بسم الله الرحمن الرحيم
9- العفو عن أخطاء الناس، ومقابلتها بالإحسانº امتثالاً لقوله - تعالى -: (وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ).
قال العلامة السعدي: \"أي فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصاً من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصله، وإن ظلمك فاعف عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هجرك وترك خطابك، فطيِّب له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة\"[1].
وقال العلامة الشنقيطي: \"فإن ذلك الإحسان وذلك الحلم والصفح يقضي على إساءته ويذهبها حتى يضطر إلى أن يصير في آخر الأمر من أصدق الأصدقاء\"[2].
ثم قال - عز وجل - بعد تلك الآية: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,).
قال السعدي: \"أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان\"[3].
نعم، فإن هذه لخلة شديدة على النفس، لا يستطيعها إلا رجلٌ موفقٌ، قد تَسَنَّمَ ذِروَةَ المجد، وأمَّ معالي الأمور، فكرُمت خليقته، ونبُلت نفسه، وجزُلت مروءته، فهمتٌّه قصيِّة المرمى، رفيعة المناط، قد تخطى هذه الأقذاء، وجاوز هاتيك الحفر، فلم تلن قناته لغامز.
وإن المتأمل لحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليجد هذا الخلق الكريم، قد أخذ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بحظ وافر، وإليك شيئاً من ذلك:
تقول عائشة - رضي الله عنها -: \"ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله\" أخرجه البخاري[4] ومسلم[5].
ويقول أنس - رضي الله عنه -: \"كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداءٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء، من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضحك، ثم أمر له بعطاء\" أخرجه البخاري[6] ومسلم[7].
وفي رواية عند مسلم \"ثم جبذه إليه جبذةً، رجع نبيٌّ الله - صلى الله عليه وسلم - في نحر الأعرابي\".
وفي رواية أخرى عند مسلم \"فجاذبه، حتى انشق البُردُ، وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -\".
سبحان الله! ما أعظم أخلاق هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي تملأ الصدور عظمة وإجلالاً، كيف قابل نزَقَ هذا الأعرابيِ وطيشَه، بهذه الأريحية، وهذا الندى؟! إنها رفعةٌ لا تسامى، وعظمةٌ لا تغالب.
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا * منها، وما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائلٌ * يغرى بهن، ويولع الكرماء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: \"فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم ينتقم لنفسه، مع أن أذاه أذى الله، ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرفُ الأنفس وأزكاها وأبرها، وأبعدُها من كل خلق مذموم، وأحقُها بكل خلق جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها، وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها\"[8].
وعلى هذا النهج النبوي سار شرفاء الناس وعظماؤهم، وسأذكر مثالاً واحداً فقط - والأمثلة كثيرة - على ذلك.
فهذا إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل، الذي استبطن دخائل العلم، وخاض عُبابه، قد لاقى في فتنة القول بخلق القرآن الألاقي، من سَجنٍ, وأغلالٍ,، وجَلدٍ, يصل إلى أن يفقد الإمام وعيه، وحَبسٍ, في بيته يُمنع فيه إلى الخروج للصلاة، طيلة أربعة عشر عاماً، ومع ذلك كان يقول: \"كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني: المعتصم - في حل، ورأيت الله يقول: (وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا أَلا تُحِبٌّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم..) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالعفو في قصة مسطح\" ثم قال الإمام أحمد: \"وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك\"[9].
الله أكبر، إنه التوفيق الإلهي، وإذا أراد الله بعبد خيراً غرس فيه طباع الخير، فيبذلها بلا كلفة، أسلس من الماء.
ألا وإنه يحسن هنا إيراد بعض ما يستعان به في تطبيق هذا الخلق الكريم، وقد بسط الكلام في ذلك أحسن بسط شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة الصبر، وهي جماع لما مضى، وجمع لما انتثر في هذا الباب.
يقول - رحمه الله -: \"ويعين على هذا الصبر عدة أشياء:
1- أن يشهد أن الله - سبحانه وتعالى - خالق أفعال العباد، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تسترح من الهم والغم.
2- أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم.
3- أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر، كما قال - تعالى -: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ, سَيِّئَةٌ مِثلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ.. )، ويشهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام، فإنه يسهل عليه الصبر والعفو.
4- أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلاً وآجلاً، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافاً مضاعفة، ويدخل في قوله - تعالى -: (وَاللَّهُ يُحِبٌّ المُحسِنِينَ).
5- أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلاً يجده في نفسه، فإذا عفا أعزه الله - تعالى - وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: \"ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً\"[10].
6- أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله له، ويكفي العاقل هذه الفائدة.
7- أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام، وطلب المقابلة، ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، ولعل هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفا فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
8- أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له إذا صبر، ومن كان الله معه دفع عنه أنواع الأذى ما لا يدفعه أحد من خلقه، قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقال - تعالى -: (وَاللَّهُ يُحِبٌّ الصَّابِرِينَ).
9- أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولا بد، فالله وكيل من صبر، وأحال ظالمه على الله، ومن انتصر لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها.
10- أن صبره على من آذاه، يوجب رجوع خصمه عن ظلمه، وندامته، واعتذاره، فيعود بعد إيذائه له مستحيياً منه نادماً على فعله، بل يصير موالياً له.
11- ربما كان انتقامه ومقابلته سبباً لزيادة شر خصمه، وقوة نفسه، كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفا أمن من هذا الضرر، وكم قد ذهبت نفوس ورئاسات وأموال، لو عفا المظلوم لبقيت عليه.
12- أن من اعتاد الانتقام، ولم يصبر لا بد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعزº إذ انقلب ظالماً ينتظر المقت والعقوبة.
13- أنه إذا عفا عن خصمه استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، فلا يزال يرى نفسه دونه، وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو\"[11]اهـ ملخصاً.
وبعد، فقد أطلت في الكلام على هذا الخلق الكريمº وذلك لأهميته، وعظم شأنه، في حل عقدٍ, لا تخفى، وفك أزمات قد تأبى.
وفي ختام هذه المقالة ألخصها فأقول:
إنه مما ينبغي على المسلم أن يحسِّن أخلاقه مع الناس، مراعياً طبائعهم ومنازلهم التي أعطاهم الله - سبحانه - غير مشتغل ببواطنهم، وما انطوت عليه صدورهم، فإن أصابه خطأ منهم، فليعلم أن الإنسان محل الخطأ والنسيان، فليتغافل، وإلا فليعذر، وإلا فليصفح ويتسامح، ويفوض أمره إلى الله، فبذلك يعيش سالماً، والقول فيه جميل.
وربما كان تطبيق بعض هذه الأخلاق عسِراً شديداً على النفس، يحتاج إلى مجاهدة ومعالجة بالغين، ولكنَّ الحلمَ بالتحلم، والنفسُ راغبة إذا رغبتها، وقد قال الله - سبحانه -: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ)، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"ومن يتصبر يصبره الله.. \"[12].
وليسأل كلٌ منا ربه من فضله، وليستوهبه من جوده، فإنه - وحده- هو المانٌّ المتفضل.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء.
اللهم صل على نبينا محمدٍ,، وعلى آله وصحبه وسلّم.
20 / 5 1426 هـ
----------------------------------------
[1] - تفسير السعدي ص749.
[2] - العذب النمير 4/1785.
[3] - تفسير السعدي ص749.
[4] - صحيح البخاري (6126).
[5] - صحيح مسلم (2327).
[6] - صحيح البخاري (3149).
[7] - صحيح مسلم (1057).
[8] - جامع المسائل، قاعدة في الصبر 1/171.
[9] - سير أعلام النبلاء 11/261.
[10] - أخرجه مسلم (2588).
[11] - ما ذكرته من كلام شيخ الإسلام ملخصٌ من رسالته: =قاعدة في الصبر+ المطبوعة ضمن رسائل أخرى له مسماة بـ =جامع الرسائل+ 1/165-174، وهي رسالة جمة الفوائد، مشرقة الدلالة، في بابها، يحسن قراءتها مراراً وتكراراً.
وللإمام ابن القيم إبداع وإشراق في قضية العفو في كتابه مدارج السالكين 2/318-324، وكتابه: مفتاح دار السعادة 2/296 وما بعدها، أكتفي بإحالة القارئ عليها إيثاراً للاختصار.
[12] - أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد