الصبر واليقين طريق النصر والتمكين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

حديثنا اليوم عن معادلة إيمانية نصها: \"الصبر واليقين طريق النصر والتمكين \".

تلك المعادلة الإيمانية نطقت بها الآيات القرآنية، وشهدت بها الحوادث التاريخية، وصدقتها الوقائع الحاضرة، وتثبت كذلك في الوقائع المستقبلية.. ذلك أنها من سنن الله - عز وجل - ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلا.

 

إن الإيمان إذا رسخ في القلب، وإن اليقين إذا تعمّق في النفس تولّد منه الصبر على ما يقّدره الله - عز وجل - من البلاء، وينبثق عن ذلك الثبات على نهج الرسل والأنبياء، ويؤسس كل ذلك على يقين راسخ برب الأرض والسماء، ثم لا يلبث الليل الطويل - من الظلم والعسف والطغيان - أن ينبلج بفجر النصر والعز والتمكين لأهل الأيمان، ولا تلبث القوى الأرضية - التي تتآمر على أهل الأيمان - أن تذهب ريحها، وتتفرق صفوفها، وأن يصبح بأسها بينها شديداً، وأن تكون حصاداً للأيدي المتوضئة تخلص منها البلاد والعباد وتدرأ شرورها عن هذه الحياة.

 

وإذا تأملنا في كتاب ربنا، وفي سيرة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، ثم نظرنا إلى واقعنا الذي نعيشهº فإننا نرى أن تشبث أهل الأيمان بإيمانهم وصبرهم على ما يلاقون في طريق الأيمان والدعوة والجهاد في سبيل الله وثباتهم دون تغيير ولاتبديل هو الذي يؤذن - بإذنه - سبحانه وتعالى- أن ينزل نصر الله - جل وعلا - وأن يعجّل به، وأن يعجّل بهزيمة أعداء الله - سبحانه وتعالى-.

 

والصبر واليقين هما عمادا الإمامة في الدين، والله - جل وعلا - يقول: {وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

والله - سبحانه وتعالى- خاطب نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فاصبر إن وعد الله حق}.

الصبر لا يدوم، والثبات لا يستمر إلا عندما يكون القلب موصولاً بالله، والثقة عظيمة في نصر الله، واليقين لا يعتريه الشك في وعد الله - عز وجل -، وذلك يثبت المؤمن بإذن الله - عز وجل -، كما قال - سبحانه وتعالى-: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.

 

وانظر إلى الأمر الرباني الذي يوصي أهل الأيمان بأن لا يحيدو عن نهجه قيد شعره، وأن لا يغيروا ولا يبدلوا.. {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطو واتقوا الله لعلكم تفلحون}.

إنه الصبر والمصابرة والمرابطة والاستمرار والثبات الموصول بيقين راسخ في الله - عز وجل -: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}.

ويأتي هذا الفلاح في صورة طمأنينة في القلوب، وسكينة في النفوس، وثبات في الأقدام، ووضوح في الحجة والبرهان في هذه الحياة الدنيا.

 

ثم كذلك يتجلى في صور من النصر، وفي صور من الظفر لم تكن تخطر على بال ولا ترتبط ولا تتلائم مع القوى الضعيفة والعدة القليلة لأهل الأيمان في مواجهة أهل الكفر والطغيان والعاقبة من بعد ذلك عند الله - عز وجل -: {جنات عرضها السماوات والأرض}.

وإذا أردنا إن نستقرئ الأحداث والشواهد من كتاب ربناº فإننا نرى ذلك التصوير القرآني الفريد البديع، الذي يبيّن كيف ينبغي أن يرتبط المؤمن بإيمانه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة، مهما أدلهمت الظروف، ومهما تكالب الأعداء، ومهما حصل من أسباب هذه الحياة الدنيا يعيق عن المضي في طريق اللهº فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يتراجع ولا أن يتخاذل مطلقاً.

 

انظر إلى الوصف الرباني لأهل الأيمان الصابرين {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو إنا لله وإنا إليه راجعون} لم يلتفتوا إلى شرق ولا إلى غرب إذا حلت بهم النكبات، لم ينظروا إلى قوى الأرض ولكن التجأوا قوة رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض - سبحانه وتعالى-.

{الذين إذا أصابتهم مصيبة}لم يشكوا، لم يرتابوا، لم يغيروا، لم يبدلوا، لم ينافقوا، لم يداهنوا، لم يجاملوا في دين الله - عز وجل -، وإنما ظلت حبالهم موصولة بربهم، ويقينهم راسخ في دينهم، وثباتهم على كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، يقتفون في ذلك آثار الرسل والأنبياء {حَتَّى إِذَا استَيأَسَ الرٌّسُلُ وَظَنٌّوا أَنَّهُم قَد كُذِبُوا جَاءهُم نَصرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدٌّ بَأسُنَا عَنِ القَومِ المُجرِمِينَ}.

 

إنها المعادلة الإيمانية الآيات القرآنية، والسنة الربانية التي لا تتخلف ولا تتغير أبداً {لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِّأُولِي الأَلبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفتَرَى وَلَـكِن تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصِيلَ كُلَّ شَيءٍ, وَهُدًى وَرَحمَةً لِّقَومٍ, يُؤمِنُونَ}.

وانظر إلى قصة يوسف - عليه السلام - لترى هذه المعادلة الإيمانية واضحا ًفي قصة فردية، فإذا بيوسف - عليه السلام - من غيابة الجب وظلمته، إلى رحابة الأرض وسعتها، ثم إذا به من ذل الأسر إلى عزّ القصر، ثم بعد ذلك من ظلمة السجن إلى سدة الحكم.. ثبات وصبر وارتباط بالله، بإذنه - عزوجل - يفرج كل كرب، وينفس كل هم، ويزيل كل ضائقة

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج

 

وانظر إلى المثل الآخر في قصة جماعية، قصّها الله - جل وعلا - علينا من قصص الأمم الغابرة، وهي من أكثر القصص القرآنية تكرراً في كتاب الله - عز وجل -.. قصة فرعون، وهي متشعبة متعددة الجوانب متكاثرة في أسلوب عرضها في كتاب الله - سبحانه وتعالى-، ومن ذلك العرض الذي جاء إيجازه في بعض صور القران قوله - جل وعلا -: {إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعاً يَستَضعِفُ طَائِفَةً مِّنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءهُم وَيَستَحيِي نِسَاءهُم إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُم فِي الأَرضِ وَنُرِي فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَّا كَانُوا يَحذَرُونَ}.

هذه إرادة الله ولا راد لقضاءه وإرادته - سبحانه وتعالى- {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُم فِي الأَرضِ وَنُرِي فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَّا كَانُوا يَحذَرُونَ}.

 

والله - سبحانه وتعالى- قد ذكر لنا من سيرة المصطفي - صلى الله عليه وسلم - أمثلة كثيرة، غير أن منها مثلاً فريداً ظاهراً في هذا الأمر، في صبر أهل الإيمان ويقينهم بالله، وما يترتب على ذلك من النصر والتمكين لهم بإذن الله، وتتجلي هذه الصورة في أهل النفاق.. في ضعف يقينهم، وزوال أيمانهم، وفي حرصهم على دنياهم، وفي تخذيلهم للصفوف، وتفتيتهم لعرى الروابط في صفوف أهل الأيمان.. ذلكم هو الوصف القرآني لما كان من شأن الأحزاب الذين تألبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وليس أبلغ من وصف القرآن {إِذ جَاؤُوكُم مِّن فَوقِكُم وَمِن أَسفَلَ مِنكُم وَإِذ زَاغَت الأَبصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنٌّونَ بِاللَّهِ الظٌّنُونَا * هُنَالِكَ ابتُلِيَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالاً شَدِيداً}.

 

اجتمع عليهم شدة الخوف، مع شدة الجوع، مع شدة البرد، ولم يكن هناك بارقة أمل، ولم يكن هناك في نظر أهل الارض وأهل النظرات المادية مهرباً ولا منفذاً! إنما كان الفناء الماحق والهلاك المتحقق، وزلزلوا زلزالاً شديداً.

ثم يأتي وصف القرآن لأهل النفاق بعد إن مرت بهم هذه الظروف، فيقول - جل وعلا -: {وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}

كان أحدهم يقول: \" إن محمد - صلى الله عليه وسلم - يعدكم بكنوز كسرى وقيصر، وإن أحدكم لا يستطيع إن يمضي خطوات ليقضي حاجته! \".

 

{وَإِذ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنهُم يَا أَهلَ يَثرِبَ لَا مُقَامَ لَكُم فَارجِعُوا.. }.

أما لكم بهذه القوى المجتمعة والمؤامرات العظيمة والأسلحة الفتاكة والخطط المحكمة!

{وَيَستَأذِنُ فَرِيقٌ مِّنهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَورَةٌ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ, إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}

جبناً وخوفاً وهلعاً.. كفراً ونفاقاً، ولذلك جاء هذا الوصف القرآني يعري صورتهم، ويكشف حقيقتهم، ويضرب المثل بأشياعهم ونظرائهم في كل مجتمع إسلامي وفي كل زمان ومكان.. {وَلَو دُخِلَت عَلَيهِم مِّن أَقطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتنَةَ لَآتَوهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً {14} وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبلُ لَا يُوَلٌّونَ الأَدبَارَ وَكَانَ عَهدُ اللَّهِ مَسؤُولاً}.

 

ذلك وصف أهل النفاق، فانظر إلى وصف أهل الصبر والإيمان واليقين، الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظل هذه المحنة العصيبة، وفي ظل محاصرة هذه القوى الرهيبة.. {وَلَمَّا رَأَى المُؤمِنُونَ الأَحزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُم إِلَّا إِيمَاناً وَتَسلِيماً * مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَّن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً * لِيَجزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاء أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}

هذه مواقف المؤمنين.. هذه مواقف الصابرين.. هذه مواقف أهل اليقين، وهذه كلمات أهل الثبات، الذين لا يشكون لحظة في وعد الله، ولا يعتريهم التزعزع أو التردد في دين الله - عز وجل -، يظل الواحد منهم ثابتاً واقفاً راسخاً لا يتزعزع.. فعلى أي شيء انتهي الأمر؟ وبأي شيء انجلى الموقف؟

 

إنها الآيات القرآنية تذكر لنا في صورة رائعة مشرقة كيف كان نزول النصر، وكيف كان بداية التمكين، لم تردهم السيوف ولا القوى ولا الخطط، وإنما هي قوة الله - عز وجل -، وإنما هو نصر الله الذي تنزل {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِم لَم يَنَالُوا خَيراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّن أَهلِ الكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرٌّعبَ فَرِيقاً تَقتُلُونَ وَتَأسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَورَثَكُم أَرضَهُم وَدِيَارَهُم وَأَموَالَهُم وَأَرضاً لَّم تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيراً}.

 

هذا كتاب ربكم، وهذه سنة نبيكم، فهل أنتم في شك من دينكم؟

لابد أن نقوى اليقين بدين الله - عز وجل - وبوعد اللهº إذ حيث تكالب الأعداء في هذا العصر فتّ ذلك في عضد بعض المؤمنين، وأضعف إيمانهم، والتمسوا الدنية في دينهم، وأعطوا التبعية لأعدائهم، ومنحوا بعض الذل والولاء والمداهنة لأعداء الله - عز وجل -.

 

وماذا بعد هذا؟ إنه مصير أهل النفاق يتكرر، أما إذا رجعت الأمة إلى ربها، وتذكرت ذلك الوصف القرآني {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مٌّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيهِ رَاجِعونَ}

 

إذا مدّت الحبال مرة أخرى إلى الله.. إذا رفعت الأكفٌّ مرة أخرى إلى الله.. إذا سجدت الجباه مرة أخرى ذله لله.. إذا ترابطت الصفوف وتوحدت الأمة على منهج اللهº فإن نصر الله متنزل، وإن طريق التمكين ممهد.

 

لقد خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً، وجاهد بعد ذلك عشر سنين، وثبت - عليه الصلاة والسلام - ثم جاء بعد ذلك إلى مكة التي خرج منها مهاجراً عاد إليها فاتحاً وجاء بعصاه وهو يطيح بهذه الأصنام من حول الكعبة، ويقرأ قول الله - عز وجل -: {وَقُل جَاء الحَقٌّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}.

ولقد اعترى بعض صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - نوع مما يعتري النفوس البشرية، وجاءه خباب بن الأرت - وكان من المعذبين المضطهدين الصابرين في مكة وقال له: يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟

فذكّره النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالميشار ـ المنشار ـ فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)

 

ولذلك أريد أبيّن أن بعض مشاهد الواقع عندما يأذن الله - عز وجل - بأن تعود فئة من الأمة إلى ربها، وأن يسوق لها من الأحداث والمحن من يذكرها بحقيقة ضعفها وتقصيرها في إلتزامها دين الله - سبحانه وتعالى- أن ذلك يجسّد مره أخرى هذه المعادلة الإيمانية والسنة الربانية.

 

وانظروا إلى أحداث الأمة وإلى أشدّ قضاياها قساوة ومعاناة.. انظروا إلى كل الجرائم والفضائع التي تصبّ على المسلمين.. انظروا إلى بشاعة وفضاعة وقسوة أعداء دين الله - عز وجل -، ثم انظروا إلى ما انبثق في القلوب من صبره وما سكب ا لله عزوجل فيها من يقين، وما ثبت به الأقدام فلم تتزعزع والقلوب فلم تشك ولم ترتاب.

 

ثم انظروا إلى بعض الصور في هذه الوقائع: انظروا إلى إخواننا في البوسنة والهرسك.. انظروا إلى إخواننا في كشمير، إلى إخواننا في طاجكستان وفلسطين.. انظروا إلى شرق الأرض وغربها حيث يضطهد المسلمون، حيث يعذبون، حيث يحاربون.

انظروا.. فماذا ترى؟ قد يرى الرائي إذا نظر بغير منظار إيمان صورة سوداء أو شوهاء، ويدقّ في قلبه بأس عجيب، ويظن أن الأمر قد قضي، وأن الأمة لابد أن تتراجع وأن تتخاذل، وأن تعطي لأعدائها ما يشاؤون!

إلا أن الناظر بنظر الأيمان يرى مثل هذه الصور تتجلى من جديد.. إخواننا في البوسنة والهرسك الذين ظن الأعداء - الذين تكالبوا عليهم بصورة تشبه بل قد تكون أشد مما تكالب الأعداء يوم الأحزاب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءهم صرب وكروات، ومن ورائهم قوي عظمى، ومن ورائهم دول، ومن ورائهم حيل وسياسات ومؤامرات.. ومع ذلك مازال صمودهم وثباتهم بحمد الله - عز وجل - راسخاً! بل قد رجع كثير منهم إلى الله - عز وجل -، وأصبح لسان حالهم يردد: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، وأصبح حالهم كأنه يمضى إلى تحقيق الوصف الرباني {وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.

 

ولسان حالهم يذكرنا بما قص الله علينا من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ}.

هل ترونهم ينظرون إلى مدد من شرق أو غرب وهل تروهم يعتمدون على قوة مادية أو عسكرية.

ومع ذلك انظروا على ما فتح الله عليهم ومن النصر والإيمان، وقبل ذلك إلى ما سكب في قلوبهم من اليقين والطمأنينة، ومن رجوعهم إلى ربهم وصلتهم بمولاهم، وخضوعهم له - سبحانه وتعالى-.. وإذا بهم يرجعون إلى القرآن، وإلى حلق الذكر، وإذا بنسائهم يمضين في طريق فيه التذكر ولبس الحجاب.. وغير ذلك من الأمور.

 

ثم انظروا إلى ما فتح الله عليهم، فإذا بهم اليوم في الآونة الأخيرة ينتصرون، ويعجب المرء كيف ينتصر الضعفاء العزل المحاصرون الذين ليس في ديارهم ماء ولا كهرباء ولا كساء ولا غذاء، كيف يكون مثل هذا؟ كيف ينتصرون ويفتحون فآريس وخمس مدن وقرى كرواتيه، ويطردون عشرات الآلاف من أولئك الأراغل الأعداء؟

 

كيف يثبتون هذا الثبات في سراييفو العاصمة التي كل لحظة يتهدد أصحابها وسكانها الموت، إما برصاص وإما بقذاف وإما بجوع وإما بأية صورة من الصور.

يحصد الموت الناس حصداً، ومع ذلك تجد الواحد منهم يقول: \" ثابتون صامدون، وبقضاء الله - عز وجل - راضون \".

 

وانظر إلى فضاعة أعداء الله - عز وجل - وإرهابهم وتطرفهم، وكل الأوصاف الذميمة التي يريدون إلصاقها زوراً وبهتاناً بأهل الإسلام والإيمان هي فيهم.

وكان الناس يذكرون الصرب، وأنهم ظلمة، وأنهم قساة، وأنهم طغاة، فجدد الكروات ما أنسى سيرة الصرب..

ونعلم قصة القرية التي أحرقوها عن بكرة أبيها ومن فيها من رجالها ونساها وأطفالها وبيوتها، حتي أذهلوا الناس والعالم أجمع، ومع ذلك ما فتّ ذلك في عضد أهل الأيمان، وما رفعوا أيديهم استسلاماً، وما قالو حسبنا هذا! وإنما قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل}.

 

وانظروا إلى إخواننا في كشمير اليوم، وهم قد حوصروا في أعظم مسجد من مساجدهم \" مسجد حضرة أبال \" يحاصره خمسة عشرة ألف جندي، والطائرات المروحية والقوات، ومنع التجول، وبعد ذلك يحصدون، وإذا بالحصاد في بضعة أسابيع يبلغ مئات، ومع ذلك ما يزالون صامدين، وما يزالون في أوج مواجهتهم وجهادهم، يتمسكون بالله - عز وجل - وبكتابه، وبهدى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويثقون بالنصر ثقة ليس فيها شك.. حتى يقول قائد من قوادهم، وهو من زعماءهم الكبار: \" إن الجهاد في كشمير ماضٍ, في طريقة حتى نهايته المنطقية، وإن الشعب الكشميري قد وصل إلى منطقة اللا عودة \".

 

بل علماء الأيمان والإسلام في تلك الديار يحثون المؤمنين على الصبر والثبات والصمود، وعلى أن لا يضعفوا وأن لا يجبنوا أمام أعداء الله - عز وجل -، ويفتون بكفر من يكون عوناً للأعداء على المجاهدين والمسلمين في أرض كشمير المسلمة.

 

وانظروا إلى كل مكان، وانظروا إلى إخواننا في أرض الإسراء وما قد أثلجوا به صدورنا مما يظهرون من مظاهر القوة والاستعلاء {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.

صبر وثبات لا يتغير ولا يتبدل، مع استقامة على أمر الله وشرع الله والصياح والهتاف: \" الله اكبر.. الله أكبر \".

والأيدي المرتفعة متوضئة، وهي ترفع في أيديها المصافح تغيرت بعض ملامح الأمة، فاصطلحت في بعض أحوالها وأشخاصها وديارها مع الله - عز وجل -، فجاءها بعض هذا النصر، وارتسمت لها بعض مسالك التمكين..

فالله الله في تجديد ما ذكر الله - سبحانه وتعالى- من هذه السنن، وأن تكون أوثق بالله - عز وجل -، أوثق بنصرة ووعده من كل شئ في هذه الارض ومن كل قوة في هذه الدنيا، والله لتعلمن نبأه بعد حين، والله منجز وعده، ومنزل نصره.

 

الخطبة الثانية

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

إذا تأمل العبد وجد الحكمة التي جاءت على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، تبين لنا الطريق وتعرفنا به، فلسنا في جهل وعماية، بل الأمر واضح بيّن.

فهذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)

فليس الطريق مفروش بالورد، وليس على جانبيه أسباب الأمن والسلامة والسلام، وإنما هو الطريق الذي فيه ذلك البذل والصفق مع الله - عز وجل -: {اللّهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعداً عَلَيهِ حَقّاً فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ}

 

إنها السنة التي ذكرها الله - عز وجل - بقوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لَا يُفتَنُونَ * وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ}.. {أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَّسَّتهُمُ البَأسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللّهِ قَرِيبٌ}

 

نعم أيها الأخوة نحن في وقت عصيب، وفي محنة شديدة، وإخواننا في مشارق الأرض ومغاربها يعانوا الأمرين من أعداء هذا الدين، الذين تظهر فيهم الآن صورة حقيقية واضحة لا غبش فيها، ولاشك فيها مطلقاً.. صورة تتجلى فيها صفات الكفر والكافرينº لما فيهم من عداء ومن قسوة ومن حقد حسد، ومن انعدام الإنسانية وانسلاخ الفطرة وانعدام كل معنى من المعاني الشريفة والقيم الفاضلة.. كل ذلك يتجسد واضحاً كما اخبرنا الله - عز وجل - به في قوله - جل وعلا -: {لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة}

 

والسؤال الذي يتبادر ألي أذهاننا، ونختم به هذه الوقفة هو ما دورنا؟ وماهي مهمتنا؟ هل نحن متفرجون أم نحن مشجعون؟

إن التشجيع لو أردنا أن نأخذه بمبدأ التشجيع الذي نعرفه في ميادين التشجيع المشهورة المعروفة هو في حقيقته موقف إيجابي، إن المشجعين نراهم بأم أعيننا لا يجلسون على مقاعدهم، بل كلما جرت حركة في الميدان تحركوا وقاموا، وإذا بهم أيضاً يهتفون، وإذا استدعي الأمر يغضبون، وإذا استدعي الأمر بعد ذلك ربما يتحركون وينصرون أو يشتبكون.

 

أن هذا لم يكن منهم إلا من تحريك قلوبهم وتحرقها وحماستها ومحبتها وغيرتها.. أفيكون ذلك في أمور من اللهو أو في أمور عارضة من أسباب هذه الحياة ومن زينتها ومن زخرفها، ولا يكون ذلك في أمر من أعظم أسس الحياة، ومن أعظم مهمات الإنسان المسلم في هذه الحياة في أمر دينه وأمته وإخوانه المسلمين!

إنه لابد إن تنبض هذه القلوب بالمحبة، وأن تمتلئ بالولاء والنصرة، وأن تعظم فيها الغيرة على دين الله والحرقة والأسى والحزن على أحول الأمة، ولا يكون ذلك ونحن ساهون لا هون، ونحن نملأ البطون ونضحك ملء أشداقنا، ونأكل ملء بطوننا، وننام ملء عيوننا.. فما ذلك حال المشجعين الذين نعرفهم؟

 

إن أولئك يسعون إلى الميادين لينظروا، فاسعوا إلى أن تعلموا أخبار إخوانكم، وأن تعرفوا أحوالهم، وأن تكونوا بعد ذلك ورائهم قلباً وقالباً، بدعاء في السحر وفي جوف الليل وفي أدبار الصلوات وفي سجودها، حتى يأذن الله - عز وجل - بأن ينصر وأن يُمكّن.

 

وكونوا أيضا مع إخوانكم بأموالكم وبدعمكم وبذلكم في سبيل الله - عز وجل -º فإن الجهاد بالمال من أعون أسباب النصر لهذه الأمة ولإخواننا المجاهدين والمضطهدين في كل مكان.

وليكن لنا من وراء ذلك أيضاً ما نتحرك به لنصرة هذا الدين، ببيان الدروس والعبر، وبيان المواقف المشرقة، وبيان المواقف البطولية الإستشهادية، التي يظهر فيها عيوب كفة القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في مواقع شتى في أماكن عديدة.. إذا بنا نرى صوراً تنشرح لها صدور المؤمنين، ويفرح لها أهل الأيمان عندما نرى آلاف أم من أعداء الله وهم يخشون واحداً أو اثنين إذا كبر أحدهم، أو إذا صاح بآية من آيات القرآن الكريم، وإذا بالصفوف تنفلّ، وإذا بالجموع تتفرق، وإذا بواحد أو فئة قليلة تنصر بإذن الله - عز وجل - كما وعد الله - عز وجل - في كتابة الكريم.

 

لابد أن ننقل هذه الأخبار المفرحة حتى يزول بعض اليأس الذي عرى النفوس وغزى القلوبº فإن المؤمن لا ييأس من روح الله، ولا ييأس من روح الله لا القوم الكافرون والقانطون، وليس المؤمن بكافر ولا قانط، إنه واثق بنصر الله وثقته بالله - عز وجل - عظيمة.

 

ينبغي أن نلقن الأمة وأن نشيع في صفوفها هذه الدروس، وينبغي أن نرتقي بمستوانا ومستوى من حولنا ومستوى من حولنا عن سفاسف الأمور وصغائرهاº فإنه لا يليق أن تكون الأمة محاصرة، وأن يكون أعداء الله قد جدوا لحربها وفي إنزال البلاء بها، ثم يكون انشغالنا بالدون من الأمور، وبالتافهة من القضايا، دون أن تكون مهمتنا هي أن ننصر ديننا، وأن نحمي أمتنا، وأن نرعى نشأنا، وأن ننشئ جيلنا نشأة تجدد لنا ذكر أبى بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة وأئمة الأمة من سلفها رضوان الله عليهم.

 

إن بإمكاننا أن نظهر في نفوسنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا نصر الله - عز وجل - فيتنزل علينا بإذنه - سبحانه وتعالى- النصر {إن تنصروا الله ينصركم}

ونصركم دين الله - عز وجل - يكون أول شيء باستقامتكم على أمره.. بالتزامكم حكمه.. باتباعكم هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

 

والثبات الثبات.. لاشك ولا ريب، ولا مداهنة ولا نفاق، ولا تراجع ولا ضعف، وإنما هو المضي وذلك هو الذي كان ويكون في كل وقت وآن، كلما ازدادت المحنة وكان الأيمان عظيماً كلما ازداد أثر هذا الإيمان وتجلت صورة وظهرت آثاره وأشرقت أنواره، فإذا بها تبدد بعد ذلك كلما يعتري النفوس من ضعف أو خور أو ذلة أو قنوط ويأس..

 

وذلك ما ينبغي أن يكون فيما بيننا، وأن نشيعه في صفوفناº فإن هذه الأمة لم ولن تهزم قط مادامت متمسكة بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

وفي أتون المحنة وشدتها في وقعة الأحزاب كبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع خبر خيانة اليهود، وكان خبراً كالطعنة النجلاء من الخوف قال: (الله أكبر الله أكبر أبشروا أبشروا).

البشارة بأنه علم أن الأمة مؤمنة بربها، وواثقة بالرسولº ولأنها أمة ملتحمة متلاصة متوحدة فلا خوف عليها من أعداءها، وإنما الخوف من أنفسنا.. من ضعف إيماننا.. من كثرة معاصينا.. من تفرق صفوفنا.. من مجاهرتنا بالمعصية لله - عز وجل -.. من إعطائنا ولاءنا لغير الله - سبحانه وتعالى-، ولغير عباد الله المؤمنين..

 

هنا يكمن الخطر، وهنا تأتي الثغرات.. فالله الله في دينكم، والله الله في نصرة إخوانكم، والله الله أن يؤتي هذا الدين من قبلكم، فليكن كل منكم على ثغرة، وليكن كل منكم قائم بأمر الله - عز وجل - في نفسه أهله ومجتمعهº حتى يعجّل الله - عز وجل - بالنصر والتمكين إنه الولي على ذلك والقادر عليه.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply