الصلح وشروطه قطوف من السنة


 بسم الله الرحمن الرحيم

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا. \" وقال رسول الله: \"المسلمون على شروطهم. \"[1]

 

الشرح:

- (الصلح جائز): الصلح كما عرفه ابن قدامة في المغني هو: \"معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين المختلفين، ويتنوع أنواعاً: صلح بين المسلمين وأهل الحرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما. \" [2]

 

وزاد شارح سنن أبي داود أنواعاً أخرى مثل: \"صلح المسلم مع الكافر والصلح بين المتغاصبين، والصلح في الخراج كالعقد على المال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت في الأملاك والحقوق. \" [3]

 

والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس بمقتضى الحق، فله معنى زائد على الإصلاح. [4]

 

- (بين المسلمين): قال الشوكاني: \"ظاهر هذه العبارة، العموم، فيشمل كل صلح إلا ما استثنى\" - أي ما خالف الشرع - [5](وقال صاحب عون المعبود): \"هذا خرج مخرج الغالب، لأن الصلح جائز بين الكفار وبين المسلم والكافر، ووجه التخصيص، أن المخاطب في الغالب هم المسلمون، لأنهم المنقادون لها\" [6]، وقال في تحفة الأحوذي: \"خصهم لا لإخراج غيرهم، بل لدخولهم في ذلك دخولاً أولياً\". [7]

 

- (إلا صلحاً أحل حراماً): كالمصالحة على أكل مالٍ, لا يحل له أكله ونحو ذلك، وكأن يشترط نصرة الظالم أو الباغي أو غزو المسلمين.

 

- (أو حرم حلالاً): كمصالحة الزوجة على أن لا يطلقها أو يتزوج عليها، أو كاشتراط على الزوج أن لا يطأ زوجته.

 

والاستثناء هنا لا يفيد التحريم فقط، بل يفيد البطلان كما نص على ذلك في تحفة الأحوذي [8] فكل صلح حرم حلالاً أو أحل حراماً فهو باطل، والمراد بالحلال والحرام هنا - كما قال في (بذل المجهود)-: \"ما كانت حرمته أو حلِّيته مؤبدة بالشرع. \"

 

- (والمسلمون على شروطهم): يعني: الشروط التي تجوز عندهم، هم واقفون عندها موفون بها، ولهذا أضاف الشروط إليهم. قال الخطابي في معالم السنن: \"هذا في الشروط الجائزة في حق الدين، دون الشروط الفاسدة، وهو من باب ما أمر الله - تعالى - به من الوفاء بالعقود. \"

 

وقال البيهقي (المسلمون على شروطهم) يعني مادام الحق منها، لقوله \"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. \" [9]

 

ما يستفاد من الحديث وشرح العلماء له:

 

1- الصلح مشروع بين المسلمين وبعضهم، وبين المسلمين وغيرهم. ولكن يشترط أن يكون على مقتضى العدل. والعدل هو شرع الله - المنزل، كما قال الشافعي [10] في تفسير (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء/58]. وهو القسط الذي أمر به في قوله - تعالى -: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) [الحجرات/9].

 

2- الصلح عقد، ولا يجوز لمسلم أن يتعاقد (شفاهة أو كتابة) إلا على حق، لأن العقد حكم واجب الوفاء، والمسلم لا يلتزم إلا بحق، ولأن العقد شرط وكل شرط ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله \" فليس بشرط وإن كان مئة شرط. \" [11]

 

3- الصلح أنواع كثيرة، منها الاجتماعي والمالي والعسكري والسياسي، وقد يكون بين أفراد أو بين طوائف أو بين دول. وكله جائز إلا ما خالف الشرع.

 

4- الصلح الذي يحل الحرام أو يحرم الحلال ليس عقداً محرماً فقط، بل هو عقد باطل [12]، وفرق بين الباطل والمحرم، فقد يكون العقد حراماً يأثم فاعله ولكنه لا يكون باطلاً (كعقد البيع بعد أذان الجمعة - على خلاف في ذلك) في حين أن العقد الباطل إنما يقع لاغيا، ولا ينبني عليه حكم من حقوق أو واجبات.

 

5- نص الحديث على جواز الصلح بين (المسلمين) وذكرهم باعتبار الغالب، ولأن شريعة المسلمين هي مناط الجواز في أي عقد صلح بينهم أو بينهم وبين غيرهم من الكفار.

 

6- كل ما كان حكمه مؤبداً في التحريم أو التحليل فلا يجوز التعاقد على تبديله في عقد صلح أو غيره، لأن الصلح أو المعاقدة على تحليل حرام مؤبد، يعد استحلالاً يكفر به صاحبه (إذا كان عالماً قاصداً) والصلح والمعاقدة على تحريم حلال يعد تبديلاً للشريعة، والاستحلال والتبديل كلاهما من المكفرات في حق من وجدت فيه شروط المؤاخذة. ويمكن الاستدلال على أن تبديل المعلوم من الدين بالضرورة، تحليلاً أو تحريماً يعد من الكفر بحديث أبي بردة بن دينار لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى من عقد على امرأة أبيه ليقتله ويخمس ماله [13]، فهذا الحديث يدل على أن الرجل اعتبر كافراً بهذا العقد الذي أحل الحرام المؤبد، وهو هنا الزواج بامرأة الأب. قال ابن تيمية - رحمه الله -: \"وأيضاً حديث أبي بردة ابن دينار، لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى من تزوج امرأة أبيه، فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله، فإن تخميس المال دل على أنه كان كافراً لا فاسقاً، وكفره بأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله. \" [14]...

 

----------------------------------------

[1] - أخرجه أبو داود في سننه، ك (الأقضية) ب (الصلح /12) ح (3594) وصححه الألباني، انظر صحيح أبي داود (2/685).

[2] - المغني لابن قدامة (5/2-3).

[3] - عون المعبود شرح سنن أبي داود (9/515).

[4] - المفردات للراغب، ص 284

[5] - نيل الأوطار

[6] - عون المعبود شرح سنن أبي داود (9/516).

[7] - تحفة الأحوذي (4/584).

[8] - تحفة الأحوذي (4/585).

[9] - بذل المجهود في حل ألفاظ سنن أبي داود (5/277)).

[10] - أحكام القرآن للشافعي (1/121).

[11] - معنى حديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المكاتب (3) وكتاب الشروط (17).

[12] -الباطل يساوي (الفاسد) عند الجمهور، وهو الذي فقد بعض شروطه. (والفاسد الباطل للصحيح ضد: وهو الذي بعض شروطه فقد). والأحناف يفرقون بين الباطل والفاسد، وقد وافقهم الشافعية في مواضع (راجع تخريج الفروع على الأصول) للأسنوي في القاعدة.

[13] - الحديث المشار إليه، رواه ابن ماجه في (أبواب الحدود/3) باب (من تزوج امرأة أبيه من بعده/896) ح (2650) (2/130) وصححه الألباني. انظر صحيح ابن ماجه (2/90) ح (2111)

[14] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20/92).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply