بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، واحذَروا أسبابَ سخَطه، فإنّه لا ملجأَ ولا منجى منه إلاَّ إليه، وأنيبوا إليه وتوكَّلوا عليه وأخلِصوا له العملَ تكن لكم العاقبةُ في الدنيا وفي الآخرة.
أيّها المسلمون، إنَّ في السَّير على خُطى سلفِ هذه الأمة وخيارها خيرَ مسلكٍ, لبلوغِ الغاية من رضوانِ الله ونزولِ دار كرامتِه إلى جِوار أوليائه والصَّفوة من خلقه، وقد وجّه الله - تعالى - رسولَه المصطفى صلواتُ الله وسلامه عليه إلى انتهاجِ مناهجِ سلَفِه من أنبياء الله ورسلِه والاقتداء بهم فيما هداهم الله إليه من الحقّ بما أكرمهم به من البيِّنات والهدى فقال عزّ اسمه: \" أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُم اقتَدِهِ \"[الأنعام: 90].
وإنّ من أجملِ ما اتَّصف به الصَّفوة من أهل الإيمان كمالَ الحرصِ على سلوك سبيلِ الإحسان في كلّ دروبِه، والحذر من التردِّي في وَهدَة الإيذاء للمؤمنين والمؤمنات بأيّ لونٍ, من ألوانه وفي أيِّ صورةٍ, من صوَرِه، يحدوهم إلى ذلك ويحمِلهم عليه ذلك الأدبُ الرفيع والخُلُق السامي الذي ربَّاهم عليه ربٌّهم الأعلى - سبحانه - حين بيَّن لهم أنّ الصلةَ بين المؤمنين هي صلةُ أخوّةٍ, في الدين كما قال - تعالى -: \" إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ \" الآية [الحجرات: 10].
الأخوّةُ تعني التراحُمَ والتوادَّ والتعاطُف والقيامَ بالحقوق كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ أنه قال: ((المسلمُ أخو المسلمº لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيهِ كان الله في حاجتِه، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه بها كربةً من كرَب يوم القيامة، ومن ستَر مسلِمًا ستره الله يوم القيامة))[1]. الأخوّةُ تعني أيضًا فيما تَعني كفَّ الأذى، فالمسلم حقًّا من كمُل إسلامه بسلامةِ النّاس من إيذاءِ لسانه ويده وما في حكمهما كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاريّ - رحمه الله - في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن رسولِ الله أنّه قال: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه، والمهاجرُ من هجَر ما نهى الله عنه))[2]. وإذا كان الإيذاءُ باللسان واليد دروبًا شتى وألوانًا متعدِّدة لا تكاد تُحصَر، فإنّ من أقبحِ صوَرِ الإيذاء ما اجتمع فيه اللسانُ واليد معًا، كمن يصِف المؤمنَ بما ليس فيه من صفاتِ السوء، يقول ذلك بلسانِه ويخطٌّه بيمينه ليستحكِم الأذى وليشتدَّ وقعه وليصعُب دفعه، ولذا جاء الوعيد الصادق والتهديد الشديد الزاجِر لكلِّ من آذى مؤمنًا فقال فيه ما ليس فيه، وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داودَ في سننه والحاكم في مستدركِه بإسنادٍ, صحيح عن عبد الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - عن رسولِ الله أنّه قال فذكر الحديث وفيه قوله: ((ومن قال في مؤمنٍ, ما ليس فيه حُبس في رَدغَة الخبال حتى يخرُج مما قال))[3]. ورَدغَة الخبالِ بإسكان الدّال وفتحِها ـ يا عبادَ الله ـ هي عُصارة أهلِ النار، وخُروجُه ممّا قال هو بالتّوبةِ عنه وبأن يستحلَّ ممّن قال فيه تلك المقولَة.
وإنَّ الإيذاءَ كما يقع على آحاد الناس وأفرادهم فإنه يقع أيضًا على المجموعِ منهم كذلك، غيرَ أنّ الإيذاءَ للمجموع أشدٌّ وقعًا وأعظَم ضَررًا لعمومِه وشمولِ التجنِّي فيه.
ومِن ذلك ـ يا عبادَ الله ـ هذا الهجومُ السافر والاتِّهام الجائر الذي تسلَّط سهامُه على المراكز والمخيَّمات الصيفيّة التي دأَبت بعضُ الجهاتِ الرسمية في الدولة وفَّقها الله على إقامتِها كلَّ عام منذ أمَدٍ, بعيد في برامجَ مفيدةٍ, منوّعة معلَنَة، نفع الله بها شبابَنا وغيرَهم، وكانت لهم من العوامِل على إشغال النّفس بالحقّ إن شاء الله.
عبادَ الله، إنَّ من أعظم أسبابِ الإيذاء المفضيةِ إليه اللَّددَ في الخصومة، ولذا كان الألدٌّ الخصِم أبغضَ الرجال إلى الله كما جاءَ في الحديث الصّحيح عن رسولِ الهدَى [4]، وجاء التحذيرُ الشديد لمن خاصَم في باطلٍ, وهو يعلَم وذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داودَ في سننه بإسنادٍ, صحيح عن عبد الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - أنّ رسولَ الله قال فذكر الحديث وفيه قوله: ((ومن خاصم في باطلٍ, وهو يعلَم لم يزَل في سخَط الله حتى ينزِع))[5]، أي: حتى يترُكَ ذلك الذي وقَع فيه، ولذا يتعيَّن على من جُهِل عليه أن لا يقابلَ ذلك الجهلَ بمثلِه طاعةً لله - تعالى -، وحذرًا من الوقوعِ فيما لا يحسُن ولا يجمُل بالمؤمن الذي وصفهُ رسول الله بقولِه في الحديثِ الذي أخرجه أحمدُ في مسنده والحاكم في مستدركه بإسنادٍ, صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله قال: ((ليس المؤمنُ بالطّعّان ولا اللّعّان والفاحشِ ولا البذيء))[6]، ولأنّك كما قال بعض السلف رضوان الله عليهم أجمعين: لن تعاقبَ من عصا الله فيك بشيءٍ, خيرٍ, من أن تطيعَ الله فيه. وبِذا يكون معَك من الله نصيرٌ ما دمتَ على ذلك، وحريُّ بمن لا يقابل الإساءةَ بمثلها ومن لا يدفع الظلمَ بظلمٍ, مثلِه أن يحظى بمعيّة ربِّه وتأييده، \" إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَن الَّذِينَ آمَنُوا \" [الحج: 38].
فاتقوا الله عبادَ الله، واسلكوا مسالكَ الصّفوةِ من عباد الله في سلوكِ سبيل الإحسان والتجافي عن سُبُل الإيذاء في كلِّ صوَرِه تكونوا من المفلحين الفائزين في جنّات النعيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: \" وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا \"[الأحزاب: 58].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّة نبيّه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ, فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
----------------------------------------
[1] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2442)، صحيح مسلم: كتاب البر (2580).
[2] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (10). وأخرجه مسلم في الإيمان (40) مقتصرا على جزئه الأول.
[3] مسند أحمد (2/82)، سنن أبي داود: كتاب الأقضية (3597)، مستدرك الحاكم (2222)، وأخرجه أيضا أبو يعلى في معجمه (84)، والطبراني في الكبير (12/388) والأوسط (6491)، وابن عدي في الكامل (2/388)، وأبو نعيم في الحلية (10/219)، والبيهقي في الكبرى (6/82، 8/332)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/392)، وهو في السلسلة الصحيحة (437).
[4] رواه البخاري في كتاب المظالم (2457)، ومسلم في كتاب العلم (2668) من حديث عائشة - رضي الله عنها -
[5] مسند أحمد (2/82)، سنن أبي داود: كتاب الأقضية (3597)، وهو جزء من حديث ابن عمر المتقدّم.
[6] مسند أحمد (1/404)، مستدرك الحاكم (29/ 30، 31) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (6/162)، والترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة (1977)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، وقال الترمذي: \"حديث حسن غريب\"، وصححه ابن حبان (192)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (320).
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - له الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسولُه، وضع المعالمَ لطريق الهدَى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ في قول رسولِ الله في الحديث الذي أخرجَه الشيخان في صحيحيهما أن أبي هريرة وأبي شريحٍ, - رضي الله عنهما - أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت)) الحديث[1] فيه ما يقيم قواعدَ السلامةِ الاجتماعيّة ويُرسي أسُسَ الحياة السّعيدة الرشيدة، وفي هذا يقول بعضُ أهل العلم: إذا تكلَّم المرء فليقل خيرًا، وليعوِّد لسانَه الجميل من القول، فإنّ التعبيرَ الحسَن عمّا يجول في النّفس أدبٌ عالٍ, أخذ الله به أهلَ الديانات جميعًا، وقد أوضَح القرآن أنّ القول الحسنَ من حقيقة الميثاق المأخوذِ على بني إسرائيلَ على عهدِ موسى - عليه السلام -: \" وَإِذ أَخَذنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسرَائِيلَ لا تَعبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا وَذِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الآية \"[البقرة: 38]، والكلامُ الطيِّب العَذب يجمُل مع الأصدقاءِ والأعداء جميعًا، وله ثمارُه الحلوةُ، فأمّا مع الأصدقاء فهو يحفَظ مودَّتهم ويستديم صداقَتَهم ويمنع كيدَ الشيطان أن يضعِف حبالهم ويُفسِد ذاتَ بينهم، \" وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا \" [الإسراء: 53]. وأمّا حُسنُ الكلام مع الأعداء فهو يطفِئ خصومتَهم ويكسِر حدَّتهم، أو هو على الأقلّ يقِف تطوٌّر الشرّ واستطارةَ شَررِه، \" وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ \" [فصلت: 34].
وفي تعويدِ النّاس لطفَ التعبيرِ مهما اختلفَت أحوالُهم يقول رسول الله: ((ما مِن شيءٍ, أثقل في ميزانِ المؤمن يومَ القيامة من حُسن الخلق، وإن الله يبغِض الفاحِشَ البذيء)) أخرجه الترمذيّ بإسناد صحيح[2]، بل إنّه يرى الحرمانَ مع الأدب أفضلَ من العطاء مع البذاء: \" قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ, يَتبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيُّ حَلِيمٌ \"[البقرة: 263]. والكلامُ الطيِّب خصلةٌ تندرِج مع دروب ومظاهِر الفضلِ التي ترشِّح صاحبَها لرضوان الله وتكتُب له النعيمَ المقيم.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا على الدوام أنّ الله - تعالى - قد أمركم بالصلاةِ على البشير النّذير والسراج المنير، فقال - سبحانه وتعالى- قولاً كريمًا: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
----------------------------------------
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6475) وكتاب الأدب (6135)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (47، 48).
[2] سنن الترمذي: كتاب البر (2002) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وأخرجه دون الجملة الأخيرة أحمد (6/448)، وأبو داود في الأدب (4799)، وقال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حبان (481)، وهو في السلسلة الصحيحة (876).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد