الإسراء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها المؤمنون ـ بتقوى الله - تعالى -، يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمَتِهِ وَيَجعَل لَكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28]. فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على أن أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة.

واعلموا ـ عباد الله ـ أن من أجل نعم الله عليكم أن جعلكم من أمة الإسلام، ومن أتباع خير الأنام من أمة محمد الذي رفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، فهو خليل الرحمن وسيد الأنام، صاحب المقام المحمود والكوثر والحوض المورود، فنعمة الله عليكم به ـ يا عباد الله ـ أجل النعم وأعظمها رحمةً وفضلاً، فلله الحمد على ذلك كثيرًا كثيرًا.

عباد الله، أيها المؤمنون، إن الله - تعالى -قد اصطفى محمدًا النبي الأمي، وخصه بخصائص عديدة وفضائل كثيرة، فاق بها الأولين والآخرين، اللَّهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124].

فمن خصائصه العظيمة وآياته المبينة خبر الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أولاً، ثم العروج به إلى السماء ثانيًا، تلك الرحلة العجيبة والآية العظيمة الباهرة.

فبينما رسول الله نائم في الحجر في الكعبة قبل الهجرة أتاه آت فشقّ ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا، ثم أتي بدابة بيضاء، يقال لها: البراق، يضع خطوه عند منتهى طرفه، فركب ومعه جبريل حتى أتيا بيت المقدس، فدخل المسجد فلقي الأنبياء جميعًا، فصلى بهم ركعتين، كلهم يصلي خلف محمد، ثم خرج رسول من المسجد الأقصى، فجاءه جبريل بإناء فيه خمر وإناء من لبن، فاختار اللبن فقال له جبريل: اخترتَ الفطرة.

ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح له فوجد آدم فسلم عليه فرد - عليه السلام -، وقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل ففتح له، فرأى فيها النبي عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهم، فرحبا به فدعوا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فإذا هو بيوسف وقد أعطي شطر الحسن، فرحب به ودعا له بخير، ثم عرج به إلى السماء الرابعة فإذا هو بإدريس - عليه السلام -، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فإذا هو بهارون فرحب به ودعا له، ثم عرج به إلى السماء السادسة فإذا هو بموسى فرحب به ودعا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء السابعة فإذا هو بإبراهيم - عليه السلام - مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وهو بيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذُهب به إلى سدرة المنتهى، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إليه الله - تعالى -ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنـزل إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أُمتك لا يطيقون ذلك، فرجع فوضع الله - تعالى -عنه عشرًا، وما زال يراجع حتى استقرت على خمس فرائض في اليوم والليلة، ثم نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم عاد رسول الله إلى فراشه قبل الصبح[1].

عباد الله، كل هذا النبأ العظيم والأحداث الكبار كانت في ليلة واحدة، فسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله.

 

وعاد محمد من ليلته، فلما أصبح رسول الله في قومه أخبرهم بما أراه الله - عز وجل - من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم إياه وتعديهم عليه، فسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا.

وكان أبو بكر - رضي الله عنه - كلما قال شيئًا قال: صدقت أشهد أنك رسول الله، وأخبرهم عن إبلهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، فكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبى الظالمون إلا كفورًا.

أيها المؤمنون، هذا خبر الإسراء بمحمد والعروج به إلى السماوات العلا، آية وعبرة ينتفع بها من أحيا الله قلبه بالعلم والإيمان، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم في ريبهم يترددون، وفي مثل هذه الأخبار يشككون، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتهُم إِيمَانًا وَهُم يَستَبشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتهُم رِجسًا إِلَى رِجسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ [التوبة: 124، 125]، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

فقد ذكر الله في كتابه فقال في شأن الإسراء: سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَه [الإسراء: 1]، وقال الله - تعالى -في شأن المعراج: وَالنَّجمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلا وَحيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى ذُو مِرَّةٍ, فَاستَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوسَينِ أَو أَدنَى فَأَوحَى إِلَى عَبدِهِ مَا أَوحَى مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ المَأوَى إِذ يَغشَى السِّدرَةَ مَا يَغشَى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى [النجم: 1-18].

 

 

الخطبة الثانية:

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا ـ يا أولي الأبصار ـ بما في هذه القصة من الآيات الباهرات والمنن الوافيات، فإن فيها ما يبهر العقول ويأسر الألباب ويزيد الإيمان في قلوب المتقين من العباد.

أيها المؤمنون، إن أبرز ما في هذه القصة بيانُ عظيم منـزلة هذا الرسول الكريم عند الله - جل وعلا -، فمحمد خليل الرحمن، فقد جعله الله إمامًا وبلغه منـزلة لم يبلغها أحد من الأولين والآخرين، فبلغ مكانًا سمع فيه صريف الأقلام أي: صوت الأقلام التي تكتب الأقدار، ورأى في معراجه الجنة والنار، وفي هذه الحادثة العظيمة إقرار جميع الأنبياء بنبوة محمد، وبذلك يظهر وفاؤهم بما أخذ عليهم من الميثاق.

وفي ليلة الإسراء والمعراج أظهر الله فضل هذه الأمة، وأنها أمة الفطرة ودينها دين الفطرةº فإنه لما خُيّر بين الخمر واللبن اختار اللبن، فسلامة الفطرة لبن هذا الدين، ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))[1].

أيها المؤمنون، في ليلة المعراج وفي أشرف مكان فرض الله على نبيه الصلوات الخمس، فرضها على نبيه مباشرة بلا واسطة، فدل ذلك على عظيم منـزلة هذه العبادة وعناية الله - تعالى -بها.

فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الصلوات، فإنه من لم يصل فقد قطع صلته بربه ومولاه، وسوف يدعو ثبورًا ويصلى سعيرًا، مَا سَلَكَكُم فِي سَقَرَ قَالُوا لَم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ [المدثر: 42، 43].

أيها المؤمنون، وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ, وَلا مُؤمِنَةٍ, إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم [الأحزاب: 36]، فإذا جاءه الخبر أو الحكم عن الله أو عن رسوله قابله بالتصديق والتسليم بلا شك ولا ريبة، كيف لا وربه ـ أيها المؤمنون ـ هو رب السماوات والأرض الذي له الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، فهو العليم الخبير القوي العزيز، ورسول الله صادق أمين، وَمَا يَنطِقُ عَن الهَوَى إِن هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4].

فاحذر ـ يا عبد الله ـ أهل التشكيك الذي يشككونك في أخبار الله ورسوله وأحكام دينك، وليكن لك في صديق هذه الأمة أبي بكر - رضي الله عنه - أسوة حسنة، فإنه لما جاءه أن رسول الله يحدث بخبر الإسراء والمعراج قال بلسان صادق وقلب ثابت وإيمان راسخ: (إن كان قد حدثكم بذلك فهو صادق)، فرضي الله عنه وأرضاه.

أيها المؤمنون، هذه بعض الفوائد والعبر المستفادة من هذا الخبر، فالحمد لله على إحسانه وامتنانه، والشكر له على عظيم فضله وإحسانه.

عباد الله، إن حادثة الإسراء والمعراج كانت قبل هجرة النبي إلى المدينة، وقد اختلف المؤرخون في تحديد السنة والشهر الذي وقعت فيه هذه الآية العظيمة، منهم من قال: إنها في ربيع الأول، ومنهم من قال: إنها في ربيع الآخر، ومنهم من قال: إنها في رجب، ومنهم من قال: إنها في رمضان، ومنهم من قال: إنها في شوال، وليس على واحد من هذه الأقوال دليل صحيح يعتمد عليه.

كما أنه يجب أن تعلموا ـ يا عباد الله ـ أنه ليس في ليلتها فضل خاص، فلا تخص بقيام ولا احتفال، ولا بغير ذلكº فإن هذا كله من البدع، وكل بدعة ضلالة.

وبهذا يتبين خطأ الذين يحتفلون في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر، فوالله لو كان ذلك خيرًا لسبقنا إليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان.

فاتقوا الله عباد الله، فإن خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن الله مع الجماعة.

 

----------------------------------------

[1] أخرجها البخاري في بدء الخلق (3207) من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه -.

[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply