الإسراف مظاهره وأضراره


 

بسم الله الرحمن الرحيم

نِعَمُ الله - سبحانه - عليكم متوالية، وخيراته مترادفة، أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، فاشكروا الله إن كنتم إيَّاه تعبدون، ولا تكونوا ممَّن بدَّل نِعَمَ الله كفراً وجحوداً، وعصياناً وإعراضاً، ومن قام بشكر نعم الله عليه فهذا سوف يعود خيره عليه ((وَمَن يَشكُر فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ حَمِيدٌ)) (لقمان: 12).

إن من الشكر لله - سبحانه - أن يقتصد المرء في مُتَعِ الحياة من مأكلٍ, ومشربٍ, وملبسٍ, ومسكنٍ, وغير ذلك، ففي هذا امتثال لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم-  وحِفظ لمال الإنسان وصحته.

قال الله - تعالى- آمراً بالتوسط في جميع الأمور ولا سيَّما الإنفاق والأكل والشرب: ((وَلاَ تَجعَل يَدَكَ مَغلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبسُطهَا كُلَّ البَسطِ فَتَقعُدَ مَلُومًا مَّحسُورًا)) (الإسراء: 29).

وقال عن عباد الرحمن: ((وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَم يُسرِفُوا وَلَم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا)) (الفرقان: 67).

وقال - تعالى- : ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ, وكُلُوا وَاشرَبُوا وَلاَ تُسرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبٌّ المُسرِفِينَ)) (الأعراف: 31).

والإسراف هو الإفراط ومجاوزة الحدِّ الذي هو القصد [تفسير القرطبي 4/231] فما جاوز به المرء أمرَ الله فهو سَرفٌ وإسراف.

ومن الإسراف التبذيرُ وهو إنفاق المال في غير حقِّه، وقال قتادة: ((التبذير هو النفقة في معصية الله)).

هذا وقد نهى الله عن التبذير فقال: ((وَلاَ تُبَذِّر تَبذِيرًا * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)) (الإسراء: 26 -27)

سُئِلَ ابن مسعود عن المبذرين فقال - رضي الله عنه -: (الذين ينفقون في غير حقّ). وقال مجاهد: (لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مدَّاً في غير حق كان مبذراً).

 ومن كلام وهب بن منبه أنه قال: (من السَّرفِ أن يلبس الإنسان ويأكل ويشرب مما ليس عنده، وما جاوز الكفاف فهو التبذير).

عليكم بالقصد والتوسٌّط في جميع الأمور فهذه الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، والحسنة بين سيئتين، فمن زاد في أكل أو شرب أو نوم أو ملبس أو مركب أو مسكن أو شراء ما يعنٌّ بخاطره ففيه من الإسراف والتبذير بحسبه.

 

والمبذر يشتري كل شيء، حتى ربما استدان مبلغاً من المال واشترى من الكماليات ما لا يُحتاج إليه إلا مرة واحدة كل خمس سنوات، ولربما حمَّل نفسه مشقَّة الديون في أمور لا قيمة لها، والحياة تستقيم بدونها، ولربما سأل الناس واستجداهم بسبب التوسع في أمور لا تصلح إلا للأغنياء القادرين والله - تعالى -يقول: ((لِيُنفِق ذُو سَعَةٍ, مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَليُنفِق مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجعَلُ اللَّهُ بَعدَ عُسرٍ, يُسرًا)) (الطلاق: 7).

 

فالعاقل يدبر معيشته الدنيوية بعقل ولا يجاري غيره ويباهي بالأثاث واللباس والمركب والمسكن وغير ذلك، فإن كان فقيراً فالواجب عليه أن يجتهد في الكسب ويدأب في العمل ليكفَّ نفسه عن الذٌّلِّ للخلق مستصحباً القناعة بما كتبه الله له مبتعداً عن مسابقة الأغنياء والقادرين، وأما إن كان غنياً فعليه أن ينفق باعتدال وليتذكر بأن كثرة الأموال عنده لا تبيح له الإسراف والتبذير، وعليه أن يوقن بأنه مسؤول عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، هذا فضلاً عن أن تدبير النفقة يحميه بإذن الله من الفقر وقد قيل:

قَلِيلُ المـَالِ تُصلِحُهُ فَيَبقَى *** وَلا يَبقَى الكَثِيرُ مَعَ الفَسَادِ

والمبذر مع هذا يعرِّض نفسه للعين والحسد والحقد عليه، والمبذر للأموال متشبه بأفعال الشياطين، متَّبع للهوى بعيد عن الحق متعرض للذل والحاجة.

(الإسراف داء قتَّال ينبت أخلاقاً سيئة، ويهدم بيوتاً عامرة، الجبن والظلم من آثاره، وقلَّة الأمانة من نتائجه، والإمساك عن البذل في وجوه الخير من صنائعه). [توجيهات وذكرى لابن حميد 4/225].

 

إنه طريق إلى الغفلة والترف وهما من أسباب سوء المصير، قال الله - تعالى -: ((وَلَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا)) (الكهف: 28).

وقال - سبحانه -: ((إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدٌّنيَا وَاطمَأَنٌّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النٌّارُ بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ)) (يونس 7-8).

 

فالمسرف غافل عن أوامر ربه ونواهيه، غارق في شهواته وملذاته، آمنٌ من تقلبات الدهر ومداولة الأيام، فكم من عزيزٍ, ذَلَّ، وكم من غني افتقر، وكم من أناس بدلوا نعمة الله كفراً فحلَّت بهم النكبات.

ومما يذكر في التاريخ: أن أمَّ الوزير (يحيى البرمكي) دخلت على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه فقالت: لقد مرَّ علي مثل هذا العيد وإن عند رأسي أربعمائة جارية يخدمنني وأنا مع هذا أرى أن ابني يحيى عاقُّ لي (أي أنها تستقل مثل هذا العدد من الخدم وتودٌّ لو أنه أكثر).

 

من الإسراف ما يكون في الأكل والشٌّرب، وقد سمعنا قوله - تعالى -: ((وكُلُوا وَاشرَبُوا وَلاَ تُسرِفُوا)) (سورة الأعراف: 31).

وكثرة الأكل سبب للبِطنة والسٌّمنة ومُكسلة عند الصلاة ومُذهبة للفطنة، قال علي بن الحسين - رضي الله عنهما -: جمع الله الطبَّ في نصف آية ثم تلا: ((وكُلُوا وَاشرَبُوا وَلاَ تُسرِفُوا)).

ولقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم-  تقدير الغذاء بياناً يغني عن كلام الأطباء حيث قال: ((مَا مَلأَ آدميُّ وعاءً شرَّاً من بطنِه، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٍ, يُقِمنَ صلبَهُ، فإن كانَ لا محَالة فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وثُلُثٌ لشرابِهِ وثلثٌ لنَفَسِهِ)).

وقال عمر لابنه عاصم - رضي الله عنهما -: (كل في نصف بطنك ولا تطرح ثوباً حتى تستخلفه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم).

وقال بعض السلف: (كلٌّ العيش قد جرَّبناه، فوجدناه يكفي منه أدناه).

ومن كلام الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: (الدنيا قليلها يجزي وكثيرها لا يجزي).

المرء الموفَّق إذا وسَّع الله عليه اعتدل في الإنفاق على نفسه وأولاده فلا تقتير ولا إسراف، وأما أعمال البِرِّ ووجوه الخير فينفق عليه بلا حدٍّ,، وحين قال العلماء:لا خير في الإسراف.قالوا: لا تمنع كثيراً في حقٍّ,.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply