تقرير: المحاكم الإسلامية في بريطانيا كيف تعمل؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الشرق الأوسط/ لسنوات طويلة كانت المحكمة الشرعية في توتنهام بشمال لندن التي يتولى رئاستها عمر بكري القيادي زعيم جماعة «المهاجرون» ثم «الغرباء» الأصوليةº الذي خرج من بريطانيا إلى بيروت في أعقاب هجمات شهدتها لندن عام 2005مº تمارس عملها في صمت كل أسبوع بجلسات مسائية تنظر في قضايا الخلع والطلاق والميراث، وأغلب المترددين على تلك المحكمة كان من أبناء التيار الأصوليº زوجات أردن الخلع، وأخوات في الله يطلقن ويتزوجن مرة أخرى بموجب الشريعة والسنة المطهرة.

وكان الإعلام محروماً من الدخول إلى قاعة المحكمة الصغيرة، وللمحكمة فروع في المدن الداخلية مثل برمنجهام وبرادفورد وليتون، ولم يسلط الضوء على تلك المحاكم الشرعية التي ثبت وجود نحو أكثر من عشرة منها في بريطانيا إلا بعد أن تحدث روان ويليامز كبير أساقفة كانتربري، وأرفع رجل دين في الكنيسة الإنجليزيةº الشهر الجاري حول ضرورة تطبيق قانون الشريعة، قوبلت تعليقاته بغضب واسع وعدم ارتياح، فقد تعرض لانتقادات قوية من جانب كثير من السياسيين بمن في ذلك رئيس الوزراء غوردون براون، ولا يعترف القانون البريطاني بأحكام الشريعة، ولذلك سارعت الحكومة إلى تذكير الأسقف ويليامز بأن القانون المدني هو السائد في البلاد.

ويغذي هذا الخلاف جدلاً أوسع بشأن دمج مسلمي بريطانيا البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة، وأصبح هذا الموضوع أكثر إلحاحاً منذ يوليو (تموز) 2005م عندما نفذ أربعة إسلاميين بريطانيين تفجيرات انتحارية استهدفت شبكة النقل في لندن مما أدى إلى مقتل 52 شخصاً.

لكن أسقف كانتربري تناول موضوعاً اعتبر التطرق إليه أمراً محتماً، فوضع الإصبع على حالة يتم التستر عليها، فمنذ زمن طويل التفت المسلمون إلى نظام قانوني غير رسمي يعتمد على الشريعة لحل بعض الخلافات ذات الطبيعية غير الجزائية»، وتضم البلاد حوالي عشر محاكم إسلامية أهمها مجلس الشريعة الإسلامية في ليتون شرق لندن، ومنذ إنشائه عام 1982م عالج المجلس سبعة آلاف حالة طلاق وخلع وفق بنود الشريعة، وأوضح الشيخ الدكتور صهيب حسن الأمين العام لمجلس الشريعة الإسلامية، وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوثº الذي يحظى باحترام كبير من أعضاء الجالية المسلمة «نتصرف كمحكمة دينية إسلامية ما يعني أننا نحكم في القضايا ونصدر الأحكام كتابياً استناداً إلى الشريعة والفقه الإسلامي بعد دراسة القضية».

وقال الشيخ صهيب حسن خريج المدينة المنورة، وتلميذ الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام السعودية الراحل، وعدد آخر من علماء مصر والسعودية، ووالده أستاذ الحديث: إنه يعتقد أن تصريحات زعيم الطائفة الإنجيلية وليامز عن الشريعة أسيء فهمها بشكل كبير، لكنه يخشى من أن يحاول وليامز «تصحيح» كلامه فقط لمجرد أن يهدئ من حالة الغضب».

وأضاف الشيخ صهيب حسن الأمين العام لمجلس الشريعة الإسلامية 55 عاماً، الذي ينظر مئات من حالات الزواج والطلاق سنوياً: أن وليامز انتقد ظلماً، وإنه ينبغي أن تفهم تصريحاته بطريقة أخرى، وأوضح الشيخ صهيب أن الصحافة البريطانية بالغت في تفسير كلام الأسقف وجعلت من «الحبة قبة»، وقال: نحن كجالية مسلمة نريد بعض الحقوق الشرعية في مجالات الأحوال الشخصية الإسلامية في الزواج والطلاق، والميراث وحقوق الزوجة الثانية، نحن لا نسعى إلى قطع يد السارق أو رجم الزاني والزانية، ونحن لا نقصد هذا الشيء أبداً»، ويقول الشيخ صهيب: «ندرس كل حالة في ضوء الأهداف المؤسسة للزواج»، وأوضح: «ما إن نتأكد من أن الزواج لن ينجح نجيز لهما الانفصال، أما إذا كان إصلاح الزواج ممكناً فنصلحه، في حال تعذر الإصلاح نقول لهم: إن عدم اتخاذ القرار أكثر ضرراً من الانفصال».

ويكمن جزء كبير من المشكلة بالنسبة للشيخ صهيب في أن الكثير من الناس لا يدركون فيما يبدو مدى تواجد عناصر متكاملة من الشريعة بالفعل بين المسلمين في بريطانيا ودول أوروبية أخرى.

وينظر هو وهيئة مؤلفة من سبعة إلى عشرة علماء مسلمين من أهل السنة والجماعة يمثلون مذاهب مختلفة من الأحناف والشوافع والحنابلة وأهل الحديثº أكثر من 50 حالة طلاق سنوياً في مجلس الشريعة الإسلامية، ويفصل في النزاعات بين الأزواج في دول مثل الدانمارك وآيرلندا وهولندا وألمانيا، ويقول: إن بعض أهل التشيع يعرضون علينا قضاياهم في الزواج والطلاق والميراث، والشيخ صهيب درس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قبل أربعين عاماً، وتتلمذ في العلوم الإسلامية على يد كل من الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد أمين الشنقيطي، وناصر الدين الألباني، وعبد الرؤوف اللبدي أستاذ النحو والصرف، والشيخ محمد المجذوب في الأدب والتاريخ الإسلامي، وتتلمذ على يد والده أيضاً الشيخ عبد الغفار حسن أستاذ أصول الحديث»، يقول الشيخ صهيب إن دار الإفتاء السعودية ابتعثته عام 1966م إلى أفريقيا في أول بعثة إسلامية إلى كينيا، وبقي فيها هناك لمدة 9 سنوات، ثم نقله الشيخ ابن باز إلى لندن للعمل في مجال الدعوة الإسلامية»، ويجتمع مجلس العلماء مرة في الشهر داخل المركز الإسلامي بريجنت بارك للاستماع إلى تقارير أعدها قضاة محليون من برمنجهام وبرادفورد وليتون ومدن داخلية أخرى عن قضايا خلع وطلاق وردت إليهم بحسب الشيخ صهيب، وفي حالات الخلع تطرق إلى قصة زوجة الصحابي الجليل ثابت بن قيس الذي شهد الغزوات مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - طالباً الشهادة، ولكن لم يستشهد إلى أن وقعت حروب الردة، فقد جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (حسب رواية البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -) فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة، وفي رواية أخرى أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: فَتَرُدِّينَ عَليهِ حَديقَتَهُ؟ فقالَت: نَعَم!! فَرُدَّت عَليهِ، وأمَرَهُ ففارَقَها.

يقول الشيخ صهيب تكتب اللجنة الشرعية إلى الزوج ثلاث مرات، وبين كل مرة وأخرى شهر من الزمان، وتستغرق القضية من 9 أشهر إلى 12 شهراً»، وفي قضايا الخلع يقول الشيخ صهيب: في العادة نقول للزوجة أن ترد المجوهرات والهدايا أو الأموال إلى زوجها قبل إعلان الخلع، وقال: إن من حق الزوجة طلب الخلع بعد يوم أو شهر من الزواج، وتطرق إلى عدد من الحالات وردت إلى المحاكم الشرعية بدون ذكر أسماء مثل تزويج بريطانيات مسلمات في باكستان أو الهند على غير إرادتهن»، وأشار إلى أن المحاكم الشرعية الإسلامية تحظى بموافقة من هيئة الجمعيات الخيرية البريطانية التي تراقب عملنا، وأوضح أن مجلس الجمعيات الخيرية وافق على دستورنا الخاص بعد ست سنوات من المراجعة والتأني، وأكد أن جميع القضاة في هيئة المحاكم الشرعية متطوعين، وليس لديهم أي تمويل من أي جهة خارجية أو داخلية باستثناء رسوم يدفعها أصحاب الحالات الراغبة في الطلاق والخلع، وتكلف كل حالة نحو 250 جنيها إسترلينياً.

وضمن الذين شاركوا في مجلس الشريعة الإسلامية الدكتور الراحل سيد الدرش مدير المركز الإسلامي الأسبق بريجنت بارك، وهو من المؤسسين، وحالياً الشيوخ معز العرب، وهيثم الحداد، وأحمد عويس من الصومال، والأخير ارتبط اسمه بالمحاكم الإسلامية في الصومال، وهو من الدعاة المعروفين»، وإلى جانب حالات الطلاق تنظر اللجنة الشرعية نزاعات بشأن الميراث والخلافات في العقود بين المالكين والمستأجرين المسلمين، وأحياناً بين الموظفين وأصحاب العمل، وحتى لو تم التعامل مع مشكلة مثل الطلاق أمام محكمة مدنية بريطانية يفضل كثير من المسلمين الاحتكام إلى الشريعة أيضاً، وتطرق الشيخ صهيب إلى نجاح المحاكم الشرعية في خلع كثير من الأزواج المسلمين بسبب مشاكل مزمنة تعاني منها الزوجات، وقال صهيب حسن: «فيما يتعلق بالزواج فنحن نكمل عمل المحكمة المدنية، حتى بعد صدور قرار من المحكمة المدنية يظل ضمير بعض الناس يؤرقهم إلى أن يحصلوا على قرار من محكمة إسلامية أيضاً، وهو ما يتردد أن بعض الناس يعقدون نكاحهم في مكاتب عقود الزواج المدنية، ولكن بعد ذلك يقرنون ذلك بالزواج في المساجد».

وقال رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عن وجود قاضيات ضمن هيئة المحاكم: إنهم لم يجدوا سيدة تتفوق في دينها إلى الحد الذي يمكنها لتحكم في أمور المسلمين الشرعية، وكثيراً ما يرسل المحامون الموكلين المسلمين إلى الشيخ صهيب اعتقاداً منهم بأن المحكمة الشرعية ستكون مكاناً أفضل لحسم الخلافات، وبالنسبة لحسن فإن بعض المزج بين النظامين ولاسيما بالنسبة للمسلمين المتدينين في القضايا المدنية هو أمر حتمي وضروري، وقال حسن: إنه شخصياً تعرض للأذى والاعتداء مرة واحدة من بعض الرجال الذين خلعهم عن زوجاتهم»، وأضاف: «الشريعة تستخدم على نطاق واسع في بريطانيا بشكل يومي، ينبغي ألا يفاجأ أحد إذا تم دمج عناصر منها في النظام القانوني البريطاني».

ويقول: إن «الجانب الآخر لسوء الفهم هو أن الناس عادة ما تفترض على الفور أن الشريعة هي قطع الأيدي وعمليات الإعدام في أماكن عامة، ويصر على أنه لا توجد رغبة لإنشاء محاكم جنائية شرعية في بريطانيا»، وقال: إنه أمر لا يفكر فيه أحد من العلماء الشرعيين، وقال: «توجد 57 دولة مسلمة في العالم لا يطبق القانون الجنائي الشرعي كاملاً منها سوى بلدين أو ثلاثة، فلماذا نود عمل ذلك هنا، هذه بريطانيا، وسيكون ذلك غير مقبول بالمرة»، ومجلس الشريعة لا يحل محل المحاكم المدنية التي لا غنى عنها، لكنه يتدخل مكملاً لإقرار الطلاق الإسلامي أو رفضه، وأضاف رجل الدين الموكل تفسير الشريعة: أن المسلمين «يحترمون قانون البلاد، لكنهم يعتبرونه قانوناً إدارياً وليس منزلاً».

وأوضح «مسائل الزواج والطلاق ليست من صلاحية الدولة، فهي مسائل دينية»، وإذا حصل المؤمنون على حكم مدني «يرون أنهم لم يكملوا واجبهم الديني»، وفي الطابق الأول في مكتب صغير لا يحمل اسما في ليتون يجتمع الشيخ صهيب حسن مع مولانا أبو سعيد وهما مثله من أبناء الجالية الآسيوية، والشيخ هيثم الحداد الفلسطيني الأصل، والمفتي بركة اللهº لإصدار الإحكام، ويحكم العلماء بالطلاق لصالح امرأة يضربها زوجها الذي يعاني من مشاكل عقلية، وكانت حصلت على الطلاق المدني منه في مايو (أيار) 2007م، ولكن كان يتعين الحصول على الطلاق وفق الشريعة حيث يعود الحق بالطلاق للرجل.

في حال عدم موافقته تستطيع المرأة البدء بإجراءات الطلاق أو الخلع لدى المجلس، ويحاول المجلس الحصول على موافقة الزوج أو مصالحة الثنائي، أو يقرر منح المرأة الطلاق إذا لم يحضر الرجل، أو تبين أنه على خطأ فادح، وأفاد استطلاع للرأي نشر في شباط 2006م أن 40 في المئة من المستطلعين يؤيدون اعتماد الشريعة في المناطق ذات الأكثرية المسلمة، وبحسب أعضاء المجلس يزداد عدد الأشخاص الذين يلجؤون إليها.

ويقول: «عندما تمتنع الحكومة عن العمل عبر الطرق السياسيةº يكون لدى المواطنين الخيار»، وأوضح «عندما يكون هناك مزيد من الأشخاص الذين يفضلوننا على المحاكم البريطانيةº يجعلنا نعرف ماهية خيارهم، هذا ما يحصل، وهذا ما قاله الأسقف: ينبغي اتخاذ تدابير، لا مفر من الأمر»، وكثيراً ما تتم دعوة صهيب حسن للإدلاء بإفادته في المحاكم البريطانية بصفته عالماً إسلامياًº الأمر الذي يساعد المحكمة المدنية على التوصل لأحكام متوازنة في القضايا التي تخص المسلمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

تخصصات المحكمة الشرعية

16:16:29 2020-10-24

هل من تخصصات المحكمة الحكم بفسخ الزواج عند توفر الشروط؟ أم أنها للطلاق و الخلع فقط