الهجمة الشرسة على التعليم ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:

حديثنا موصول عن التعليم الإسلامي ومناهجه، والهجمة الشرسة التي يتعرض لها ابتغاء تمييع هوية وشخصية الأمة المسلمة.

ولعل من أعظم وأحسن المواقف التي نقفها لكي تنفعنا فيما نستبصره ونبحث عنه عن معالم هذا المنهج التعليمي الإسلامي القديم، وهي - من جهة أخرى - من أعظم ما نبطل به كيد الكائدين، وندحض به شبه المضللين في قضية مناهج التعليم الإسلامي.

 

هذه الوقفة تتعلق وتتصل بالمعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - فنحن نرتبط برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قضية التعليم من أوجه أساسية منها:

أنه القدوة العظمى والأسوة الكبرى: يقول - تعالى -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.

نتلمس منهجنا وطريقنا في ضوء سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن جهة أخرى فنحن ننظر إلى حياته وسيرته لنقتبس منهج التعليم، ولنعرف طريقه ولننظر إلى مواقفه وإلى تصرفاته، وإلى إرشاداته في المواقف المختلفة.

 

ومن هناº فإن الذي نحصل به الحديث في هذا المقام وإن كان مما تحبه نفوسنا وتهفو إليه قلوبنا لارتباطه بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه أيضا صورة منهجية نتربص بها ما ينبغي أن نعلمه لأبنائنا وأجيالنا، وكذلك نستوفق به من مناهجنا ومن طرائقنا، وندحض به كلما يعارض ذلك أو يناقضه..

 

لقد كانت مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة البينة هي مهمة التعليم والإرشادº لقوله - تعالى -: {هو الذي بعث في الأميين رسول منهم يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة}.

 

تلك هي المهمة الواضحة الظاهرة التي كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبليغ عن الله وتعليم الناس منهج الله - سبحانه وتعالى - وفي قصة عائشة يوم خيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بقية أزواجه إرشاد أيضاً إلى هذا المعنى، إذ طلبت منه - عليه الصلاة والسلام - أن يكتم عن بقية أزواجه اختيارهن حتى لا يعسرهم الاسترشاد، وحتى لا يعرفوا ما فضلته عائشة فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن معلماً ميسراً)، وهذا إيجاز من جوامع كلمة - صلى الله عليه وسلم - لخّص في خلاصة رسالته وهمته وغايته: (ولكن بعثني معلماً وميسراً).

 

وفي صحيح مسلم أيضاَ من حديث معاوية بن الحكم الأسلمي الذي سمع العطس في الصلاة، فرفع صوته بتشميت العاطس - وهو جاهل بذلك - فلما رأى الناس يسكتونه سكت، ثم لما انقضت الصلاة دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلّمه، فماذا قال معاوية بن الحكم في هذا الحديث؟ قال: فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي  ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه  فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: \"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.

 

النفَس التربوي التعليمي الذي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأساليب النفسية التربوية، وفي الطرائق التعليمية المعرفية، حتى علّق أهل العلم على هذه المواقف وتلك الأحاديث، فكان من قول الغزالي - رحمة الله عليه - عن هذه الأحاديث: \"فيه إشعار إلى أن من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المعلم المتعلم عن سوء الأخلاق باللطف، والتعريض ما أمكن من غير تصريح، وبطريق الرحمة من غير توبيخ\".

 

مما يزعم ويشاع ويذاع من أن التعليم الإسلامي لا يؤدي إلى جهامة وصرامة في النظرات، وإلى قسوة وغلظة في المعاملة، وأين هذا من صريح حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ترويه عائشة في لفظٍ, كلي مطلق، يقول فيه - عليه الصلاة والسلام -: (ما كان الرفق في شيء إلا زانة وما نزع منه إلا شانة).

وهو قابل أيضاً فيما صح عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام -: (أن الله يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره).

 

فهذا هو المعلم الأساسي الأوضح وسنرى ما يكون من غير ذلك، ولا يكون في حياة الناس منهج واحد مضطرد وان تغيرت الظروف والأحوالº فإن هذا يتعارض مع طبيعة خلقة الإنسان، فهل رأيتم أحداً دائما البشر والفرح في كل أحواله حتى عندما يبتلى بمصيبة أو يموت له قريب؟

 

إن تقلبات وتصرفات الإنسان بناء على ما يواجه من الأحداث هو الأمر الطبيعي الفطري.. فالرفيق الهين، إن كان رفيقاً هيناً في مواقف معينة كان ذلك دليل على علو مرتبته، ورجاحة عقله، وسماحة نفسه، وسعة صدره، وفي مواقف أخرى ربما يكون ذلك الرفق دليل على الذلة والمهانة والاستكانة إذا كان هناك اعتداء عليه، وإذا كان هناك ظلمٌ له، وإذا كان هناك استهانة بحقهº فإن الذي يرضى بذلك ويبش له ويهش إما أنه من هذا الصنف الذليل الوضيع، أو إنه إنسان قد فقَدَ إنسانيته وتأثره بما حوله.

 

ثم انظر أيضاً إلى كلام الإمام النووي - وهو يعلق على حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - فيقول فيه: \"التخلق بخلقه - صلى الله عليه وسلم - في الرفق بالجاهل وحسن تعليمه وتقريب الصواب إليه\".

بل قد انطق هذه الأقوال وتلك السيرة العطرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التربية والتعليم، وتغيير النفوس، وإرشاد العقول، وتهذيب السلوك والأخلاق.. أنطقت الأعداء الذين ليسوا من أمة الإسلام.. عندما قلبوا صفحات التاريخ، وعندما بحثوا في سير الرجال، وعندما نظروا في سير المصلحين لم يجدوا أعظم ولا أشهر ولا أكثر تأثيراً ولا أحسن منهجاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -º حتى ألّف مؤلف \"المائة الخالدون\" وهو غير مسلم فلم يجد بداً من أن يجعل أولهم وعلى رأسهم وفي مقدمتهم سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -.

 

ثم يقال بعد ذلك أن مناهج التعليم التي تسترشد بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تؤدي إلى تلك المعاني التي يروجونها من المعاني التي لا تتفق مع حقائق هذا المنهج، ولا مع حقائق سيرة رسولنا - صلى الله عليه وسلم -.

 

ويقول أحد هؤلاء الغربيين عن العرب: \" أنهم قوم كانوا يضربون في الصحراء ولا يأبه لهم عدة قرون، فلما جاءهم النبي العربي - صلى الله عليه وسلم - أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد قلة، وعزوا بعد الذلة، ولم يمضي قرن من الزمان حتى استضاءت أطراف الدنيا بعقولهم وعلومهم \". والحق ما شهدت به الأعداء، وحضارة اليوم في جوانبها التقنية والعلمية والتجريبية مدينة لحضارة الإسلام التي ضربت في كل العلوم، والتي أسست كثيراً، وأنشأت من تلك العلوم، والتي سبقت إلى كثيرٍ, من مكتشفات هذه العلوم المختلفة.

 

واستمع أيضاً إلى هذا التعميم والتوجيه النبوي الذي لم يسبق إليه في أمة من الأمم خط.. في قضية التعليم ونشره، وضرورة أخذه وطلبه، وضرورة بذله وبنشره من أهله، وطلبه والرغبة فيه من المحتاجين إليه والمنتفعين به.. في حديث عبد الرحمن بن بزة - وقد رواه الطبراني بسند حسنه المنذري وغيره - قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثني عليهم خيراً ثم قال: (ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم؟! ولا يعلمونهم؟! ولا يفطنونهم؟! ولا يأمرونهم؟! ولا ينهونهم؟! وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم؟! ولا يتفطنون؟! والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويفطنونهم ويأمرونهم وينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتفطنون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا). ثم ذكر في آخر الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه قرأ هذه الآية:{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ولبئس ما كانوا يفعلون}.

 

هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل مهمة التعليم مهمة لابد من القيام بها، دون أن تكون لها رسوم، أو تكون لها مؤسسات.. هي أعظم من ذلك وأوسع مدى، بل كما قال أحد العلماء المعاصرين: \" إن هذا الموقف العظيم في اعتبار التقصير في التعليم جريمة اجتماعية يستحق مرتكبها العقوبة في الدنيا، موقف لم يروي التاريخ له مثيلاً لتقديس العلم قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعده \".

 

فهل يقال أيضاً في مثل هذا النهج القويم في أشعة العلم والمعرفة الذي ينبني على الفقه والفطنة والذي يؤدي إلى امتثال الأمر واجتناب النهي؟ أي أن غاياته حميدة محمودة، وأن آثاره سلوكية أخلاقية فاضلة، وأن معرفته تبين الحقائق، وتوضح الطرائق، وتقعد القواعد التي يتعامل بها الناس، فلا يعود بينهم اضطراب ولا اختلال، فمثل هذا يمكن أن يؤدي إلى ما يزعمونه من اختلال في الحياة المدنية، والحضارة الإنسانية.. كذبوا! فإن قولهم باطل لا شك فيه.

 

وإذا تأملناº فإننا نجد في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً - ونحن إنما نأخذ ومضات لنظر جزءاً من سيرته ولنتعلم من طريقة تعليمه - فهاهو أيضاً، كما صح في صحيح مسلم عنه - عليه الصلاة والسلام - يدعوا بدعاء فيقول في أوله: (اللهم أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).

 

واستعاذته مضطردة، تدل على أن منهجه الذي يريده أن يكون العلم نافعاً، مغيراً للقلوب، مطهراً للنفوس، مرشداً للعقول، مقوماً للسلوك، مضيفاً على هذه الحياة زينتها وبهجتها وجمالها وبهاها.. وذلك هو الذي كان منه - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي خطّه وخطط له من بعده عبر كل عصورها ودهورها ودولها وخلافاتها.

 

وإذا تأملنا في هذا وجدنا أننا نحتاج إلى وقفات كثيرةº لنستجلي صوراً وأنواراً من هديه - عليه الصلاة والسلام - والمقام يضيق عن ذلكº لكني أقف وقفة أثرية من قول أحد الصحابة في وصفه - عليه الصلاة والسلام - ووقفة علمية مع تحليل رائع لأحد علماء الإسلام في تجلية جوانب العظمة والإرشاد والهداية والعلم والنور في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -.

أما الصحابي فهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ورواياته في شمائل الترمذي، كثيرة منها ما وصف به النبي - صلى الله عليه وسلم - للنظر إلى صفة المعلم المرشد، وإلى القائد الملهم، قال: \"كان دائم البشر، سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهى، فلا يؤيس منه ولا يخيب فيه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره ولا يطلب عورته ولا عثراته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهى أو قيام \".

 

وفي حديث آخر لعلي - رضي الله عنه - أيضاً قال: \"كان يعطي كل جليس من جلسائه نصيبه لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه\".

 

ولو أردنا أن نقف مع كل عبارة من هذه العبارات البليغة الفصيحة الجامعة الجميلة لطال بنا المقام، لكننا نرى فيها وجوهاً مختلفة من جوانب المواصفات والصفات اللازمة للمعلمين والمرشدين والقادة والمصلحين، جانب ذاتي في طبيعة المعاملة في دوام البشر، ولين الجانب، وسهولة الخلق، ولين الجانب، ثم انتهاء عمّا قد يعكّر صفوة تلك الشخصية من فحش أو عيب أو ذم أو نحو ذلك.

ثم انتقل إلى حسن المعاملة مع الناس، وتأكيد ذلك في شخصية المعلمين والمصلحين، في ترك المراء والاكثار والدخول فيما لا يعني، وكان فوق ذلك كله كما ذكر أهل السير، وكما روي عنه - عليه الصلاة والسلام -: \"لا يغضب لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه قائمه\".

 

إن الأمور والمواقف تختلف بحسب هذه المواقف، وما يكون فيها من سماحته يغض الطرف عن جهالة الجاهلين، من سعة صدره، وسعة رحمته، يتجاوز عن حقه، ويتنازل لمن لا يكون قاصداً لعدوان أو مظهراً لاستكبار أو نحو ذلك، لكنه إذا ارتكبت محارم الله، وإذا انتهكت المقدسات أو كان أمر واحداً أو كلمة واحدة تدل على العدوان على الدين أو نحو ذلك،لم يقم لغضبه قائمة - صلى الله عليه وسلم -.

 

وتكفينا الإشارات الموجزة في سيرته - عليه الصلاة والسلام - فيوم بعث عثمان في مفاوضات صلح الحديبية كانت قريش قبل ذلك تستفزه، وتريد أن تؤجج ناراً حتى تشتعل الحرب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معرض عن ذلك، قد جاء محرماً، معظّماً للبيت، ليس مقاتلاً ولا محارباً.. خرجت قريش بالعود المطافين يقسمون ألا يدخلها عليهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (والله لا تسألني قريش خطة يعظمون بها حرمة البيت ألا أعطيتهم إياها)، ويستشير أصحابه يقول هل نخالف حرمة البيت ونذهب إلى أولئك - أي قريش - فنأتيهم في دارهم وأبنائهم؟ أم نمضي لما نحن فيه؟ فيشر أبو بكر \" إنما جئنا معتمرين \" فيوافق، فكان كلما جاء طريق أو سبب للقتال يصرفه ويعرض عنه، لكنه لما شاعت شائعة مقتل عثمان - رضي الله عنه - هل ظل متمسكاً بهذا الموقف الهين اللين السمح، الذي يصرف عن القتال، ويمنع من ما في حرمة البيت؟

 

كلا! فقد تغير الموقف، وأشيع أن مسلماً قد قتل وسفك دمه، فبادر - عليه الصلاة والسلام - إلى بيعة الرضوان.. بيعة أخبرنا عنها سلمة بن الأكوع: أنهم بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت، وعلى ألا يفروا، ولم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سلاح إلا السيوف في قرابها، لكنها المواقف إذا اقتضت عزة وقوة كان لابد أن يكون ذلك كذلك، وتلك هي سيرة - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها عنف بل سبب، وليس فيها عدوان دون مصلحة وفائدة وعلى منهج وشريعة كما يشيع الشائعون، ويدعوا الداعون.

 

ذكر الماوردي في تفصيل جميل شيق في وصفه لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأفعاله في إيجاز جميل جداً، وفي استقراء واستنباط ينير لنا - معاشر المسلمين - صورة هذا النهج الذي نقتبسه من سيرته وهديه - عليه الصلاة والسلام - ويبدي لنا معالم التغيير والإصلاح، ومناهج التعليم والتربية من هذا المنهج النبوي قولاً وفعلاً، ومن فضائل أقواله، كما قال: \" ما أوتي من الحكمة البالغة، وأعطي من العلوم الجمة الباهرة، وهو أمي من أمه أمية،لم يقرأ كتاباً، ولا درس علماً - صلى الله عليه وسلم - \".

 

أطلعه الله - عز وجل - على قصص الأنبياء مع الأمم، وما ذلك إلا من ذهن صحيح، وصدر فسيح، وقلب شريح. وكذلك إحكامه لما شرع بأظهر دليل، وبيانه بأوضح تعليل، حتى لم يخرج منه - صلى الله عليه وسلم - أي قول يخالف المعقول، ولا دخل فيه ما تدفعه العقول - أي كلما تحتاجه العقول - وكلما تدفعه العقول لم يأتِ به - عليه الصلاة والسلام - لأنه بجوامع كلمة بقليل على الكثير، وكف عن الإطالة، وكشف عن الجهالة.

 

ومن ذلك أيضاً ما أمر به من محاسن الأخلاق، ودعاء إليه من مستحسن الآداب، مع وضوح جوابه إذا سئل، وظهور حجته إذا جادل.

وهو أيضاً أفصح لساناً، وأوضح بياناً، وأوجز كلاماً، وأجزل معنى ولفظاً.. وهذا من عظيم ما ينبغي أن نحسن الانتفاع به.

أما الأفعال فقد ذكر فيه حسن سيرته، وصحة سياسته في دين نقل به الأمة عن مألوف، وصرفهم به عن معروف إلى غير معروف، كيف غيّر أمة كانت لها قواعدها ونظمها وعقائدها وأعرافها وتقاليدهاº لينزع ذلك كله وينسخه بدين جديد، وفق مبادئ وقواعد وأخلاق ومناهج لم يكن لهم بها عهداً ولا ألفاً من قبل.. إنها منهجية التغيير والإصلاح.

 

ولو أردنا أن نقول أن هذا الصراع الذي يصورنه تصويراً سيئاً مشوهاً للإسلام والمسلمين لقلنا: إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء بما يناقض ما عليه العرب كلهم - لكان من الممكن أن يكون بينه وبينهم بما لا ينتهي أمره وحاله إلا بقتلٍ, وسفك لدماء كثيرة..

 

لكننا نرى أن هداية العقول، ومنهج الدعوة، وطريقة الإصلاح كان ما دخل بسببها في الإسلام أعظم وأكثر بأضعاف مضاعفة، مما دخل أو وقع من آثار المعارك والجهاد، والتي كانت أيضاً من معالم سيرته - عليه الصلاة والسلام - ومن أفعال عدل في شرعه من الدين عن الغلو والتقصير إلى التوسط، وهذا وصف صادقº فإنه - عليه الصلاة والسلام - وهو قد جاء بالقرآن لقوله - تعالى -: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}.

 

إذاً فقد أخذ الوسطية المعتدلة الكاملة الصحيحة، فعدل في شرعة الدين عن الغلو والتقصير إلى التوسط \" وخير الأمور أوساطها \" بأن العدل بين طرفي إسراف وتقصير.

قال الماوردي: \" لم يمل بأصحابه إلى الدنيا ولا إلى رفضها، وإنما أمرهم فيها بنوازل الأحكام حتى أوضحوا للأمة ما كلفوه من العبادات، وبين لهم ما يمتنع عقود ونكاح ومعاملات \" ثم ذكر انتصابه لجهاد الأعداء، وذكر بعد ذلك ما أشرت إليه من أن الجهاد وسيلة دعوية كانت لفتح آفاق الدعوة للإسلام، كما أنه جاهد كما أخبر ابن القيم في \" زاد المعاد \" أن أول جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان منه عظيماً وكبيراً قال جهاده بالسان والقرآن وكما قال الله - عز وجل -: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً}.

قال الماوردي - رحمه الله -: \" انتصابه لجهاد الأعداء لشرع الدين حتى ظهر وانتشر، وانتصابه لجهاد الأعداء حتى صار - صلى الله عليه وسلم - بين الأعداء محذوراً، وبالرعب منصوراً، وجمع بين التصدي لشرع الدين حتى ظهر وانتصر عليهم \".

هذه بعض المعالم نسأل الله - عز وجل - أن يبصرنا بمعالم ديننا، ومناهج حياتنا.

 

الخطبة الثانية:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

وإن وقوفنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - معلماً وهادياً ومرشداً، نلتمس منه - كما أشرت - منهاج التعليم، وطرائق التربية.. وحديثنا في هذا يحتاج إلى مزيد تفصيل وتطويلº للوقوف على هذه المعالم، ومن جهة أخرى لبيان أن تدريسنا لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - له أعظم الأثر وأكبر الفائدة، بل هو لبّ كثيرٍ, من مناهجنا التعليمية، التي تربطنا بديننا، والتي تربطنا برسولنا - صلى الله عليه وسلم - وتؤكد صلتنا بخالقنا ومولانا - سبحانه وتعالى -.

 

فهذه معانٍ, ومعالم عديدة، لو أننا أردنا أن نقف معها لطال بنا الحديث، ولكننا - ونحن نتحدث عن مناهج التعليم الإسلامي وما تواجه من هجمة شرسة - أحسب أنها ستطول وتمتد، وأحسب أنها ستكون شديدة وحامية الوطيس، وأخشى أن يكون لها تأثير كما كان لها تأثير في بلاد شتى، لكننا إذا عرضنا الحق، وعرضنا الصوابº فإن كثيراً من المناهج - وإن تغيرت في طرائق التعليم - قد صاغت لأبناء المسلمين توحيد الله، وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب الدين، وإخوة الإيمان، وارتباط الأمة بالإسلام..

ولا يضرنا ذلك شيئاً، ما دمنا نعلّم أبناءنا في بيوتنا، وفي كل أحوالنا، وفي سائر أماكننا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتاريخ أمة الإسلام، وأن نبرع في شتى العلوم الحياتية المختلفة لكن على منهج الله، وكذلك ابتغاء مرضات الله.

نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يصرف عنا ما لا يحب ويرضى.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply