عوامل النصر في القرآن الكريم


  

بسم الله الرحمن الرحيم

 إن هذه الأمة أمة منصورة من ربها، موعودة بالتمكين والاستخلاف في الأرض بوعد الحق الذي لا يخلف، في آيات كثيرة من القرآن، كما قال الله - تعالى -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ الـمُؤمِنِينَ} [الروم: 47]. وقال: {وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الـمُرسَلِينَ * إنَّهُم لَهُمُ الـمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]. وقال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الـحَيَاةِ الدٌّنيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشهَادُ} [غافر: 51]. وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأرض كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لا يُشرِكُونَ بِي شَيئًا} [النور: 55].

 

ومهما تكالب أعداؤها، وأحكموا كيدهم، وأجمعوا أمرهمº لإطفاء نور الحق والهدى فلن يحظوا بذلك، وهيهات وقد قال الله: {يُرِيدُونَ أَن يُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَيَأبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الـحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ الـمُشرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33].

 

وقد بشرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الدين سينتشر في أنحاء الأرض قاطبة حتى يدخل كل بيت في المعمورة كما في حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزاً أو بذل ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر»(1).

 

إن هذه النصوص المبشرة جزء من عقيدتنا التي يجب أن نؤمن بها إيماناً تاماً لا تخالطه الشكوك ولا تساوره الظنون مهما طال ليل المحنةº فإن وعد الله آتٍ, عما قريب {أَلا إنَّ نَصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. بل إن هذا اليقين الكامل بنصر الله هو أحد عوامل النصر المهمة، ولذا ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما تشتد الكروب وتلم الخطوب يُذكِّر بهذه الحقيقةº فذلك يبعث الأمل ويحيى الهمم، ويجدد العزم على العمل، كما فعل في غزوة الأحزاب وقد رمتهم العرب عن قوس واحدةº فقد بشر أصحابه بفتح بلاد فارس والروم، كمـا بشر في حادثة الهجرة وهو مطارد خائف بفتح بلاد فارس، وكما طمأن صاحبه الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وهما فـي الغار بقوله: {لا تَحزَن إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

 

إن المؤمنين حينما تحيط بهم الملمات لا تزيدهم إلا ثباتاً ويقيناً وتسليماً: {وَلَـمَّا رَأَى الـمُؤمِنُونَ الأَحزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُم إلاَّ إيمَانًا وَتَسلِيمًا} [الأحزاب: 22]. أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فما أسرع ما يتزلزلون ويشكون بصدق وعد الله عند أدنى محنة أو نازلة: «{وَإذ يَقُولُ الـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. غير أن النصر الذي وعدت به هذه الأمة لا يناله إلا من أدى ثمنه وقام بأعبائهº فإذا وجدت أسبابه وانتفت موانعه تحقق النصر بإذن الله، وإن تخلف منها شيء فربما تخلف النصر، ولله عاقبة الأمور.

 

وقد تتبعت عوامل النصر في القرأن الكريم ـ حسب استطاعتي ـ المبثوثة في مواضع كثيرة، لا سيما في سورة آل عمران والأنفال، وسلكت فيها مسلك التفسير الموضوعي، مذكراً بها نفسي وإخواني في هذه المرحلة التي نتلمس فيها طريق النصر مع اشتداد ظلمة الليل وتوالي الكروب وتكالب الأعداء {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ} [يوسف: 21].

 

 العامل الأول: تقوى الله والإحسان في عبادتهº وذلك بطاعته وترك معصيته:

وعد الله من اتقاه بأن ينصره على عدوه وتكون معية الله له الخاصة المقتضية للنصر والتأييد كما قال الله - تعالى -: {وَقَاتِلُوا الـمُشرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم كَافَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الـمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. وقال: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَليَجِدُوا فِيكُم غِلظَةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الـمُتَّقِينَ}. [التوبة: 123].

 

فلما أمرهم بقتال المشركين جميعاً(1) وقتال من يليهم من الكفار وكان في ذلك من المشقة والتعب وبذل المال وتعريض النفس للتلف ما لا يخفى، مع احتمال غلبة جند الباطل وانتصارهم عليهم، أرشدهم إلى أنه معهم بنصره وتأييده وتوفيقه، يسددهم.. إذا هم اتقوه حق التقوىº فشرط النصر والتأييد هو التقوى، وقد صرح الله به في موضع آخر فقال: {إذ تَقُولُ لِلمُؤمِنِينَ أَلَن يَكفِيَكُم أَن يُمِدَّكُم رَبٌّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ, مِّنَ الـمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُم مِّن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم رَبٌّكُم بِخَمسَةِ آلافٍ, مِّنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124 - 125]. فالملائكة ستنزل لنتنصرهم إذا هم حققوا الشرط: الصبر والتقوى.

 

إن مؤامرات الأعداء ومكائدهم ومكرهم مهما كثرت وتنوعت ومهما بلغت من الإتقان لن تضر المسلمين ولا المجاهدين شيئاً إذا هم صبروا واتقوا(2)، كما قال الله - تعالى -: {وَإن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]. فيتقي المسلمون كل ما حرم الله عليهم ومنه موالاة الكفار والركون إليهم والله كافيهم وهو حسبهم. وتجدر الإشارة هنا إلى آية قد تشكل على هذا المعنى وهي قوله - تعالى -: {لَن يَضُرٌّوكُم إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُم يُوَلٌّوكُمُ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111]. حيث أثبت الضرر بالأذى ونفاه هناكº فكيف الجمع بينهما؟ قال الطاهر ابن عاشور: «وقوله: {لا يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئًا}، أي بذلك ينتفي الضر كلهº لأنه أثبت في أول الآيات أنهم لا يضرون المؤمنين إلا أذىº فالأذى ضر خفيف، فلما انتفى الضر الأعظم الذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من قتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بقي من الضر هيّناًº وذلك بالصبر على الأذى وقلة الاكتراث به مع الحذر منهم أن يتوسلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضراً عظيماً»(3).

 

وقد ختـم الله الآية بقــوله: {إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ} ليبين ـ والله أعلم ـ للمؤمنين أن كيد الاعداء مهما خفي ولطف فإن الله به محيط، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بهº فتوكلوا عليه(4)، واستعينوا بهº فسوف يكفيكم كيدهم. وقد أعقب الله هذه الآية بقصة غزوة أحد وما جرى فيها للمسلمين من وقوع المصيبة بهم لما ترك الرماة الصبر والتقوى، وذكَّر أنه نصرهم يوم بدرº فكأنه تذكير بأن وعده صادقº لما صبروا واتقوا نصرهم ببدر وهم أذلة، ولما خالف الرماة ذلك في أحد وقعت بهم المصيبة(5)º فالمشروط معلق بالشرط.

 

وحينما تصاب الأمة المسلمة بهزيمة فتتلمس طريق النصر كي تستعيد مجدها المفقود فإن من أهم مقومات النصر تقوى الله - تعالى - والإحسان في عبادته. وقد حكى الله ـ في وسط آيات غزوة أحد ـ قصة تلك الجماعة التي منيت بهزيمة على أيدي أعدائها فأخذت بأسباب(6) النصر فنصرها الله، وختم الآيات بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبٌّ الـمُحسِنِينَ} [آل عمران: 134]. ليبين أن من أحسن في عبادته أحسن الله إليه ونصره وجعل له من أمره مخرجاً، قال الله - تعالى -: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍ,ّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيٌّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِب

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply