بسم الله الرحمن الرحيم
ويلٌ للعالم من الأتباع
أيها العلماء والدعاة احذروا الشهوات الخفية، والأمراض القلبية، والنزغات الشيطانية، كالرياء، والعجب، والكبر، والتعاظم، ونحوها، واخشوا ذلاقة اللسان، ولا تغتروا بثناء وإعجاب العوام، ورحم الله امرءً عرف قدر نفسه، ولهذا السبب قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: \"ويل للعالم من الأتباع\"، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول لمادحيه والمثنين عليه: \"المغرور من أغررتموه\"، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - ينهى عن متابعته والسير معه إن قام من المجلس، ويقول لتلاميذه وأصحابه: \"لو تعلمون من نفسي ما أعلم لرجمتموني بالحجارة، ولما وطئ قدمي أحد منكم\".
ولخطورة المدح والإطراء في الوجه، سيما عندما يقرن بالمبالغة والكذب، وفي الغالب لا يخلو مدح منهما، أمر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن يُحثى التراب في وجوه محترفي المدح، لما يسببه من الفتن والبلاء للممدوح، فقال: \" احثوا في وجوه المداحين التراب\"1، وفي رواية: \" احثوا التراب في وجوه المداحين\".
قال الإمام أبوبكر بن العربي المالكي في توجيه هذا الحديث: (وصورته أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه وتقول: ما عسى أن يكون مقدار من خُلِق من هذا، وما أنا؟ وما قدري؟ توبخ بذلك نفسك ونفسه، وتعرِّف المادح قدرك وقدره، هكذا فليحث التراب في وجوههم، قال: وقد كان بعض مشايخنا إذا رأى شخصاً راكباً ذا شارة يعظمه الناس، وينظرون إليه، يقول لهم وله: إنه تراب راكب على تراب، وينشد:
حتى متى، وإلى متى تتوانى أتظن ذلك يا فتى نسياناً؟. 2
روى ابن عساكر في تاريخه3 عن ابن عيينة - رحمه الله -: أن ربيعة4 بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: رياء حاضر، وشهوة خفية.
من تلكم الأمراض القلبية، والشهوات الخفية، والنزغات الشيطانية التي ينبغي الخوف والحذر منها للناس عامة، وللعلماء والدعاة خاصة، ما يأتي:
1. ذلاقة اللسان، وحلو المنطق والبيان: فهذه نعمة عظيمة، ولكنها قد تنقلب إلى نقمة وخيمة، وتصبح وبالاً على صاحبها إن لم يتداركه ربه ويتعاهد نفسه بالمجاهدة، ومن ذلاقة اللسان خاف أحد السلف الكرام على الأمة، فقال: \"أخوف ما أخاف على الأمة منافق ذلق اللسان\"، وحق له أن يخاف على الأمة من اجتماع الذلاقة مع النفاق، لأن ذلق اللسان عنده مقدرة على قلب الواقع، وتزوير الحقائق والتلبيس والتدليس على العامة، ولهذا صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إن من البيان لسحراً\".
2. حب التعالي والتعاظم والتفاخر: وهو الشهوة الخفية، والعلة المهلكة الردية، وقد ورد في ذلك حديث، وإن لم يصح سنده فقد صح معناه، وهو: \"احذروا الشهوة الخفية، العالم يحب أن يُجلس إليه\". 5
فالصدق والإخلاص أساس العمل، ولهذا فإن الله - سبحانه وتعالى - لا يقبل من العمل ما شورك فيه، فهو أغنى الشركاء، فحب العالم للعلو والظهور على أقرانه يفسد عمله، ويحط من شأنه.
قال المناوي: (فإن ذلك يبطل عمله لتفويته الإخلاص وتصحيح النية، فليس الشأن حفظ العلم، بل في صونه عما يفسده كالرياء، والعُجب، والتعاظم بإظهار علمه، وذلك سم وخيم، وسهم من سهام الشيطان الرجيم.
ثم قال: أخرج العلائي في أماليه عن علي: \"سيكون أقوم يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمَهم عملُهم، وسرهم علانيتهم، يجلسون حلقاً حلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس لغيره ويدعه\"). 6
3. ثناء العوام وإعجابهم: لا شك أن الثناء الحسن والشكر هو عاجل بشرى المسلم، شريطة أن يخلو من الغلو والكذب، فإذا خالطه غلو وكذب وكان في الوجه فهو البلاء، وقصم الظهر، والذبح بلا سكين، والموت غير الرحيم، كيف لا وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم المحفوظ بأن يبالغ في مدحه وثنائه ويكذب فيه، فقال: \"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله\". 7
وعندما قال له رجل: ما شاء الله وشئتº غضب عليه، وقال له: \"أجعلتني لله نداً؟! بل قل ما شاء الله وحده\". 8
4. موافقة العامة ومجاراتهم: هذه كذلك من الفتن المهلكة، أن ينجر العالم وينساق من حيث لا يدري أويدري، إن خوفاً أو طمعاً، في فتاواه إلى ما تهواه نفوسهم، وألفوه عن آبائهم وأجدادهم، وما يتفق مع عاداتهم وأعرافهم.
قد يحدث ذلك بحسن نية وقصد واجتهاد، بغرض نيل ثقتهم والتودد إليهم، أو بسبب تتبع الزلات والهفوات والأقوال المرجوحة.
أوقد يكون بسبب شدة الحرص والمحافظة على المسلمين، أو لقناعته أن هذا هو الحق، أوإيثاراً للسلامة.
مهما يكن الدافع لذلك فإن لهذا المسلك خطورته، ولهذا الطريق وعورته، للآتي:
1. الواجب علينا الدعوة إلى الله على بصيرة، وتبصير الناس بما أوجبه عليهم دينهم، استجابوا لذلك أم لم يستجيبوا، فواجب الرسول وأتباعه البلاغ المبين.
2. هذا المسلك ليس له حد ولا نهاية، فمن خطا فيه خطوة ساقته إلى الأخرى، وهكذا.
3. نتائجه غير مضمونة، فقد يأتي بالعكس والنقيض لمراد من سلكوه.
4. لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها بالثبات على المبادئ، وبالأخذ بالعزائم، وبالصبر واليقين.
5. فيه طمس لكثير من حقائق الإسلام، ومظاهر الدين، وإخفاء لشعائره، وفي ذلك ضرر لا يدانيه ضرر.
6. العاقل من اتعظ بغيره، فما من عالم أوداعية سلك هذا المسلك الوعر الخطر إلا قد حار بعد الكور.
7. التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء، فمن رام تمكيناً من غير ابتلاء وامتحان واختبار رام الماء من السراب، والعنب من الشوك.
سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل، أن يمكن أويبتلى؟ فقال الشافعي: \"لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة\". 9
وقال مالك: \"لا تغبطوا أحداً لم يصب في هذا الدين\".
فالحذر من نزغات الشياطين، ومن الأماني الكاذبة، وأحلام اليقظة، ومن إتباع النفوس هواها، والغفلة عن مجاهدتها: \" قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا\"10.
وتذكر أن كثرة الأتباع والموافقين وقلة المعترضين ليست دائماً مؤشر خير وعلامة رضى، فقد قال الإمام أويس القرني: \"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يترك لي صديقاً\".
وقال سفيان الثوري: \"إذا رأيتَ الرجل يثني عليه جميع جيرانه فهو رجل سوء\"، لأنه لو كان آمراً ناهياً لما رضي عنه أحد منهم.
والله أعلم بالصواب، وله المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على أتقى الخلق وأخشاهم، محمد بن عبد الله، وآله وأصحابه ومن والاهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد