بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد، أيها المسلمون، أيها المحتشدون في رحاب الأقصى المبارك، يا من تجاوزتم الحدود الاحتلالية العسكرية، في هذا اليوم المبارك نكون قد أتممنا الثلث الأول من شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ونسأل الله العلي القدير أن يرحمنا برحمته وأن يغفر لنا ذنوبنا وأن يعتقنا وإياكم من النار.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أنتم اليوم في الجمعة الثانية من شهر رمضان المبارك، فمن أدى صلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك في هذا الشهر المبارك يكون قد جمع ثلاث فضائل: الجمعة لها فضيلة، والصوم له فضيلة، والجمعة لها فضيلة، فطوبى لمن جمع هذه الفضائل في هذا اليوم وأداها على الوجه الصحيح، وحافظ عليها، فالإثم على من يمنع وصول المسلمين فلا ينال المصلون هذه الفضائل الثلاثة.
فاحمدوا الله أيها المصلون الذي أنعم عليكم بهذه الفضائل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم هذه الطاعات، وحياكم الله أيتها الجماهير الإسلامية المؤمنة الذين تحتشدون في رحاب الأقصى المبارك، ونسأل الله عز وجل الكبير المتعال أن تكونوا على قلب رجل واحد في ظل راية الإسلام وأن يحمي المسجد الأقصى المبارك من الأخطار المحدقة به.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء: ( إِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاعبُدُونِ ) [الأنبياء:92]، ويقول الله عز وجل في سورة المؤمنين ( وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاتَّقُونِ ) [المؤمنون:52].
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى أن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة، وأن الله سبحانه وتعالى قد ربط وحدة الأمة بالتقوى وبالعبادة للتأكيد على أن تحقيق الوحدة بين المسلمين هو أمر واجب عقدياً وتعبدياً على جميع المسلمين حكاماً ومحكومين، على اعتبار أن المسلمين يمثلون أمة واحدة لا تفصلهم حدود وهمية ولا كيانات هزيلة اصطنعها الصليبيون الاستعماريون الإرهابيون المحتلون للعالم الإسلامي منذ الحرب العالمية وحتى الآن، وأنهم قد فرقوا العالم الإسلامي بموجب اتفاقات ظالمة منها اتفاقية سايكس بيكو اللعينة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الحدود المصطنعة بين الدول والأقطار العربية والإسلامية هي حدود غير مشروعة لأن الإسلام لا يعترف إلا بدولة واحدة للمسلمين، عليها حاكم واحد يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإن ديننا الإسلامي العظيم قد أقر الإدارة اللامركزية للدولة منذ خمسة عشر قرناً وذلك ليكون هناك مجال لأقطار أخرى للانضمام إلى هذه الدولة، ولا يخفى عليكم أن الحدود القائمة بين الأقطار الإسلامية قد أوجدت الخصومات والمنازعات بين الكيانات القائمة في العالم العربي والإسلامي، وإن هذا الوضع الشاذ قد أدى إلى احتكاك مباشر بين هذه الدول وما ترتب عليه من سفك لدماء المسلمين وإزهاق للأرواح دون وجه حق، وإنه لمن المؤلم أن المسلمين قد استسلموا لوجود هذه الحدود المصطنعة وكان مطلبهم هو تنفيذ الحد الأدنى بين هذه الكيانات والمتمثل بمعاملة حسن الجوار، حيث لا يعتدي طرف على طرف آخر، على اعتبار أن كل قطر هو أجنبي عن الآخر.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وإلى جمع الكلمة، ومن حقنا ذلك، بل هو أمر واجب، وإن الوضع القائم من التفكك والاختلاف ينذر بتطاير ريح المسلمين، والله سبحانه وتعالى يقول: \"وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا فإن الله مع الصابرين\".
وإن الذئاب في العالم الغربي قد جهزت نفسها لتأكلنا واحداً واحداً، ألم تسمعوا قول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة من قرية ولا بدوٍ, لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية))[1]. صدقت يا سيدي يا رسول الله، إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم أي البعيدة عن مجموعة الأغنام، فإن الذئب يتجرأ ويعتدي عليها، وإن هذا التشبيه النبوي قد انطبق على واقعنا اليوم في العالم الإسلامي؟
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، قد أصبح واضحاً وجلياً ما تخطط له أمريكا ودول التحالف الاستعمارية ضد العراق، وإن الخبراء العسكريين في العالم يقدرون الخسائر البشرية في ما إذا قامت أمريكا بالاعتداء والغزو على العراق بأربعة ملايين شخص سيقتلون، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي لا يستطيع الخبراء تقديرها الآن، إنه والله لظلم كبير وجريمة لا تغتفر بأن تسفك دماء أربعة ملايين إنسان، وإن الله عز وجل سائل الحكام في العالم الإسلامي على تقصيرهم في الوقوف إلى جانب العراق أو عن تآمرهم على ضرب العراق، فحماك الله يا أرض الرافدين من تآمر المتآمرين واعتداء المعتدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، مخطط رهيب خطير لتقسيم العالم الإسلامي من جديد على غرار اتفاقية سايكس بيكو، بل أشد وأنكى، وتخطط له أمريكا والسؤال هل تقبل أمريكا على نفسها أن تقسم إلى أقطار مستقلة، فلماذا الولايات المتحدة الأمريكية الآن تشكل وحدة واحدة، ثم يحرم الآخرون من أن يتحدوا وأن يشكلوا لأنفسهم وحدة واحدة. إنه لهوان وضعف وخذلان واستسلام وتساقط من الحكام القائمين في العالم الإسلامي، وبالمقابل إنه لاستخفاف وغطرسة وحقد من أمريكا والدول المتحالفة معها وبخاصة بريطانيا العجوز.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن كل ما يجري ضد الإسلام والمسلمين في العالم اليوم هو في حقيقته حرب، وهذا ما اعترف به الرئيس الأمريكي الذي سيجر العالم إلى الويلات والحروب، وإن الاستطلاعات التي أجريت في بريطانيا مؤخراً تشير إلى أن الرئيس الأمريكي الحالي يقوم بأعمال، ويصدر قرارات تصب كلها في دائرة الحروب والعنف والقتل والاعتداء والإرهاب، بالإضافة إلى التصريحات المسمومة التي صدرت وتصدر عن عدد من رجال الدين المسيحي في الغرب ضد الإسلام.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، حان الوقت للعودة إلى الله سبحانه وتعالى والاحتكام إلى الكتاب والسنة، وبخاصة ونحن في هذا الشهر المبارك، شهر الصيام والغفران، فكونوا أيها المسلمون بنياناً واحداً، مقتدين برسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم- الذي حقق وحدة القلوب ووحدة العقيدة ووحدة الأفكار ووحدة النظام ووحدة الدولة، وذلك بالتطبيق العملي، وليس بالتنظير الكلامي، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم منظراً فقط لأنزل الله عز وجل القرآن الكريم عليه دفعة واحدة، ولكن كما هو معلوم لديكم أن القرآن الكريم قد نزل منجماً أي مفرقاً، وذلك لتتم عملية التطبيق والاقتداء، ولتفهم العالم أن ديننا هو دين العزة والكرامة، دين العدل والتسامح والحضارة، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً، ثم شبك بين أصابعه))[2]. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (( ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم تراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[3] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه النسائي في حديث أبي الدرداء (847). وأبو داود (547). وأحمد (21203). وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (511).
[2] رواه البخاري في حديث أبي موسى (481) كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع. ورواه مسلم (2585) كتاب البر والصلة، باب تراجم المؤمنين.
[3] رواه البخاري (6011) كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
الخطبة الثانية
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمدٍ, صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، هناك ثلاث ملاحظات قبل البدء بالخطبة الثانية من على منبر المسجد الأقصى المبارك:
نرفض ونستنكر منع عشرات الآلاف من المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك ممن يسكنون خارج حدود مدينة القدس.
و إن بعض الجنود قد ألزم شباناً بعد ضربهم أن يشربوا الماء ليفسدوا عليهم صومهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الملاحظة الثانية: بشأن مقدار صدقة الفطر، فإن مجلس الفتوى الأعلى في فلسطين قرر مقدار صدقة الفطر هذا العام بدينار أردني واحد أو ما يعادله من العملات الأخرى عن كل فرد من أفراد العائلة، وذلك على ضوء غالب قوت أهل البلد.
أما أحبتنا وإخوتنا في الخط الأخضر، فقد قدروها بعشرة شواقل على ضوء الأسعار المتداولة لديهم، فبادروا أيها الصائمون على إخراج صدقة الفطر حتى يتمكن الفقير من شراء حاجاته الضرورية وملابس أطفاله قبل ارتفاع الأسعار باقتراب عيد الفطر السعيد.
والملاحظة الثالثة والأخيرة: بشأن مسجد ومركز عمر بن عبد العزيز في العيزرية، بوابة القدس، فإن أعضاء اللجنة المشرفة على هذا المشروع الكبير بانتظاركم بعد الصلاة لتقدموا ما تجود به نفوسكم لإتمام هذا المشروع الإسلامي الذي هو قلعة من قلاع الإسلام إن شاء الله.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الاجتياحات العسكرية التي تجتاح المدن والقرى والمخيمات تزيد الأمور تعقيداً ومعاناة لهذا الشعب الصابر المرابط الصائم في هذا الشهر الفضيل، وكان آخر هذه الاجتياحات ما هو واقع على مدينة نابلس وضواحيها الآن، وقد حرم المواطنون من أبسط حقوقهم الإنسانية كما حرموا من إقامة صلاة الجمعة اليوم في هذا الشهر الفضيل، ونتساءل هل بهذه الاجتياحات يتحقق السلام المزعوم أو يحقق الأمن المزعوم؟ فأين السلام وأين الأمن والأمان؟
إن وجود الاحتلال هو المتسبب المباشر لكل ما يجري على الساحة الفلسطينية، فلا بد من إنهاء الاحتلال، وإن بقاءه لا يعطيه الشرعية ولا الاعتراف به مهما طال وقت الاحتلال، هكذا قالت لنا وعلمتنا دروس التاريخ في أرض الإسراء والمعراج، وإن كل بداية لا بد وأن تكون لها نهاية، وما بعد الليل إلا الفجر، ودولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
ونقول لإخوتنا المحاصرين في مدينة نابلس وفي كل المواقع: ثبتكم الله، حماكم الله، حفظكم الله، أعانكم الله، وما النصر إلا من عند الله، ولا نملك والله لكم سوى الدعاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وليستمر أبناء عدنان وقحطان في نومهم العميق السحيق، واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وعن أعمالكم تحاسبون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد