بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: تحذير الشارع من الشياطين، وبيان عداوتهم للإنسان:
لقد جاءت تحذيرات القرآن المتكررة من الشياطين، في آيات يصعب حصرها في هذا المقام لكن لابد أن يعلم المسلم ابتداءً أن الشيطان عدوه: {...إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً [53]}[سورة الإسراء].
ثانيًا: أسلوب الشيطان مع الإنسان:
احذر أخي المسلم من أساليب الشيطان معك، إنه يستخدم:
1- أسلوب التخويف أحياناً مع الجبناء: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَولِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ[175]}[سورة آل عمران].
2- وأسلوب التزيين أحياناً أخرى: {وَإِذ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعمَالَهُم وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليَومَ مِنَ النَّاسِ... [48]}[سورة الأنفال]. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغوَيتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي الأَرضِ وَلَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ[39]}[سورة الحجر].
3- وأحياناً يستحوذ على الإنسان: {استَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ فَأَنسَاهُم ذِكرَ اللَّهِ... [19]}[سورة المجادلة].
4- وأحياناً يوقع العداوة والبغضاء: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ... [91]}[سورة المائدة]. إلى غير ذلك من حيل الشيطان وطرقه.
ثالثًا: من الإنس شياطين كما أنّ من الجن شياطين:
لقد تكلم علماؤنا وقرروا بأن هناك شيطان جني، وهناك شيطان إنسي، استناداً إلى قول الباري - جل وعلا -: {الَّذِي يُوَسوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ[5]مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ[6]}[سورة الناس]. حتى قال بعض أهل العلم: بأن الشيطان الإنسي أخطر من الشيطان الجني، وأكثر ضرراً، وأشد فتكاً.
ولذا فعلى المسلم أن يحذر هذا الشيطان أكثر، وأن يتعرف عليه أكثر، وأن يتفطن لطرقه وأساليبه أكثر، لكي يسلم من شره، وينجو من غوايته.
رابعًا: أساليب شياطين الإنس في إغواء الناس، وأن شياطين الإنس أشدّ من شياطين الجن:
سنتلمس بعض حيل وأساليب هذا الشيطان، لعل الله أن يعصمنا من فتنته: يقول أهل العلم بأن: كل من تعاون مع إبليس، وكان من جنوده في الإغواء، وتحبيذ المنكر والفحشاء فهو شيطان، وكل من كانت له مشاركات وجهود في صد الناس عن سبيل الله، فهو شيطان. وكل من دعى إلى طرق الباطل بأي أسلوب، وتحت أي شعار، أو مذهب، فهو شيطان.
إن الشيطان من هذا النوع أشد من شيطنة إبليسº لأن إبليس قال: {... لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ[82]إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ[83]}[سورة ص].
وقال: {... لَأَحتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا[62]}[سورة الإسراء]. فهو لا يريد التسلط على الجميع، بينما شيطاننا هذا لم يقتصر على الإغواء كإبليس، ولكنه تسلط بجميع أنواع الفتنة والإرهاق، يريد إغواء الجميع وإضلالهم واحتناكهم، حيث لا يدع أحداً ينطق إلا ما يوافقه، ولا يسعى إلا بما يهواه.
والله - تعالى -قال في كتابه: {... فَاستَعِذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ[98]}[سورة النحل]. ولم يقل استعذ من إبليسº لكثرة أجناس الشياطين وأنواعهم الذين يصدون عن سبيل الله. فما أكثر أعداء الرسل من شياطين الإنس، الذين ظهروا في كل عصر وبلد وفي كل فترة، وهم أشد ضرراً من شياطين الجن.
إن ورثة إبليس من شياطين الإنس، الذين سلكوا طريقته في تغرير بني آدم، وإغوائهم على الشر وتحبيب الرذيلة، وهجر الفضيلة، وتحبيب خيانة الله، باطراح دينه، ونبذ كتابه، إن هؤلاء أخبر الله عنهم بصفات من كتابه، يمكن التعرف عليهم:
فأخبر عن هؤلاء الشياطين أن طبيعتهم الاستكبار والفخر، وطلب العلو في الأرض، ورفض كل ما لا يصدر على أيديهم- وإن كان صحيحاً نافعاً-. هذا الشيطان يعادي الحق إذا صدر على غير يديه، إنه يأمر بالسوء على اختلاف أنواعه وأشكاله، ويحبب الفحشاء للناس بكل وسيلة.
وها نحن نرى هؤلاء الشياطين في هذا الزمان يسمون الفساد إصلاحاً، ويسمون المؤامرات والفتن ونقض العهود تحرراً، ويسمون خيانة الله، ونبذ ملة إبراهيم وطنية، ويسمون ارتكاب الفواحش مدنية، ويسمون الدياثة حضارة وتطوراً، وعندهم نبذ كتاب الله رقيًا ومسايرة للزمن، وهكذا مما تلوكه ألسنتهم العفنة في وسائل الإعلام المختلفة، وتسطره أيديهم النجسة في الكتب العصرية، والنشرات الدورية، والصحف التي تفاقم شرها.
فما أحرى المؤمن أن يكثر الاستعاذة بالله من جنس الشيطان الرجيم، القاعد لعباد الله بالمرصاد القائل: {قَالَ فَبِمَا أَغوَيتَنِي لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ[16]ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَانِهِم وَعَن شَمَائِلِهِم وَلَا تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِينَ[17]}[سورة الأعراف]. فلقد تفاقم شر هؤلاء الشياطين، وكثر جنودهم وأولياؤهم وعمت فتنتهم، وكثر ضررهم، لقد سيطر الشياطين على أغلب المرافق، وتاجروا بالعقول، وتمويه الفكر، وبلبلة الخواطر، وقلب الحقائق، وتنويع الباطل، وتوزيعه بشتى الزخارف والألوان.
خامسًا: صفات شياطين الإنس كما ذكرها الله - تعالى -عنهم، وموقف المسلم منهم:
لقد قرر علماؤنا بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، كما قرروا بأن الناطق بالباطل والساعي فيه شيطان ناطق. وإليك بعض الأمثلة:
1- فالمثبط والمعوق للناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. شيطان.
2- والمحبب الرذيلة للناس بأي مصطلح، وتحت أي مسمى.. شيطان.
3- والذي يعمل لإزالة الحياء من المجتمع.. شيطان، والصحفي الذي ينشر ما يخالف الملة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية.. شيطان.
4-والكاتب الذي ينشر ما يفسد الأخلاق، ويذهب بالمروءة والحياء.. شيطان.
5- والذي يغري الناس بقوله، أو فعله على تقليد أعداء الله ورسله في أزيائهم، وأخلاقهم، وأعيادهم، ومراسيمهم.. شيطانº لأنه يقول بلسان حاله، أو بصريح مقاله، أو بسوء خصاله لمن قلدهم من الكفرة: {... هَؤُلَاءِ أَهدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا[51]}[سورة النساء].
6- ومن أعظمهم شيطنة، ومن أشدهم خبثاً على الإطلاق من يعمل على إزاحة الناس عن ملة إبراهيم، وعن شريعة محمد عليهما الصلاة وأتم التسليم. إنك لتجد الشيطان الإنسي مرهقاً متعباً، يلهث كما يلهث الكلب، لنشر دعايته، وترويج فكرته، وينفق الأموال الطائلة للصد عن سبيل الله: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ[36]}[سورة الأنفال].
فكن أيها المسلم على حذر ويقظة مما يقذف إليك سراً وجهراً، وظاهراً وباطنًا، واجعل كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - هما الميزان الذي تزن به كل شيء، وكل أحد. فإذا أعجبك كلام أحد أو تبجحه بدعوى الإصلاح، فلا تجعل له في قلبك مجالاً حتى تنظر في سيرته وأعماله، وتقارن ما يقول بما يفعل:
فإذا كانت أعماله على وفق كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيته حاملاً رسالة الله آخذاً بكتابه، عاملاً لنصرة دينه، مدافعاً عن قضايا المسلمين في كل قطرº فذلك من حزب الله.
وإن رأيت أن أحواله وأعماله كحال المنافقين التي كشفها الله في القرآن، وأن ما يدعيه مجرد مزاعم يتاجر فيها بعقول الناس، ويلعب بعواطفهم، وأن أعماله ومبادئه مستمدة من الشرق، أو الغربº فذلك شيطان، من جند إبليس، ودعاة الضلال مهما كبرت مكانته، أو كثرت كتبه ومقالاته، أو كثر أتباعه والمجندون لمبادئه، فإن الله - تعالى -يقول: {وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلٌّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ... [116]}[سورة الأنعام].
لقد جرى للمختار بن عبد الله الثقفي الكذاب مما نقرأ في كتب التاريخ ما جرى، وراج أمره بحجة الأخذ بالثأر حتى كشفه الله وأهلكه وأخزاه، ونقرأ في التاريخ ما جرى من أبي مسلم الخراساني ما أنجح خطته، ثم أهلكه الله على يد الذين سعى من أجلهم.
ونقرأ في التاريخ - وكل هذه صور حية لبعض النوعيات من الشياطين- نقرأ ما جرى من فتنة العبيديين الباطنيين والقرامطة في مصر والشام والأحساء والحجاز ما جرى، حتى ادعى بعضهم الألوهية، وقتل الحجاج، وصعد كبيرهم الكعبة صارخاً بأنه الله الذي يحيي ويميت، فسلط الله الآكلة في جسده، حتى هلك شر هلكة.
ونقرأ في التاريخ ما جرى من النصيرية، وطغاة المبتدعة الذين صاغتهم سياسة اليهود الماكرة فظائع عظيمة، كشف الله غمتها، وأراح أهل دينه منهم.
ثم تنوعت أساليب سياستهم في القرون الأخيرة بأنواع الغزو الثقافي الفكري: فنقرأ في التاريخ أنهم نبشوا النعرات القومية في أنحاء أوربا، وركزوا جهودهم في تركيا، لنبش القومية الطورانية التي بسببها تنكر حكامها للإسلام والمسلمين، مما سهل لليهود، وأذنابهم من النصارى، وتلاميذهم بث النعرة العصبية في العرب، فتولى كبرها بعض الشياطين، وتم نشرها في وقت سريع أحدثوا تحت شعاراتها كثيراً مما يهدم ملة إبراهيم، ويناقض شريعة الإسلام، ويمزق القرآن تمزيقاً معنوياً، فحصل من جراء ذلك في تركيا وغيرها من بلاد المسلمين شر كبير وفتنة، تتغلغل إلى أكثر الأدمغة.
وورائها شياطين يبذلون ما يبذلون في نشرها وترويجها.. فهلك من هلك من أولئك الشياطين، وسطر لنا التاريخ قبيح أفعالهم، فبقيت فيهم وصمة عار إلى قيام الساعة، وكذلك شياطين هذا الزمان ممن أكمل المشوار، وسار على خطى من قبله، سيكتب التاريخ عليهم كل شيء، وسيأتي اليوم، التي تعرف فيه الأجيال، أسماء وطرق وأساليب وحيل جميع شياطين هذا الزمان، بل سيزيد الأمر فضيحة لأنها ستكون موثقة بالأرقام والإحصائيات، والوثائق، بخلاف كتابة التاريخ في الماضي، فإنها كتابة عامة. لكنه أولاً وأخيراً كتابة التاريخ.
فعليك أيها المسلم: بمعاداة من هذه صفاته، وإن قال ما قال، وادعى ما ادعى، فإنه من شياطين الإنس، الذين هم أضر من إبليس أبي الجن وذريته.
وإذا كان الله أمرنا بالاستعاذة من جنس الشيطان: من همزه ونفثه ونفخه، ورفض خطواته عموماً، فأمره يدل بطريق أولى على معاداته ومنابذته في كل شيء، فواجب المسلم أن يتعوذ بالله متبرئاً من الشيطان:
من همزه: الذي يكون بالوسوسة والإغراء على الشر بجميع الوسائل، مقروءة ومسموعة، مرئية ومشاهده.
وكذلك من نفخه: الذي يكون بغرس الكبر، بأن يقذف في روع الإنسان أنه من نوع كذا، أو أنه من عنصرٍ, سام، فيلهب صدره بالقومية الفلانية، أو النعرة الفلانية، أو يطغيه بمركزه، فيجعله بهذا، أو ذاك معرضاً عن الحق، ساعياً بالباطل كما وصف الله بعضهم بقوله: {... إِن فِي صُدُورِهِم إِلَّا كِبرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ... [56]}[سورة غافر].
ومن نفثه: بالشعر، والكلمات الرنانة المغرية على السير بالباطل، والتمادي فيه، معتقداً نجاح طريقته، بهذا النفث في آذان الناس {... وَإِن يَقُولُوا تَسمَع لِقَولِهِم... [4]}[سورة المنافقون]. فإن الكثير من الناس يُخدع بالكلام المعسول.. {هَل أُنَبِّئُكُم عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ[221]تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ, أَثِيمٍ,[222]يُلقُونَ السَّمعَ وَأَكثَرُهُم كَاذِبُونَ[223]}[سورة الشعراء].
لقد تفاقم شر الشاطين في هذا الزمان، إلى حد أنهم أراحوا الأبالسة من الجن في كثير من الأمور، وأراحوا شياطين الاستعمار في كثير من المهام. فصارت فتنتهم أشد من القتلº وذلك لأنهم احتسوا من قيح الاستعمار ودمه وصديده، فأخذوا يمجونه على القلوب الطاهرة، وتجرءوا على ما لم يتجرأ عليه المستعمر قولاً، وعملاً، وتنفيذاً، وفتنة.
وشياطين الجن مهدوا السبيل لهم بإحراق ما قدروا على إحراقه مما في الإنسان من مواهب الخير، أو طمسها، أو تصدئتها، بحيث يكون قلب غُلفاً بذلك، مما تقذف به شياطين الإنس وتحشوه من الباطل.
فأكثر أيها المسلم من الإستعاذة، متبعاً لها بالحذر واليقظة، والعمل الدائم لإعلاء كلمة الله، وحفظ حدوده، وأشغل نفسك في جميع أوقاتك بطاعته، كيلا تجعل للشيطان مجالاً، أو فراغاً ينفذ منه، فلا يحصل له عليك سلطان.
وإن خير ما شغل به المسلم نفسه، للتصدي لهذا الشيطان بعد إقامة أركان الإسلام: الدعوة إلى الله - عز وجل -، والعمل للإسلام، والبذل للدين، ومن جملة العمل: التصدي لهؤلاء الشياطين بفضح خططهم، وتوضيح أساليبهم، وتحذير الناس منهم، تحذيراً عاماً وخاصاً، واستغلال بعض المناسبات لتحذير الناس من شر هؤلاء الشياطين، وتبيين مدى خطرهم.
والمفرّط في دينه، إما بترك بعض الطاعات، أو إرتكاب بعض المخالفات، أو الغفلة والجهل بهؤلاء الشياطين، فإنه لابد من استيلاء الشيطان عليه، من بعض النواحي والجوانب، والمعصوم من عصمه الله. فنسأل الله أن يقينا شر أنفسنا، وشر الشيطان وشركه. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين من شياطين الإنس والجن بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدبيراً عليه يا رب العالمين.
من خطبة: \'شياطين الإنس\' للشيخ/ناصر الأحمد
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد