بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون! اتقوا الله - تعالى-، وتوجوا أعمالكم بالإخلاص لله - تعالى-، واحرصوا على أن تكون صواباً على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتكون مقبولة عند الله - تعالى-.
عباد الله!
إن مدار الأعمال على النياتº فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة، إذ كان هذا العمل مفتقراً إلى النيةº فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -º قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)[1].
والنية عند العلماء يراد بها معنيان:
أحدهما: تمييز العبادات عن العاداتº كتمييز غسل الجنابة عن غسل التبرد والتنظيف، وتمييز العبادات بعضها عن بعضº كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلاً، وتمييز صيام رمضان عن غيره من صيام النوافل وما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المعنى الثاني للنية: تمييز المقصود بالعملº هل هو لله وحده أم لغيره؟
وهذا هو محل الاهتمام، ومناط السعادة والشقاوة، والثواب والعقابº فقد يعمل شخصان مثلاً عملاً واحداً في الصورة يكون تعبهما متساوياًº لكن أحدهما يثاب، والآخر لا ثواب له أو يعاقبº نظراً لاختلاف المقاصد.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -º قال: (الخيل ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضةº فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفاً أو شرفينº كانت أثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت ولم يرد أن تسقي كان ذلك حسنات له، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً، لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورهاº فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخراً ورياءً ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر)1.
عباد الله! الخيل وهي دابة بالنسبة لهؤلاء الثلاثة ولكن النية هي التي جعلت أحدهم يربطها فيؤجر، والآخر يربطها فيأثم، والآخر يربطها فلا يؤجر ولا يأثم) 2.
فالمسلم مأمور بالإخلاص في أعماله كلهاº قال - تعالى-: (( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ))(3).
فالإخلاص ينبغي أن يكون في التوحيد وهو الأساسº قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهه)(4).
وينبغي أن يكون الإخلاص في التوكل فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنه ذكر رجلاً من بنى إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء اشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً، فقال: ائتني بالكفيل!! قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت!! فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبه يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم! إنك تعلم أنى كنت تسلفت فلاناً ألف دينار فسألنى كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً فرضي بذلك، وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بمالهº فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرهاº وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار، فقال: واللهº ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلى بشيء؟ قال: أخبرك أنى لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبةº فانصرف بالألف راشداً)(5).
والإخلاص في الصلاة سبب لقبولها ومغفرة الذنوبº فعن عمرو بن عبسة السلمي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض، ويستنشق فينتثرº إلا خرت خطايا وجهه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره اللهº إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقينº إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسهº إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبينº إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماءº فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه للهº إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)(6).
والإخلاص في الصيام سبب لمغفرة الذنوب فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)(7).
والإخلاص في الجهاد سبب لنيل الشهادة ومغفرة الذنوبº قال - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العلياº فهو في سبيل الله)(8)، وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمىº اللون لون الدم، والريح ريح المسك)(9).
عباد الله! والإخلاص في الصبر سبب لدخول الجنةº فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقول الله - تعالى-: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)(10).
والإخلاص في أداء ما على الإنسان من الأموال التي للناس سبب لرفعة مؤديهاº فعن أبى عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فناء بي في طلب شيء يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري!! فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق!! فقال: يا عبد الله لا تستهزىء بي!! فقلت: إني لا أستهزىء بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون )(11).
فانظر أخي المسلم كيف فرج الله - سبحانه وتعالى - الصخرة عن هؤلاء المكروبين بسبب دعائهم بصالح الأعمال، وإخلاصهم لله - تعالى-.
ألا فليسمع ذلك الذين يماطلون العمال أجورهم، ويستهزئون بهم، وربما أكلوا أجورهم، فالله الله لا يبخسوهم، ولا يماطلوهم بها.
عباد الله!
والإخلاص هو التاج على الأعمال، ولكنه ليس ادعاءº فإن الإنسان وإن ادعى الإخلاص وصدق الناس بذلكº فالله لا تخفى عليه خافية فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتى به، فعرفه نعمه، فعرفهاº قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت!! قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريءº فقد قيل!! ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفهاº فقال: فما فعلت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن!! قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئº فقد قيل!! ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفهاº قال: فما عملت فيها؟ قال: تصدقت فيك على الفقراء!! قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جوادº فقد قيل!! ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى في النار)(12).
ولما بلغ معاوية هذا الحديث بكى حتى غشى عليه، فلما أفاقº قال: صدق الله ورسوله، قال الله - عز وجل -: (( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ))(13).
______________________
1. رواه البخارى ومسلم
2. رواه البخارى.
3. سورة البينة : 5.
4. متفق عليه.
5. رواه البخارى.
6. رواه مسلم واحمد.
7. رواه البخارى.
8. متفق عليه.
9. رواه البخارى.
10. رواه البخارى.
11. متفق عليه.
12. رواه مسلم.
13. هود : 15-16.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد