الأمة بين إفساد الخوارج وإرهاب الخارج


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 

أمّا بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، فإنَّ تقواه أقوى عدّةٍ, عند البلاء، وأمضَى مكيدةٍ, عند البأساءَ والضرَّاء، واعلموا أنّ الدهرَ مشحونٌ بطوارقِ الغِيَر، مشوبٌ صَفوُ أيامِه بالكدَر، ولا محيصَ عن القدر المقدور، ولا رادَّ للأمر المسطور، ولا مانعَ للكتاب المزبور.

 

أيها المسلمون، إنَّ بلادَ الإسلام بلادٌ محسودَة وبالأذى مقصودَة، لا تسلَم من تِرةِ مُعادٍ, وحاقِد واشتطاطِ مناوٍ, وحاسِد، والأمةُ تمرّ في هذا الزمانِ العصيب بأحرَج مواقِفها وأصعبِ ظروفها وأشدِّ خطوبها، تتلقَّى الطعَناتِ الغادرةَ والهجماتِ الماكرةَ من حاسديها ومُعاديها.

 

ولا تزال المجازر المفزعةُ والفظائع المفجِعة والجرائمُ المروِّعة تَصبٌّ على إخواننا في فلسطينَ المباركة وفي العراقِ الجريح، تدميرٌ وحِصار، وقتلٌ للنساء والصِّغار، هُدِّمت المساجدُ على المصلِّين والبيوتُ على الآمنين، مجازرُ بربريّة ومذابحُ جماعيَّة وإبادةٌ وحشيّة وتشريدٌ واستئصال، صيحاتٌ ولوعات وآهاتٌ وصرخات، ظلمٌ صارخ وعدوان سافِر، تتفطَّر الأكباد عن وصفِه، وتذوب النفوس عن تصويره، يمارَسُ أمام نظَر العالَم وسمعِه ومؤسَّساتِه وهيئاته، أنظمةٌ صمّاء بكماءُ عمياء، ماذا جنى المقهورُ من ندائها؟! وماذا أدرك المظلومُ من رجائها؟! والمجرم يصولُ في ظلِّها ويُحمَى بأسِنّة حِرابها ويُبارَك بغيُه وعدوانه في ساحتها.

 

إنها أنظمةٌ وُضِعَت لتحميَ حقوقَ الإنسان، ولكن ليسَ كلّ إنسان، وتدافع عن سيادةِ البلدان، ولكن ليس كلّ البلدان.

 

هذا شعبُ فلسطينَ المجاهدُ عن حقِّه المدافِع عن أرضه تتواصَى قوى الظلمِ والطغيان على منعِه من السِّلاح، حتى لا يجدوا إلاّ الحجارة يدافع بها عن نفسِه، بينما يُمدٌّ الشعبُ الشارونيّ الصهيونيّ بأفتكِ الأسلحة وأخطرِها وأعنَفها وأضرِّها، إنها إرادَة وقِحةٌ ليكونَ هناك شعبٌ قاتل وشعبٌ مقتول، ليس من حقوقِه حقٌّ الحياةِ والبقاء.

 

إنّ تلك الممارساتِ لن تحقِّق للعالم سكونًا وسلامًا، ولن تجلبَ للعالم أمنًا وأمانًا، فالعُنفُ يتفجَّر والأمن يتلاشى، وطغاةُ البشَر وجبابرتُه اليوم يقاتلون تشفِّيًا وانتقامًا لإرواءِ غليل حِقدهم وإطفاءِ نارِ غضَبِهم، يُفنون آلافَ البشر، يسحقون القرى، ويمحُون المدُن، لا ضميرَ يؤنِّبهم، ولا قانونَ يردعُهم، ولا عقوبة تمنعهم.

 

أيها المسلمون، إنَّ الإسلامَ سيعود إلى قوّتِه ويفيء من غربتِه وغَيبته، والأيامُ دُوَل، وربّما صحَّتِ الأبدانُ بالعِلَل، وإنّ دماءَ القتلَى وأشلاءَ الجرحى وآهاتِ الثكلَى ستكون الطوفانَ الذي يُغرِق الطغيان، وشُعلةَ الجهاد الذي سيحطِّم الظلمَ والاستبدادَ والإذلال والاستعباد، وإنَّ دويَّ المدافع وضجيجَ القَصف وعنوانَ الحقد والعُنف سيوقظ أمَّةً طالما دبَّ الوهَن في أعماقِها وسرَى الخوفُ في عروقهاº لتكونَ حممًا تحرِق البغاةَ الغاصبين، وإعصارًا فيه نارٌ يدمِّر الطغاةَ المعتدين، وستحوط بالباغي يدُ المهلَكة، يحفِزُه إلى مَصرعه جنونُه بقوّته، ويعجِّله إلى حتفِه غرّةُ تَيهه، ويدفعُه إلى مهلكِه خَمرةُ كِبره، وسيكون سمعةً رادعة ومثلةً وازعة وعِظةً مانعة لكلّ القوى الظاهرة الجائرة كما كانت للقوى الظالمة البائدة، وسيجرٌّ الظالم أذيالَ الخيبة مُهانًا، ويندحِر بالهزيمة إلى داره مقهورًا مُدانًا، ولن يظلَّ الظالم قويًّا إلى الأبد، ولن يظلَّ المظلوم ضعيفا إلى الأبد، وَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42]، وَلا يَحسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُم لا يُعجِزُونَ [الأنفال: 59]، يقول رسول الهدى: ((لن يبرَحَ هذا الدينُ قائمًا، يقاتِل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقومَ الساعة)) أخرجه مسلم[1].

 

وإنَّ الأمةَ ستبذل المهَجَ والدماءَ والأشلاءَ والشهداء للدِّفاع عن دينها وعقيدتها والذَّودِ عن أرضها وعِرضِها والذَّبِّ عن حُرُماتها ومقدَّساتها، مستحضرةً قولَ قائدِها وإمامِها نبيِّنا وسيّدنا محمّد: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دونَ دمِه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينِه فهو شهيد، ومن قُتِل دونَ أهلِه فهو شهيد))[2]، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ [يوسف: 21].

 

أيّها المسلمون، الجماعةُ منَعَة، والفرقةُ مَهيَعة، الجماعةُ لُبّ الصَّواب، والفرقةُ أسٌّ الخراب، الفرقةُ بادرةُ العِثار وباعثةُ النِّفار، تحيلُ العَمار خرابًا، والأمنَ سرابًا، وهي العاقِرة والحالقة، ولم يمشِ ماشٍ, شرُّ من واشٍ,، ورأسُ الأشرار كلٌّ محرِّش شنَّار.

 

وإنَّ أعداءَ الملّة لا يألون جهدًا في محاولةِ تفريق الكلمةِ وتمزيق الصفّ، صدعًا للأُمّة، وقطعًا للعُروة، يغرون قريشًا بتميم وزيدًا بعمرو وبعضًا ببعض، ليُحكِموا السيطرةَ ويفرِضوا الهيمنة، ومتى تفرّقتِ الأهواء وتبايَنتِ الآراء وتناثرتِ القلوب واختلفتِ الألسن وقع الخطرُ بأكمَله وجثمَ العدوٌّ بكلكلِه.

 

وإنّ هذه البلادَ المباركة هي موئلُ العقيدةِ ومأرِزُ الإيمان وجزيرةُ الإسلام ومحَطٌّ أنظار المسلمين في جميع الأمصار والأقطار ومهوَى أفئدةِ الحجَّاجَ والعُمَّار والزٌّوار، حِفظُ أمنها واجبٌ معظَّم، وحمايةُ أرضِها فرضٌ محتَّم، وستظلٌّ بحولِ الله بلدًا آمنًا مطمئنًّا ساكنًا مستقرًا متلاحمًا متراحمًا، وإن رغمت أنوفٌ من أناس فقل: يا رب، لا ترغِم سِواها.

 

لقد خرجَت علينا عُصبةٌ غاوِية، خرجت علينا في هذا الوقتِ العصيبِ عُصبةٌ غاوية وحفنَة شاذّة وسُلالة ضالّة، في محاولةٍ, يائسة وإرادة بائسةٍ, لنشر الفوضى وشقِّ العصا وإثارة الدهماء والغوغاء، فأظهروا مكنونَ الشِّقاق، وشهَروا سيوفَ الفتنة، وجاهدوا بالمحادّة والمضادّة، بعقيدةٍ, مدخولة وأفهامٍ, كليلةٍ, وأبصارٍ, عليلة، توّهت بهم الآراءُ المُغوية في مهامِه مضِلّة وسُبُل مختلِفة، فكفّروا وروّعوا وأرعبوا وقتلوا وفجَّروا وخانوا وغدَروا، فلا عن المعاهَدين كَفّوا، ولا عن المسلمين عَفٌّوا، رمَوا أنفسَهم في أتّون الانتحار بدعوَى الاستشهاد ودَرَكاتِ الخروج بدعوَى الجهاد.

 

هَمَجٌ رعَاع يتبعون كلَّ ناعِق ويسيرون خلفَ كلِّ ناهِق، يقابلون الحُجَج باللَّجج والقواعِدَ بالأغاليط والمحكمات بشُبهٍ, ساقِطة، لا تزيدُهم إلاّ شكًّا وحيرةً واضطرابًا، قومٌ باغون، من جادل عنهم فقد جادل عن الباطل، ومن أعانهم فقد أعان على هدمِ الإسلام، فراشُ نار وحُدثاء أغرار وسفهاءُ أشرار، خالفوا ما درجَ عليه السلفُ وانتهجه بعدَهم صالحو الخلَف، وفارقوا ما نقلته الكافّةُ عن الكافّة والضّافَّة عن الضاّفَّة والجماعة عن الجماعة، يقول رسول الهدى: ((من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتةً جاهلية)) أخرجه البخاري[3]، وفي صحيح مسلم يقول رسول الهدى: ((من خرج مِن الطاعةِ وفارق الجماعةَ ثم مات مات ميتةً جاهلية، ومن خرج مِن أمّتي على أمتي يضرِب بَرَّها وفاجرها ولا يتحاشَى من مؤمِنها ولا يفي لذي عهدٍ, عهدَه فليس منِّي))[4].

 

أيها المسلمون، إنّ هذه الفتنةَ لن تعدوَ أن تكون سحائبَ صيفٍ, عن قليلٍ, تَقشَّع، وعروقَ باطلٍ, لا تُمهَل أن تُقطَع، المتالِف لها راصِدة، والعزائم لها حاصِدة. وإنّ من الخير لكلِّ ذي لُبٍّ, وعقلٍ, أن لا يبرِمَ أمرًا ولا يُمضي عزمًا إلا بمشورةِ ذي دينٍ, صالح ورأيٍ, ناصح وعقلٍ, راجحº لأنّ المشورةَ حِصنٌ من الندامةِ وأمانٌ من الملامة، ومن استبدَّ برأيه عمِيت عليه المراشِد وضلَّ في أوضار الغلوّ والتطرٌّف والشذوذ.

 

والعلماء هم أسلمُ الناسِ فِكرًا وأمكنُهم نظرًا، لا يؤثِرون على الحقِّ أحدًا، ولا يجِدون من دونه ملتحدًا، وهم ضميرُ الأمّة وغيظُ عدوِّها وحُرَّاسُ عقيدتها والخير فيها، نظرُهُم عميق ورأيهم وثيق وفِكرُهم دقيق، به علامةُ التّسديد والتوفيق، علَّمتهم الوقائعُ والتجارب مكنونَ المآلات والعواقب، فخُذوا مِن علمهم، واصدُروا عن رأيهم، وإياكم وكلَّ قولٍ, شاذّ وفكرٍ, نادّ ورأيٍ, ذي إفناد وانعزاليَّة وانفراد، وإنما يأكلُ الذئب من الغنم القاصِية.

 

أيّها المسلمون، إنه لا اتفاقَ لكلمةٍ, ولا انتظامَ لشتات ولا سلامةَ من عاديات التفرّق إلا بتوحيدِ الكلمة على كلمةِ التوحيد واجتماعِ المشارِب على المنهج السَّديد والطريق الرشيدِ كتابِ الله وسنّة رسوله بفهم سَلفنا الكرام. وإنّ المسالكَ الشاذّةَ التي يسلُكها أهلُ الغُلوّ والتطرّف والتكفير والتفجير والمسالكَ المدحورة التي يسلُكها أهلُ العلمَنة ودعاةُ التغريب والتحلٌّل والانفتاح وتحريرِ المرأة لا تعدو أن تكونَ جمرةَ الفتنة ونار الاصطِدام والكراهية وأذيال الشَّطَط والجنوح، وإنَّ المحافظةَ على الجماعةِ والوحدة مقتضيةٌ حَسمَ شذوذهما برادعٍ, قويّ وزاجرٍ, مليّ ورعاية وافية وامتثالٍ, وثباتٍ, على ما سار عليه رسول الله وصحابته الكرام، وذلك هو المخرَج من كلِّ بلاء والنجاةُ من كلِّ لأواء.

 

أيّها المسلمون، إنّ هذه القلاقلَ والبلابل إنما تُدفَع بالتوبة والاستغفار، وتُرفَع بالتضرٌّع والافتقارِ والإقلاع عن الذنوب والأوزار، فالأمنُ بالدين يبقَى، والدين بالأمن يقوى، فاحتَموا من المعاصي مخافةَ البلاءِ كما تحتمون بالطيّبات مخافةَ الداء، فلم يُبتَل المسلمون اليومَ بنقمةٍ, نازلةٍ, ولا بنعمةٍ, زائلة ولا شدّةٍ, ولا كارثة إلا بسببِ فُشوِّ المعاصي وظهورِ المنكَرات وانتشارِ المحرّمات بلا نكيرٍ, ولا تغيير، وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ, فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ, [الشورى: 30]، ولم تحدُث فتنةٌ وشرور إلا بسبب ما أُحدِث من عصيانٍ, وفجور، فكُفٌّوا عن المعاصي المهلِكة والذنوبِ والموبقة، وتوبوا توبةً صادِقة، تُدفَع عنكم النِّقَم، وتحرَس عليكم النِّعمَ، ويَدُم عزٌّكم بين الأمم، قال جل في عُلاه: مَا يَفعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينَات والحكمة، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ [آل عمران: 102].

 

أيّها المسلمون، الدعاءُ غايةُ كلِّ مكلوم وسلاحُ كلِّ مظلوم وراحَة كلِّ مهموم، فاجأروا إلى الله بالشِّكايةِ في هدأةِ الأسحار، وألحّوا على الله بالدعاء في خشَعات المناجاة والافتقار، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة لله الواحد القهّار، ادعُوا دعاءَ الغريق في الدٌّجى، ادعُوا لإخوانكم المستضعفين والمشرَّدين وأنتم صادقون في الرجا.

 

----------------------------------------

[1] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1922) عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.

[2] أخرجه أحمد (1/190)، وأبو داود في السنة (4772)، والترمذي في الديات (1421)، والنسائي في تحريم الدم (4095)، وابن ماجه مختصرا في الحدود (2580) عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حبان (3194)، وهو في صحيح الترغيب (1411).

[3] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7054) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهم أيضا في صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1849).

[4] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply