انفروا خفافا وثقالا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لم يعد خافياً اليوم على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة، وذلك من قبل أعدائها الكفرة وأذنابهم المنافقين، فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم، والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك.

 

وكما هو مقرر عند أهل العلم أن جهاد الكفار يصبح متعيناً على أهل كل بلد عندما يغزون في عقر دارهم ويجب على كل قادر أن ينفر لصد العدوان وقتال الكفار حتى يجلوا عن أرض المسلمين، والجهاد في هذه البلدان يكون بالنفس والمال، ويجب على بقية بلدان المسلمين أن ينصروا إخوانهم في بلدانهم المغزوة بأن يمدوهم بالمال والسلاح والبيان والدعاء، وإذا لم يكف المقاتلون في البلد المعتدى عليه في صد العدوان وجب على البلاد المجاورة لهم أن تمدهم بالرجال والمال حتى يكتفوا، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: \"وإذا دخل العدو بلاد المسلمين فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد المسلمين كلها بمنزلة البلدة الواحدة\" [الاختيارات الفقهية ص 448]، كما يجب على من كان من المسلمين ذا خبرة عسكرية في فن من فنون القتال أن ينفر لنصرة إخوانه في البلدان المغزوة، قال الله - عز وجل -: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُم إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدٌّنيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنفِرُوا يُعَذِّبكُم عَذَاباً أَلِيماً وَيَستَبدِل قَوماً غَيرَكُم وَلا تَضُرٌّوهُ شَيئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ\" إلى قوله تعالى: \"انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ\" (التوبة: 38-41).

 

هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقرها عقدياً واجتماعياً وإعلامياً واقتصادياً وثقافياً وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم، فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين، وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل ملفت وخطير، فما هو الواجب على المسلمين في هذه البلدان تجاه هذا الغزو الخطير؟

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى-: \"والجهاد: منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان، والرأي، والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه\" [الاختيارات الفقهية ص 447، دار العاصمة].

وإن الغزو الخطير الذي يتعرض له المسلمون قاطبة في بلدانهم والموجه لهم من أمم الكفر ليستهدف دينهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم، وهذه هي الضرورات الخمس والمقاصد العظيمة التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها وتكميلها وحمايتها من الفساد والمفسدين، إذن فما هو الواجب تجاه هذا الغزو الخطير الموجه للمسلمين في عقر دارهم من الكافرين والمنافقين؟

 

قد تقرر فيما سبق من الكلام أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع العدو الصائل عن بلده بكل ممكن، فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروء والمسموع والمشاهد منها، أقول: إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة، والتي يباشر الكفار بعضها وينيب إخوانه من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف، وتقديماً للدنيا الفانية على محبة الله - عز وجل - ورسوله والجهاد في سبيله تعالى، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله تعالى: \"قُل إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَاؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ, فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ\" (التوبة: 24).

 

هذا وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال، ولكن ما الذي يمنع من أن تشمل أيضاً المتقاعسين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكار الخبيثة وأخلاقهم السافلة والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها؟

آمل ألا أكون مخطئاً إذا قلت: إن هذا النوع من الجهاد هو من أعظم أنواع الجهاد، وإن أهله القائمين به هم من المجاهدين في سبيل الله - عز وجل - بحق، فلقد قال الله - عز وجل - آمراً محمداً - صلى الله عليه وسلم - في سورة مكية بمجاهدة الكفار بالقرآن قبل فرض الجهاد عليهم بالقتال، وذلك في سورة الفرقان حيث يقول الله - عز وجل -: \"فَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً\" (الفرقان: 52)، وقد مرّ بنا كلام شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - \"والجهاد منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه\"، ولا يعذر أحد من المسلمين في النفرة لهذا الجهاد كل بحسبه علمه وقدرته:

 

 

· فالواجب على أهل العلم من قول كلمة الحق والوقوف في وجه الباطل والفساد أعظم من غيرهم، وإذا سكتوا وآثروا الراحة والدعة فمَن للأمة يبصرها بدينها ويحذرها من الشرور والفساد ومن لها يفتيها في ما جَدَّ من الوسائل المحرمة في نشر الفساد، ومن لها يفند شبه المشبهين وتشكيكاتهم، ومن لها يفضح المنافقين وفسادهم ويعرفهم للأمة للحذر من فسادهم والبراءة منهم ومن كيدهم ومخططاتهم، ومن للأمة يحتسب على حكامها الذين يملكون كف هذه الوسائل المدمرة لو أرادوا.

· والواجب على أهل الغنى والثراء ما ليس على غيرهم، والمال هو عصب الجهاد والدعوة، وكم من المجالات الدعوية والوسائل الإعلامية الخيرة هي محتاجة إلى الدعم والنهوض بها لمقاومة الفساد ونشر الخير والفضيلة وإن لم ينهض المحسنون وأهل الخير لإنشاء ودعم الوسائل المختلفة التي تنشر الفضيلة وتدحض الشبهات وتقف في وجه الشهوات، فإن أبواباً كثيرة من أبواب الجهاد ستضعف أو تتوقف، والجهاد بالمال هو من الجهاد في سبيل الله تعالى، والبخل به في هذه الأزمان إثم عظيم سيسأل عنه أصحابه يوم الجزاء والحساب.

 

· وعلى المربين من آباء وأمهات وأولياء أمور البيوت واجب عظيم في تربية من تحت أيديهم من أبناء وبنات وإخوان وأخوات وزوجات وأقارب وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتحصينهم وحمايتهم من وسائل الفساد وتطهر البيوت منها، كل ذلك من واجباتهم وبخاصة الآباء ومن في حكمهم حيث في مقدورهم التحكم في بيوتهم وتحصينها من داخلها ولا أحد يمنعهم من ذلك ولا ينازعهم فيها، فالمقصر في الأمر والنهي في بيته يعد آثماً إثماً كبيراًº لأن الله - عز وجل - أقدره على ذلك، وذلك بوصفه سلطان البيت والآمر والناهي فيه فلا عذر له في ترك هذا الواجب.

· وعلى الدعاة والخطباء بعامة ومن أدرك خطورة هذا الأمر بصفة خاصة واجب عظيم في الأمر والنهي ونشر الفضيلة ودفع الفساد والرذيلة وتحذير الناس مما يراد بهم من إفساد أديانهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، والقيام بحملات تقوم بنشر ذلك بالوسائل التي تسهم في ذلك من الشريط والكتاب والمجلة والفتاوى وغيرها من الوسائل التي تنشر الخير وتدفع الشر.

 

· وعلى أصحاب الأقلام واجب عظيم في نشر كل ما من شأنه أن يدفع الشر والفساد وبنشر الخير ويحض عليه، وأن ينشروا ذلك بالوسائل المناسبة سواء كان ذلك كتاباً أو مطوية أو مقالاً في مجلة أو غير ذلك.

والواجبات كثيرة وكثيرة، وليس المقصود هنا حصرها، وإنما المقصود الإشارة إلى خطورة الأمر وأن جهاد الدفع بالبيان أصبح واجباً على أفراد الأمة بجميع شرائحها لا يعفى من ذلك إلا العاجز، وحتى هؤلاء يملكون الدعاء والرفض القلبي للفساد وأهله والحب القلبي للخير وأهله، وأختم هذا المقال بكلام قيم للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - يتحدث فيه عن تفاوت الناس في هذه الواجبات، فيقول:

\"فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به ورسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.

وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه مَن هو عليه به، والصبر على ذلك، والجهاد عليه ما ليس على المفتي.

 

وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله، ما ليس على الفقير.

وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.

ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر مَن يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس ديناً والله المستعان، وأيّ دين وأيّ خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتُهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المُتَحزِّن المُتَلَمِّظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجَدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه\" [إعلام الموقعين 2/164].

 

أسأل الله - عز وجل - أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يجعلنا من أنصار دينه الذين يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply