النفاق وصفات المنافقين


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

ثم أما بعد:

فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى - الذي ما من غائبة في السماء ولا في الأرض إلا ويعلمها، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فأصلحوا عباد الله بواطنكم كما تعتنون بصلاح ظواهركم، فإن الله - تعالى - لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.

روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سأل حذيفة بن اليمان وكان (حذيفة صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه و سلم - ) سأله عمر فقال: أنشدك الله يا حذيفة أما ذكرني رسول الله مع المنافقين، فقال: لا، ولا أزكي أحداً بعدك.

الله أكبر يا عمر، يخاف عمر على نفسه النفاق، يخاف أن يكون من الذين قال الله فيهم:(( إِنَّ المُنَافِقِينَ في الدَّركِ الأسفل مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيراً ))[النساء: 145].

من هو عمر؟ إن مسلماً على وجه الأرض لا يعرف عمر لا يكاد يكون موجوداً، إن عمر من أهم شخصيات أمة الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه و سلم - وبعد وفاته، جاء عن النبي - صلى الله عليه و سلم - في وصفه: أنه من أهل الجنة، وأنه ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان آخر، ويخاف الشيطان منه، وأنه شهيد، ولو كان بعده نبي لكان عمر، وأنه ملهم، ومع ذلك يخاف عمر على نفسه النفاق.

إذن يا عباد الله، فالنفاقُ أمره عظيم وخطير، إذا كانت تلك الشخصيةُ الهامةُ بعد رسول الله وأبي بكر يخاف النفاق على نفسه.

 

فما هو النفاق؟

إن النفاق هو مخالفة الباطن للظاهر، بأن يظهر صاحبُه الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه و سلم -، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار، وهو النفاق الاعتقادي.

وثمة نوع آخر من النفاق وهو النفاق العملي، وهو طريقٌ موصل إلى الأول وأصوله مذكورةٌ في قوله - صلى الله عليه و سلم -: ((أربعٌ من كن فيه كان منافقاً، وإن كانت خصلةٌ منهن فيه كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)) [البخاري ومسلم].

ولقد بين الله - تعالى - أوصاف المنافقين في كتابه أكمل التبيين حتى يتعرف المؤمنون على أهل هذه الأوصاف فيحذروهم، فمما وصفهم الله - تعالى - به بالأوصاف التالية:

أنهم لم يرتضوا الإسلام ديناً ولا الكفر الصريح مبدأً، فكانوا مذبذبين بين الكفار والمؤمنين غير أنهم يبغضون المؤمنين ويتولون الكافرين، وأنهم يأخذون من الدين ما سهل عليهم، ويتقاعسون عن تنفيذ ما يشق عليهم كشهود صلاة العشاء والفجر في المسجد، وإذا أرادوا شيئاً من العبادات فكأنما يستكرهون أنفسهم عليه فيؤدونه بكسل وتثاقل، وأنهم يقولون مالا يفعلون، فيقولون الكلام المعسول بينما يضمرون الكيد والمكر، قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة، فلا يتأثرون بالقيم الإنسانية النبيلة، والمثل العليا، ولا يقدرون مكارم الأخلاق، أفقهم ضيق، ونظرتهم محدودة، فصحاء شجعان في السلم، فإذا جد الجد وجاء دور العمل استخفوا بأنفسهم ولاذوا بغيرهم، يحسبون كل صيحة عليهم، يخدمون الكفار ويتجسسون لهم ضد المؤمنين، يخذلون المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله، وإذا اشتركوا معهم أحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفهم، وعملوا على تفكيك وحدتهم وتفتيت قوتهم، ييأسون من رحمة الله، وينقطع أملهم في نصره، ويلجئون في طلب النصر إلى الأعداء، ويعتمدون على القوى الحسية وحدها في وزن القوى المتقابلة في الميدان، يستغلون الفرص المناسبة للطعن في دعاة الإسلام المخلصين وتشويه سمعتهم عن طريق الكذب وتغيير الحقائق، يستغلون الفرص لإثارة الشبهات حول الإسلام ليزعزعوا إيمان المؤمنين به ويصدوا الناس عن الدخول فيه، يحاولون إفساد المجتمع الإسلامي عن طريق تيسير سبل الفساد التي تحطم الأخلاق وتقضي على الفضائل الإنسانية، يحاربون الإسلام عن طريق التسمي به والدعوة إليه، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، يقبضون أيديهم فلا ينفقون المال في الحقوق الواجبة.

عباد الله: هذا شيءٌ من صفات المنافقين التي ذكرها الله - تعالى - في كتابه المبين، ليبين للمؤمنين حتى يحذروا من النفاق وصفات المنافقين ويعرفوا أعداءهم حقيقة، إن المنافقين شرٌ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والكافرين، وذلك لأن أولئك قد أعلنوا الكفر، فالمؤمنون جميعاً يدركون عداوتهم ويتكتلون ضدهم، وأي فرد منا يتعاون معهم يتهم بالخيانة، أما حين يكون منافقاً فإنه لا يدرك عداوته وخطره على الأمة إلا القليل من المسلمين وهم أصحاب الوعي الكامل، ولا يتصدى لحربه إلا الذين جمعوا بين الوعي الكامل والإيمان القوي، أما بقية المسلمين فينخدعون بالمظاهر، ويشغلهم التمتع بالوعود الكاذبة والجري وراء الدعايات الجوفاء عن النظر والتأمل والنقد الهادف والاستشهاد بالماضي على الحاضر، ثم بين عشية وضحاها يصبح والأمر قد انفلت من أيدي المؤمنين وأخذ المنافقون حريتهم الكاملة في تنفيذ مخططاتهم للإفساد في الأرض، وحينما يتولى المنافقون السلطة على المسلمين ويعملون أيديهم في المخلصين منهم قتلاً وتشريداً لا ينكر ذلك إلا القليل من المؤمنين، وسائر المسلمين إما جاهل بخطرهم على الإسلام والمسلمين، وإما عالم بذلك ولكنه يداجيهم لمصلحته الخاصة دفعاً لشرهم أو رجاء خيرهم، ومن هنا كان المنافقون أخطر على الأمة الإسلامية فيما إذا تولوا شيئاً من السلطة عليه مما إذا تولاها الكفار، قاله صاحب كتاب \"المنافقون في القرآن\".

وإن مما حدث في هذا الزمان أن المنافقين تسموا بأسماء ظاهرها جمالٌ وباطنها مرٌّ المذاق، ومن أمثلة ذلك من المتسمين بالعلمانيين، ومنهم من يسمون أنفسهم بالحداثيين، الذين يتنكرون لكل ما هو ماض، بزعمهم أن ذلك تخلفٌ ورجعية فيتنكرون للدين واللغة والأخلاق الفاضلة، ويصفون أنفسهم بالأدباء والمثقفين، وتنشر صورهم وتلمع أسماؤهم، وتؤخذ آراؤهم، قدواتهم: أدونيس، ونزار قباني، وسميح القاسم، ومحمود درويش، الذين يصفون الله - تعالى - بالأوصاف الشنيعة - جلَّ الله وتنزه وتعالى-.

اللهم غفرانك، اللهم غفرانك، ما أحلمك يا الله عن هؤلاء وأمثالهم، ولو شئنا لسمينا غيرهم، ولكن الله - تعالى - يقول:(( وَلَو نَشَاء لأرَينَاكَهُم فَلَعَرَفتَهُم بِسِيمَاهُم وَلَتَعرِفَنَّهُم فِي لَحنِ القَولِ وَاللَّهُ يَعلَمُ أَعمَالَكُم ))[محمد: 30]، لهم الأمسيات الشعرية والمنتديات الأدبية يخرجون الباطل في صورٍ, يخالها الجاهل حقاً، فاحذروهم عباد الله، مهرجاناتهم المربد وجرش وغيرها - أخزاهم الله -.

ماذا يقولون في أدبهم الفج، كان ينبغي أن تنزه أسماع المسلمين عن هذا الكفر المبين، ولكن اسمعوا إلى أقوالهم لتتبينوا عداءهم الصارخ لله ورسوله كما كان عليه حال عبد الله بن أُبي ورفاقه، بل إن أولئك لم يجرؤوا على ما جرأ عليه هؤلاء.

يقول محمود وليس بمحمود: (نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير) - تعالى الله عن هذا الوصف الشنيع -، بل إنه الله الذي لا إله إلا هو لا تأخذه سنة ولا نوم، وقِس على هذا كلامهم الباقي والله المستعان.

إنه ليس غريباً أن يكون هناك أشخاص كفروا بالله وتجرؤوا على ذاته - فذلك يكون - ولكن أن يمجدوا ويتخذوا قدواتٍ,، ويكون لهم تلاميذٌ وتلمعُ أسماؤهُم، ويفصلُ بين الأدب والدين فإن هذا هو المنكرُ العظيم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِم مَّا هُم مّنكُم وَلاَ مِنهُم وَيَحلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُم يَعلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُم سَاء مَا كَانُوا يَعمَلُونَ اتَّخَذوا أَيمَانَهُم جُنَّةً فَصَدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُم عَذَابٌ مٌّهِينٌ لَّن تُغنِىَ عَنهُم أَموالُهُم وَلاَ أَولَادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيئاً أُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ يَومَ يَبعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحلِفُونَ لَكُم وَيَحسَبُونَ أَنَّهُم عَلَى شَيء أَلاَ إِنَّهُم هُمُ الكَاذِبُونَ استَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ فَأَنسَاهُم ذِكرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزبُ الشَّيطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزبَ الشَّيطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ))[المجادلة: 14- 19].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي تقدس في علاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي من تولاه، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدٌ - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً -، حذر أمته من النفاق وأوصاف المنافقين، فجزاه الله عن أمته خير ما جازى نبياً عن أمته.

ثم أما بعد:

فيا عباد الله، إن العبد إذا لم يتعاهد إيمانه، ويحافظ على طاعة ربه، واستهان بالمعاصي قاده ذلك إلى الشر ومراتعه، فينسل من الخير رويداً رويداً حتى يغلف قلبه الران، قال - صلى الله عليه و سلم -: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأيٌّ قلبٍ, أُشربها نُكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، وأيٌّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصير القلبُ أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنةٌ ما دامتِ السماوات والأرض، والآخر أسود مُربداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه)[صحيح الجامع (2960)، رواه أحمد ومسلم عن حذيفة].

وقد كان السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق أشد الخوف، فقد سبق قول عمر - رضي الله عنه -، وكان يلاحِظ حذيفة عند الجنائز، فإن صلى حذيفة على الميت صلى عمر، وإن لم يصلِ لم يصل.

وقال البخاري - رحمه الله -: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه و سلم - كلهم يخاف على نفسه النفاق.

ويذكر عن الحسن أنه قال: (ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق)، وروي عن الحسين أنه حلف: (ما مضى مؤمن قطٌّ ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق).

وسئل الإمام أحمد - رحمه الله -: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ فقال: ومن يأمن النفاق على نفسه؟

وكان الحسن يسمي من ظهرت منه أوصاف النفاق العملي منافقاً، وروي نحوه عن حذيفة.

فالحذر الحذر عباد الله من النفاق وخصال المنافقين، اصدقوا في الأقوال والأعمال، ووفوا بالعهود والمواثيق، والتزموا بالمواعيد، واعفوا عند المخاصمة، وكونوا حرباً على المنافقين، وبينوا للناس عوارهم حتى يحذروهم، وقد أمر الله رسوله بجهادهم فقال:(( يا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ ))[التحريم: 90].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مّن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدٌّوا مَا عَنِتٌّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفواهِهِم وَمَا تُخفِى صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الايَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ هَاأَنتُم أُولاء تُحِبٌّونَهُم وَلاَ يُحِبٌّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضٌّوا عَلَيكُمُ الانَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُل مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ إِن تَمسَسكُم حَسَنَةٌ تَسُؤهُم وَإِن تُصِبكُم سَيّئَةٌ يَفرَحُوا بِهَا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ ))[آل عمران: 118- 120].

[مراجع الخطبة (جامع العلوم والحكم الحديث رقم: 48، والمنافقون في القرآن الكريم، للحميدي، ومجموعة أخبار عن الحداثيين)]. 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply