بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
يقول - سبحانه وتعالى - في سورة النساء \"فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمونَ وَتَرجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرجُونَ\" [النساء: 104]، و يقول رب العالمين في سورة الأعراف: \"وَإِذ تَأَذَّنَ رَبٌّكَ لَيَبعَثَنَّ عَلَيهِم إِلَى يَومِ القِيَـامَةِ مَن يَسُومُهُم سُوء العَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ\" [الأعراف: 167]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا من تخطيتم حواجز الاحتلال ويا من كسرتم الحصار، لقد سبق أن تعرض العالم الإسلامي إلى عدة حروب وغزوات ومجازر ومن أبشعها وأفظعها تلك الحروب الصليبية التي امتدت قرابة مائتي سنة وشملت بلاد الشام بما فيها فلسطين وبلاد مصر ووقعت مدينة القدس أسيرة حوالي مائة عام.
هذه الحروب التي رفعت الصليب شعاراً لها، والسيد المسيح - عليه السلام - بريء منهم ومن أعمالهم الإجرامية ومن مجازرهم الوحشية، فقد ذكرت كتب التاريخ أن الصليبين ذبحوا من المسلمين في باحات المسجد الأقصى قرابة سبعين ألف مسلم إلى أن قيض الله - عز وجل - لهذه الأمة البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي - رضي الله عنه - الذي هزم الصليبين في معركة حطين قرب طبريا في فلسطين، وتمكن من تحرير القدس بعد أشهر معدودات من معركة حطين بعد أن وحد صفوف المسلمين وشحذ هممهم ضد الوهن بالطاعات وتقوية الصلة بالله - عز وجل -.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، كما تعرضت بلاد الشام والعراق إلى غزو التتار والمغول وقتلوا وذبحوا وخربوا ودمروا وحاربوا العلم، حيث أتلفوا الآلاف من الكتب والمخطوطات العلمية في بغداد، وألقوها في نهر دجلة حتى اسود ماؤه لكثرة ما أتلفوا من الكتب، إلى أن تصدى لهم الظاهر بيبرس من سلاطين المماليك البحرية وتمكن القائد بيبرس من هزيمة التتار والمغول في معركة عين جالوت قرب مدينة بيسان في فلسطين أيضاً، وذلك بعد أن وحد صفوف المسلمين وشحذ هممهم بالإيمان وقويت صلتهم بالله - سبحانه وتعالى -.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد تجددت المجازر الوحشية في بلاد فلسطين المقدسة المباركة في هذا العصر منذ عام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين، حتى يومنا هذا، منها مجازر دير ياسين والدوايمة والناقورة في عام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين، وتكشف الحفريات والتحريات عن مجازر أخرى وقعت في فلسطين عام ثمان وأربعين، ولكن لم تكن معلومة حينئذ وكذلك المجازر التي وقعت عام ستة وخمسين ومنها مجزرة كفر قاسم وقبيا والمجازر التي وقعت عام ألف وتسعمائة وسبع وستين، حيث ترك أهل فلسطين ضحية للمؤامرات الدولية الاستعمارية. (اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الكافرين).
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا يزال شعبنا الفلسطيني المرابط في هذه الأيام يتعرض للإبادة العرقية والعنصرية من خلال القتل والتجويع والحصار وعدم إسعاف الجرحى والعقاب الجماعي بالحصار، ومن خلال حرمانه من الدواء والغذاء والماء والكهرباء، وكل ذلك على أيدي قوات الجيش الإسرائيلي المحتل الذي انتهك حرمات المساجد والكنائس في نابلس وبيت لحم وجنين بما فيها كنيسة المهد المحاصرة في بيت لحم (اللهم الطُف بنا).
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المجازر الوحشية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين وفي البلدة القديمة في نابلس في هذه الأيام لهي وصمة عار علي جبين مرتكبيها، وهي امتداد لمجازر صبرا وشاتيلا التي وقعت في لبنان عام 1982، وهي امتداد لمجازر قانا في جنوب لبنان أيضاً التي وقعت عام 1996 وصادفت ذكراها السادسة أمس الخميس.
ولن تنسى الأجيال الصاعدة هذه المجازر، ولن يستسلموا للحلول الممسوخة المطروحة من قبل بريطانيا وأمريكا وإسرائيل.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن زيارة وزير خارجية أمريكا مؤخراً هي زيارة فاشلة وهزيلة كما توقعنا ولم تحقق إلا الأسوء وهي تهدف إلى امتصاص نقمة الشعوب والجماهير العربية والإسلامية التي عبرت عن سخطها لما يجري على الساحة الفلسطينية من اعتداءات غير إنسانية على الشعب الفلسطيني وممتلكاته كما عبرت الجماهير عن عدم رضاها عن الحكام في البلاد العربية والإسلامية لصمتهم وسكوتهم وتخاذلهم عن نصرة هذا الشعب الصامد المرابط المنكوب.
كما أن الهدف من زيارة وزير خارجية أمريكا هو إضفاء الشرعية للاجتياح الذي قام به الجيش الإسرائيلي لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية.
كما كشفت زيارة وزير الخارجية الأمريكي عن ضعف الإدارة الأمريكية وتضاربها بالتصريحات وعدم قدرتها على كبح جماح إسرائيل بعد أن أعطتها الضوء الأخضر في الاجتياح، لقد قدم وزير الخارجية الأمريكي نفسه وأهان نفسه وأهان أمريكا معه في هذه الزيارة، وإن تصريحات الرئيس الأمريكي صباح هذا اليوم لتؤكد ذلك، ومع ذلك فإن التحالف الصهيوني الصليبـي قائم حتى الآن ضد الإسلام والمسلمين، وقد بدا في أفغانستان والآن في فلسطين ثم سيكون في بلد عربي آخر، ولكن الله يمهل ولا يهمل.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا من على منبر المسجد الأقصى المبارك نحيي هبة إخوتنا، الشعوب العربية والإسلامية في التعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني الذي هو جزء منهم وبالتعبير عن سخطهم وغضبهم لما يجري ضد هذا الشعب من قتل ودمار.
مع التأكيد على أنه لا يجوز شرعاً حصر القضية الفلسطينية في جمع التبرعات هنا وهناك ـ مع الشكر لكل من ساهم وتبرع وجازاه الله خيراً ـ.
ونذكر الحكام والملوك والرؤساء في البلاد العربية والإسلامية أن يتقوا الله في أنفسهم وفي شعوبهم، ثم نذكرهم بواجباتهم تجاه فلسطين والقدس والأقصى وأنه لا يجوز لهم شرعاً التخلي عن مسؤولياتهم، الله - عز وجل - سائلهم يوم القيامة عن أعمالهم.
ونذكر الحكام بقول رسولنا الأكرم بالحديث القدسي عن الله - عز وجل -: ((وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره ولم ينصره))[1].
ويقول - عليه الصلاة والسلام - في حديث آخر: ((ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)).
ويقول - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثالث: ((من أذل عند قوم فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله - عز وجل - على رؤوس الخلائق يوم القيامة)) صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فاتقوا الله أيها الحكام، فهل من مدكر؟ هل من مستجيب؟ اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
ادعوا الله وأنتم موقنون، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، لقد كرر شارون تصريحاته بأن مدينة القدس غير خاضعة للتفاوض، ولم نسمع أحداً من الحكام في العالم العربي والإسلامي عقب عليه.
ولكن نقول لهم من على منبر المسجد الأقصى المبارك: نعم إن مدينة القدس غير خاضعة للتفاوض. لماذا؟ لأنها أرض الإسراء والمعراج، فهي مسرى نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، ومعراجه إلى السموات العلا، لأن مدينة القدس بوابة الأرض إلى السماء وفرضت صلاة المسلمين في سمائها لأنها أولى القبلتين وفيها ثاني المساجد وثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى المبارك.
ولأنها أرض الحشر والمنشر، ولأنها وقف إسلامي، والوقف لا يسري عليه بيع ولا شراء. نعم إن مدينة القدس أسمى من أن تخضع للمفاوضات.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا يجوز شرعاً أن يشمت مسلم بما حل بمسلم آخر من محن ومصاعب، ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونعوذ بالله من شماتة الأعداء، ولكن هذا لا يمنعنا أن نذكر بعضنا بعضاً بالعودة إلى الله - سبحانه وتعالى - عودة حميدة وإلى التوبة إليه والالتزام بأحكامه واجتناب نواهيه.
وإن الله - عز وجل - لا يظلم أحداً وإنما يحاسب الناس على ما كسبت أيديهم لعلهم يرتدعون، ومع ذلك فإنه - سبحانه وتعالى - يعفو عن كثير فيقول في سورة الأنفال: \"وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ\" [الأنفال: 25].
ويقول - عز وجل - في سورة الروم: \"ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ\" [الروم: 41]، أي لعلهم يرتدعون ويتراجعون عن ارتكابهم للمعاصي والموبقات، ويقول رب العالمين في سورة الشورى: وَمَا أَصَـابَكُم مّن مٌّصِيبَةٍ, فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ, [الشورى: 30].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، على المسلمين في فلسطين وخارج فلسطين وفي العالم الإسلامي وفي العالم كله أن يتقوا الله في أنفسهم وأن يحاسبوا أنفسهم وأن يستقيموا في أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم فقد ورد عن الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال ـ أي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ: ((قل آمنت بالله ثم استقم)).
بهذه الإجابة الموجزة الشاملة، أي أن يؤمن الإنسان بالله إيماناً صادقاً ثم يستقيم في أعماله وأقواله وأخلاقه، وفي حركاته وسكناته، وأن يبتعد عن المحرمات كالزنا ولعب القمار وشرب الخمر وتعاطي المخدرات والتجسس والغيبة والنميمة والغدر والخيانة وغيرها من المحرمات والموبقات.
واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم تحاسبون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
_____________________
[1] رواه الطبراني في الأوسط والكبير، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. مجمع الزوائد (7/267).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد