الإخلاص


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فقد روى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله شيئاً حتى نزلت هذه الآية الكريمة: (( فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاء رَبّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَـالِحاً وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَاً ))[الكهف: 110].

أيها المسلمون: هذه الآية الكريمة من سورة الكهف، وهي مكية، وتشير إلى أن الإنسان الذي يأمل لقاء ربه - سبحانه وتعالى - يوم البعث والحساب ينبغي عليه أن يعمل عملاً صالحاً في حياته، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، لابد أن تكون العبادة لله وحده خالصة دون رياء ولا سمعة.

أيها المسلمون: إن الإخلاص لله وحده هو أن يقصد المسلم بعمله رضا الله ووجهه الكريم من غير نظر إلى مغنم أو جاه، أو لقب أو رياء، وذلك ليرتفع الإنسان عن نقائص الأعمال، وعن رذائل الأخلاق، وليكون على اتصال مباشر بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد.

وقد دعا ديننا العظيم إلى الإخلاص ورغب فيه، وحث عليه في عدة آيات كريمة، منها قوله - سبحانه وتعالى -: (( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء ))[البينة: 5].

أيها المسلمون: إن ديننا الإسلامي العظيم قد جعل قبول الأعمال رهناً بالإخلاص، ولا يعتدٌّ بأي عمل إلا إذا كان عن نية طيبة خالصة لوجهه الكريم، فعن الصحابي الجليل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: \"سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحهاº فهجرته إلى ما هاجر إليه)[1].

أيها المسلمون: من المؤمنين من يخلصون لله ويقصدون القيام بالأعمال الصالحات ولكن تحول ظروف قاهرة من القيام بها، ومع ذلك فإن الله - عز وجل - يثيبهم عليها وإن لم يقوموا بها، لقول رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي في حديث مطول: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)[2]، وفي حديث نبوي شريف آخر: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)[3]، وورد في السيرة النبوية أن بعض الصحابة لم يتمكنوا من المشاركة في غزوة تبوك بسبب مرض أقعدهم مع أنهم كانوا عازمين على الخروج، فتذكرهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الطريق فقال عنهم: (إن بالمدينة رجالاً ما سرتم سيراً، ولا قطعتم وادياًº إلا شاركوكم في الأجر، حبسهم المرض)[4].

أيها المسلمون: بهذه الروح الإيمانية العالية، وبهذا الإخلاص الصادق اندفع الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى تحقيق غاياتهم الكبرى، ينشدون الحق وإقامة العدل بين جميع الناس، ويبتغون في ذلك وجه الله، وإعلاء كلمته، فمكنهم الله في الأرض، ونشروا الأمن والأمان والطمأنينة والسلام، وجعلهم قادة الدنيا وسادة العالم.

أيها المسلمون: حينما يعدم الإخلاص في العمل وفي تحمل المسؤولية فإن الأمور ترجع القهقرى، وذلك على مستوى الأفراد والجماعات، والدول والحكومات، فالناس يشكون في هذه الأيام من عدم وجود الإخلاص حين التعامل مع أصحاب المهن والحرف، ويشكون من التجار المحتكرين المستغلين، كما يشكون من الموظفين غير المخلصين في وظائفهم، وهكذا فإن انتفاء الإخلاص بين الناس، وفي شرائح المجتمع من القمة إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى القمةº يؤدي إلى بث الفوضى والاضطراب في المجتمع، ونزع الثقة بين الناس، وفي انفلات الأمور، وانحراف الأخلاق، وبالتالي يؤدي إلى الخيانات، والعمالات، والاستسلامات.

أيها المسلمون: إنه من لوازم الإخلاص إتقان العمل والالتزام به، لقول رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)[5].

ومن لوازم الإخلاص تحريم الغش في العمل للحديث الشريف: (من غشنا فليس منا)[6]، وفي رواية: (ليس منا من غش)[7]، وهذا نص عام في تحريم الغش في جميع المجالات بما في ذلك تحذير الله للحكام وللمسؤولين من خداعهم وغشهم للرعية كما في وقتنا الحاضر.

ومن لوازم الإخلاص أيضاً التقيد بالمواعيد والالتزام بها، فالذي يخلِف الوعد يكون منافقاً لقول رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم -: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)[8]، وفي رواية للإمام مسلم: (وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم)[9].

أيها المسلمون: ((اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ))، اقتفوا سلفكم الصالح الذي اتصف بالإخلاص، وحرم على نفسه الغش والتلاعب، فقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان ذات ليلة يتفقد الرعية، فسمع امرأة تقول لابنتها: قومي يا بنية إلى الحليب وامزجيه بالماء استعداداً لبيعه في الصباح، لقد طلبت الأم من ابنتها أن تمزج الحليب بالماء فأجابتها الفتاة: إن أمير المؤمنين أرسل منادياً ينادي أن لا نغش الحليب، فقالت لها أمها: إن أمير المؤمنين نائم لا يبصرنا، فأجابت ابنتها المؤمنة: إن كان أمير المؤمنين بعيداً عناº فرب أمير المؤمنين ليس عنا ببعيد، ولئن نجونا من عذاب الدنيا فلن ننجو من عذاب الآخرة.

لقد أعجب أمير المؤمنين بإيمان وإخلاص هذه الفتاة، وزوّجها لابنه عاصم، ثم أصبحت هذه الفتاة جدة للخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الملقب بالخليفة الراشد الخامس، من جهة أمه، هذا حال سلفنا الصالح، فأين نحن يا مسلمون من هؤلاء؟

فطهر قلبك أيها المسلم من شوائب النفاق والرياء، والغش والخيانة، كن متجهاً إلى الله خالق الكون والإنسان والحياة، كن مخلصاً له وحده، متقيداً بأحكامه، ليأخذ الله بأيدينا إلى شاطئ السلامة والعزة والأمان.

اللهم اجعلنا من المخلصين لدينك، الناصرين لشريعتك، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.

_______________________

[1] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907).

[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6491)، ومسلم في الإيمان (128) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

[3] أخرجه مسلم في الإمارة (1909) من حديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه -.

[4] أخرجه مسلم في الإمارة (1911) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[5] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/334)، والطبراني في الكبير (24/306) من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وحسّنه الألباني في الصحيحة بشواهده (1113).

[6] أخرجه ابن ماجه في التجارات (2225)، وصححه الألباني في الإرواء (1319) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفي رواية لمسلم (102): (من غش فليس مني).

[7] أبو داود في البيوع (3452) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[8] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[9] أخرجه الترمذي في الأمثال (2863) من حديث الحارث الأشعري، وقال: \"حديث حسن صحيح غريب\".

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply