وجوب مراقبة الله تعالى


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد...

أيها المؤمنون اتقوا الله - تعالى - في السر والعلن والغيب والشهادة فإن ربكم العليم الخبير لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، يحاسبكم - تعالى - ذكره على النقير والقطمير والقليل والكثير ( فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, خَيراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, شَرّاً يَرَهُ  ) (1) قال - عز جنابه -: ( وَكُلَّ شَيءٍ, أَحصَينَاهُ فِي إِمَامٍ, مُبِينٍ, )(2).

 

عباد الله أيها المؤمنون إن الله - جل وعلا - أخبركم بأنه رقيب على أعمالكم، عالم بما في نفوسكم لا تخفى عليه منكم خافية فالسر عنده علانية، أخبركم بذلك لتخافوه وتخشوه وتراقبوه، فقال تقدست أسماؤه: ( وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُم فَاحذَرُوهُ )(3) وقال - تعالى -: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً )(4)

 

فهو الرقيب على الخواطر و اللوا حظ كيف بالأفعال والأركان؟

 

 عباد الله إن الواجب على من نصح نفسه وأحب نجاته أن يستحضر ويتيقن إطلاع الله على ظاهره وباطنه ولا شك أن من اعتقد ذلك وتيقنه حمله على خير كثير ودفع عنه شراً عظيماً فالله - جل وعلا - على كل شيء شهيد. ولذلك فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مراقبة الله - جل وعلا - وتيقن اطلاعه على أحوال عباده من أعلى مقامات الدين فلما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان قال: (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ))(5) ومن عبد الله أيها المؤمنون مستحضراً قربه وأنه بين يديه كأنه يراه أوجب له ذلك خشية وخوفاً وهيبة وتعظيماً لله رب العالمين، كما أن تيقن اطلاع الله على عبده يحمل العبد على إحسان العبادة، وبذل الجهد في إتمامها وتكميلها، وقد نبه إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حثه - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين على الخشوع في الصلاة فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة))(6) رواه البخاري ومسلم.

 

أيها المؤمنون إن إيمان العبد بأن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته وباطنه وظاهره وأنه لا يخفى عليه شيء من أمره من أعظم أسباب ترك المعاصي الظاهرة والباطنةº وإنما يسرف الإنسان على نفسه بالمعاصي والذنوب إذا غفل عن هذا الأمر ولذلك قال الله - تعالى - في بيان تهوك أهل النار في الذنوب والمعاصي: ( وَمَا كُنتُم تَستَتِرُونَ أَن يَشهَدَ عَلَيكُم سَمعُكُم وَلا أَبصَارُكُم وَلا جُلُودُكُم وَلَكِن ظَنَنتُم أَنَّ اللَّهَ لا يَعلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعمَلُونَ وذالكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين )(7) فمن قام في قلبه أنه لا تخفى على الله خافية، راقب ربه وحاسب نفسه وتزود لمعاده، واستوى عنده السر والإعلان، ولذلك كان من وصاياه - صلى الله عليه وسلم -: ((اتق الله حيثما كنت))(8) أي في السر والعلانية حيث يراك الناس وحيث لا يرونك، فخشية الله - تعالى -في الغيب والشهادة من أعظم ما ينجي العبد في الدنيا والآخرة ولذلك كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة))(9) وكان الإمام أحمد كثيراً ما ينشد قول الشاعر:

 

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقـل *** خلــوت ولكن قل عي رقيب

 

ولا تحسبن الله يغفـــل ساعة *** ولا أن مـا يخفـى علـيه يغيب

 

فاتقوا الله عباد الله في السر والعلن وإياكم وانتهاك محارم الله في الخلوات فإن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه أثره ومذلته ومن أعجب ما روي في هذا أن رجلاً كان يرابي في السر لا يعلم به أحد فمر ذات يوم بصبيان يلعبون فقال بعضهم لبعض: جاء آكل الربا. فنكس رأسه، وقال في نفسه: رب أفشيت سري إلى الصبيان. فتاب من ذنبه، وجمع ماله وقال: رب إني أسير وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني وتصدق بماله كله واستقام سره وإعلانه فمر ذات يوم بأولئك الصبية فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء فلان العابد، فبكى ذلك الرجل. فسبحان من بنفحات فضله اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت، ومن بحسن هدايته وتوفيقه انجلت عن القلوب ظلمات الجهل وانقشعت ونعوذ به - جل وعلا - من خزي الدنيا والآخرة.

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واخشوه في الغيب والشهادة فإن الله قد أعد لمن راقبه وخشيه أجراً عظيماً فقال - سبحانه -: ( جَزَاؤُهُم عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتُ عَدنٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ )(10) وخص من خشيه في الغيب والسر فقال: ( وَأُزلِفَتِ الجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ غَيرَ بَعِيدٍ, (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ, حَفِيظٍ, (32) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاؤون فيها  )(11) أما أولئك الذين خف قدر الله في قلوبهم وضعف يقينهم وإيمانهم فسارعوا في ارتكاب الموبقات والتورط في الذنوب والمعاصي في أوقات الخلوات ولم يرعوا حق رب الأرض والسماوات ( يَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَستَخفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرضَى مِنَ القَولِ )(12) فأقول لهم: استمعوا إلى هذا الحديث العظيم ففي سنن ابن ماجه بسند جيد من حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله - عز وجل - هباء منثوراً)) قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل ما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))(13) فما أحوجنا أيها المؤمنون إلى تأمل هذا الحديث واستحضاره لا سيما في هذه الأيام المتأخرة التي كثر فيها الفساد وتيسرت أسبابه فلم يبق مانع ولا حاجز في كثير من الأحيان إلا أن يخاف العبد ربه في السر والعلن.

 

فنسأل الله أن يعيننا على حقوقه وطاعته فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال. فقال: إني أخاف الله رب العالمين))(14).

 

----------------------------------------

(1) سورة: الزلزلة: آية (7 8). 

(2) سورة: يـس: آية (12). 

(3) سورة: البقرة: آية (235).

(4) سورة: النساء: آية (1).

(5) البخاري (50)، مسلم (8).

(6) البخاري (405) ومسلم (551)

(7) سورة: فصلت: آية (22ـ 23). 

(8) أخرجه: أحمد (20847)، (20894)، (21026)، و الترمذي (1987)، والدارمي (2791) من طريق سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون عن أبي ذر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفيه ميمون بن أبي شبيب متكلم فيه ولا يقل حديثه عن الحسن ولذا حسنه الألباني.

(9) أخرجه: أحمد (17861)، والنسائي (1305) من طريقين في كل منهما ضعف محتمل فيقوي بعضهما بعضاً على قاعدة التقوية بمجموع الطرق، و صححه الألباني.

(10) سورة: البينة: آية (8).

(11) سورة: ق: آية (31 35) .

(12) سورة: النساء: آية(108).

(13) ابن ماجة: (4245).

(14) متفق عليه:البخاري (1423)، ومسلم (1031).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply