واصبر فنصر الله ربك دان

 

والحق منصور وممتحـن فـلا *** تعجب فهذي سنة الرحمن

 

 لكنما العقبى لأهل الـحق إن *** فاتت هنا كانت لدى الديان

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد...

فمن بشائر الخير التي بشر بها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أمته ما رواه أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))(11) فكلما أصاب الأمة الضعف والوهن وقل تمسكها بدين الله - تعالى - بعث الله لها من يردها إلى جادة الطريق ويعيدها إلى الصراط المستقيم. وإن من بشائر الخير وبوارق الأمل التي تشع في النفوس الفرح والسرور، وتلبسها لباس البهجة والحبور، هذه الجذوة التي تلوح في الأفق تشرق كالفجر والتي يسمونها (الصحوة) وهي حقيقة تجديد وبعث لهذا الدين أهلها من الغرس الموعود الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي ابن ماجه بسند جيد عن أبي عنبة الخولاني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته))(12) فأهل الصحوة هم غرس الله وهم حراس الدين وحماته، قبلوا شريعة الله قولاً وفعلاً، وحرسوا سنة نبيه حفظاً وعملاً، قوامون بأمر الله، عن الدين ينافحون، ودونه يناضلون، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، هدم الله بهم البدع المحدثة للمذاهب الضالة والآراء المنحرفة. صاحوا بأعلى أصواتهم ينادون بالعودة إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما في العقائد والأحكام. فمَنَّ الله - سبحانه وتعالى -  على كثير من المسلمين فاستجابوا لدعاة الإيمان مع كثرة العوائق والعقبات فعاد قطاع عريض من الأمة إلى الله - تعالى -، فحيثما توجهت رأيت رجوعاً خاشعاً خاضعاً لله - تعالى -، ووجدت نفوساً متعطشة إلى الدين وأهله مشتاقة إلى الإسلام ورجاله بعد أن أضناها طول السٌّرى وراء مناهج الكفر والإلحاد، وأرهقها طول السعي وراء السراب، وأمضها السير في دروب التيه والظلام، فحيثما مشيت سمعت آهات التائبين وزفرات النادمين وعبرات الباكين تردد ودموع الخشوع والندم تزين وجوههم تائبون عائدون لربنا حامدون فالحمد لله الذي نصر دينه وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده وصدق القائل:

 

صبح تنفس بالضـياء وأشـرقا *** والصحوة الكبرى تهز البيرقا

 

ما أمر هذي الأوبة الكبرى سوى *** وعد من الله الجليل تحققـا

 

عباد الله، إن هذه الوعود وهذه الآمال وهذه المبشرات لا تعفي الأمة وأهل الصحوة والخير خاصة من العمل الدائب والكد الدائم الناصح فلا بد من جهد صادق ونية صالحة ودعوة مثابرة وعلم راسخ حتى يتحقق للأمة نصر الله - تعالى - فإن الله - سبحانه - وعد الأمة بالنصر والعز والتمكين والظهور على الأعداء والمعاندين إذا استقامت على الشرع القويم علماً ودعوةً وعملاً قال الله - تعالى -: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) (13) ولا يظن ظان أن هذا النصر وهذا الوعد بالتمكين سيأتي بارداً بلا آلام وتضحيات فإن سنة الله - تعالى - تأبى ذلك قال - تعالى - ?أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب?(14) فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا وإياكم الثبات على الدين وأن يجعلنا جميعاً من عباده المتقين ومن حزبه المفلحين وأن يقر أعيننا بنصر الدين.

 

----------------------------------------

(1) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم برقم 4252 وأخرجه الترمذي في الفتن برقم 2219 وأخرجه ابن ماجه في الفتن برقم 3952 من حديث ثوبان - رضي الله عنه -.

(2) أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 7320 وأخرجه مسلم في العلم برقم 2669 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

(3) أخرجه ابن ماجه في الفتن برقم 4036 والحاكم في المستدرك رقم 8493 وصححه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(4) أخرجه أبو داود في البيوع برقم 3462.

(5) الحجر: 9.

(6) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - برقم 156.

(7) أخرجه البخاري في المناقب برقم 3641.

(8) التوبة: 33.

(9) أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة برقم 2889.

(10) أخرجه أحمد من حديث تميم الداري - رضي الله عنه - برقم 16509.

(11) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم برقم 4291.

(12) أخرجه ابن ماجه في كتاب المقدمة برقم 8.

(13) الحج: 41.

(14) البقرة:214.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply