الإساءة للرسول الكريم .. هل يجدي القتل بالصمت ؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عادت قضية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - تطل برأسها من جديد ومن الدانمرك أيضًا، بعدما قامت 17 صحيفة، بينها الصحف الثلاث الكبرى، بإعادة نشر تلك الرسوم احتجاجًا على مؤامرة مزعومة لقتل "كورت ويسترجارد"، الرسام المسيء، والذي نشرت صحيفة "يولاندس بوسطن" رسومه في سبتمبر من العام 2005م، وأثارت حينها ردود فعل غاضبة وقوية في الشارع الإسلامي بعمومه.

وتلخصت المؤامرة المشكوك في صحتها في إعلان المخابرات الدنماركية عن اعتقال مهاجرين تونسيين ودانمركي من أصول مغربية، للاشتباه في تخطيطهم لقتل "ويسترجارد"، وهي الخطوة التي تلقفتها الصحف، لإعادة نشر تلك الرسوم بدعوى التأكيد على حرية التعبير.

وبادئ ذي بدء، فإن هذه الاتهامات تستند إلى قوانين الأدلة السرية وليس فيها محاكمة عادلة، والإبعاد الذي تم للتونسيين لا يستند إلى إدانة، وإنما استند إلى الاشتباه فقط، وبالتالي فإن المصداقية تكاد تكون منعدمة في نسج المخابرات الدنماركية، ويؤكد ذلك الإعلان الرسمي بعدم كفاية الأدلة.

وسواء صدقت هذه الاتهامات أو كذبت، وهي إلى التلفيق أقرب، فإنها أعادت الحديث مرة أخرى عن الإساءة للمقدسات الإسلامية إلى صدارة الأحداث ومحور الاهتمام، وصحيح أن الفترة الماضية لم تكن الإساءة فيها قد تراجعت، ولكنها كانت تأخذ صورًا فردية خافتة وباهتة، وتكاد هذه المرة أن تكون تكرارًا لما كان في العام 2005م من موجه إساءة جماعية من قبل الغرب للنبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -.

ومن نافلة القول بين يدي هذه الإساءات المتكررة، أن العداء الظاهر من توجهات في الغرب الآن، والهادف إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين والنيل من مقدساتهم، لهو امتداد لحال الجاهلية الأولى التي تخبطت في ظلمات المواجهة وما وجدت في جعبتها إلا الإساءة بالقول واللفظ والفعل في أحيان أخرى، في محاولة لوقف التيار المنساب الذي ما عاد أحد يستطيع أن يوقف مده أو أن يقف على مداه.. فقالوا ساحر أو مجنون.. ونالوا من كتاب الله - عز وجل - فقالوا أساطير الأولين اكتتبها..

والمتتبع والمحصي، لن يجد مقدسًا عن المسلمين إلا ونالته سهام الجٌّهال الأول وذراريهم الحالية في الغرب وفي عقر ديار المسلمين على السواء... فالعداء للإسلام ولنبي الإسلام قديم قد الرسالة النبوية، ويضرب بجذوره إلى الجاهلية الأولى.

ومع هذا الاستمرار في الإساءة، ما زال موقف الأمة مضطربًا حيال كل مرة تطل فيها بسمها الأسود وحقدها الدفين، ما بين مؤيد لمعارضة قوية وشديدة تسمع الغرب صوت المسلمين قويًا وعاليًا، بحيث تردعه تلك الأقوال والأفعال عن القيام بأعمال مشابهة مستقبلاً، وما بين داعم لقتل القضية بالصمت والتجاهل، فهو أجدى وأنفع برأيه من مواجهة هذه الإساءات بفاعليةº لأن فاعليها ليسوا إلا حفنة ضالة، فقدت القدرة على النجاح في الحياة بشرف، فلجأت إلى هذا الدرك المتهاوي تتلمس فيها رفعتها، ومن الأجدى أن تترك في مستنقعها تموت فيه كمدًا وحزنًا وذلاً، وألا يرفع لها شأن بذكر اسمها وتداوله على نطاق واسع.

 

* دوافع الإساءة الغربية للمقدسات الإسلامية

ولاشك أن محاولة اتخاذ موقف واضح من قضية الإساءة الغربية للمقدسات الإسلامية، لابد وأن يستند إلى دوافع تلك الإساءات، والتي تقف وراءها وتحركها بين الحين والآخر، وألا يكون مبعثه رغبه نفسية في هدوء أو تصعيد أو تحليل، منبت عن الإحاطة بكل تفاصيلها الخفية والمعلنة.

وفهم هذه الأزمة والإحاطة بها، ينطلق من مفاهيم رئيسة منها:

1ـ لا فائدة ثقافية أو فنية أو أدبية، تكسبها الدنمارك أو أي بلد غربي آخر شارك في الإساءة من نشر تلك الرسوم، التي هي عبارة عن سبب وقذف فقط في حق النبي الكريم ومقدسات المسلمين، ولا تحمل في ذاتها أية قيمة مهنية ولا أية قيمة على أي مستوى آخر..

ولا مجال للقول بأنها من قبيل حرية الرأي والدخول في فلسفات جدلية فاقدة المصداقية، هي أهون من بيت العنكبوت، خاصة إذا ما وضعت مقارنة بتجريم نقد الهولوكست، وتفنيد ما لحق به من مزاعم وخرافات.. وبالتالي فإن أهدافًا أخرى تتحكم في تلك الدمى الغربية وتجعلها تسبح في مستنقع ووحل الإساءة للنبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -.

2ـ الغرب قد اجتمعت كلمته على تلك الإساءة، فليست هي من قبيل الحادثة الشخصية أو المنحى الذي تنتهجه دولة ما، ولكن المتتبع سيجد أن أكثر من دولة غربية تولت كبر هذا الإفك وتنفث فيه سمها بين الحين والآخر، وهو ما يعنى أن الصراع ليس مجرد وجه نظر شخصية، أو حتى توجهات من دولة واحدة متطرفة، فهي موجة غربية تتصاعد على فترات متقاربة بصورة نلحظ فيها منهجية ثابتة وتحرك متناغم بين الدول الغربية.

3ـ هذه الإساءة تأتي في إطار الصراع الحضاري والأيديولوجي بين الغرب والعالم الإسلامي، حيث لم يبق ما يهدد الغرب بعد ذوبان المعسكر الشيوعي إلا الإسلام، ومن ثم لا نجد أن تلك الإساءات توجه لأية معتقد أو ديانة أخرى إلا الإسلام ومقدساته.

فالغرب يرى أن التاريخ وصل نهايته، حيث يجب أن تسود القيم الغربية الحضارية وتتوارى تلك الحضارات الأخرى أو تختفي، وما عادت حضارة متماسكة وقوية تنافس الغرب وتزاحمه على مستقبل البشرية وحاضرها غير الإسلام.

ولعل قراءة سريعة لكتاب "نهاية التاريخ" للمفكر الأمريكي فرنسيس فوكاياما، و"صدام الحضارات" للأمريكي صموئيل هينجتون، ستضع تصورًا واضحًا عن رؤية الغرب للإسلام وتفسيرًا لدوافع هذه الإساءة ومرادها والهدف منها.

4ـ تكرار تلك الإساءات يأتي بدافع قتل همة المسلمين، وغرس المهانة في نفوسهم وتوهين شأن مقدساتهم التي تنبثق منها الهمة العالية والروح الوثابة التي تناطح الغرب، ومن ثم يضمن الغرب البقاء منفردًا دون أي نزاع حضاري آخر بعد خروج المسلمين من سياق التنافس كما خرجت من قبل شعوب وحضارات أخرى.

فتكرار الإساءة لا يأتي خبط عشواء أو بصورة عفوية عشوائية، ولكن يأتي بصورة منهجية لها دوافعها وغاياتها.

 

* هل يجدي القتل بالصمت؟!

يهمنا من العرض السابق، الخلوص إلى أن الإساءة ليست من ورائها رغبة بعض الأفراد في الشهرة، وإن كان ذلك حادث من بعض الشخصيات، فإنه لا يقدح في الأصل العام، وكون هذه الإساءة وتكرارها، توجه منهجي غربي يهدف إلى إخراج المسلمين من سياق المنافسة الحضارية، وتوهين قوى الممانعة بالتعرض الدائم لمقدساتهم.

وهذه النتيجة تقودنا إلى القول بأن الأجدى هو مواجهة هذه الإساءات بإستراتيجية واضحة مستمرة، وهو ما يتلاقى برأينا مع الأصل العام الذي يستمد من قول الله تعالي: "إِلا تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ"، وتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصحابته بالرد على إساءات المشركين في غزوة أحد والحادثة مبسوطة في كتب السيرة وغيرها.

وثمة ملامح رئيسة ومنطلقات لا غنى عنها في إستراتيجية مواجهة الإساءة واختراق حاجز الصمت الذي يريد البعض بحسن نية أو غيرها فرضه على الأمة.

ويمكن أن نعدد من تلك الملامح الآتي:

1ـ الحماسة اللحظية والعاطفة لا تغني شيئًا في المواجهة، بل وقد تصدر عنها أفعال تكون عاقبتها سيئة وغير محمودة على الإطلاق.. وصحيح أن العاطفة ضرورية لتجيش الشارع الإسلامي والحماسة مطلوبة لإشعال الغيرة على مقدسات المسلمين في قلوب الأمة.. ولكنه يجب أن تكون عاطفة باعثة على همة مستمرة.. وحماسة تقود إلى فعاليات منضبطة.

2ـ القيام بأي أعمال عنف وشغب له آثار سلبية ويمثل إساءة للإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويوفر الذريعة للعدوان على الإسلام وأهله، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: "وَلا تَسُبٌّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبٌّوا اللَّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ,".

وصحيح كذلك، أن العدوان على الأمة ومقدساتها مستمر بهذه الأعمال وغيرها، إلا أنه يتحتم الالتزام بالمنهج الشرعي في مواجهة تلك الأعمال، فمن حق المسلمين أن يرفضوا وينددوا بهذا العدوان، وأن يعبروا عن رفضهم بشكل قاطع، ولكن من خلال الالتزام بهدي النبي في الانتصار.

3ـ هناك ضرورة ملحة في التواصل لإبراز عالمية التحرك المناهض للإساءات، ومن ثم فإن الدعوات الصادرة بترك أمر الحراك لكل بلد على حدة، لأنه أدرى بكيفية تصريف أوضاعه الداخلية في مواجهة هذه الهجمة الغربية، يقلل من قيمة المواجهة الجماعية، ويفقد المواجهة قوتها الدافعة.

بل ويجب أن تستغل هذه الإساءات لإبراز وحدة الأمة وتجميع صفها في مواجهة هذه الهجمة القاسية، وإيجاد صلة مستقرة تربط العالم الإسلامي بالجاليات المسلمة في الغرب.

4ـ الاستفادة من التجارب السابقة التي مرت بها الأمة وواجهت بها الإساءة بصورة ناجحة، فقد نجحت المقاطعة الشعبية للمنتجات الدنماركية في 2005م، وكانت هي الأقوى أثرًا عليهم.

وقطعًا، ستستمر الإساءة من قبل الغرب، ولكن عليه في كل مرة يُقدم فيها على خطوته تلك الآثمة أن يشعر بحرارة العاطفة الإسلامية نحو مقدساتهم تلهب ظهره..وغيرتهم وحبهم لنبيهم الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - تؤرق مضاجعه..فهو وإن استمر في الإساءة، فعلينا أن نستمر في النصرة.. والغلبة حتمًا لمن يقف الحق في جانبه: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ}.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply