أشراط الساعة الكبرى ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 الخطبة الأولى:

 أما بعد:

أيها المسلمون: وصلنا في الجمعة الماضية أن نزول عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - يكون رحمة من الله بهذه الأمة وتفريجاً لها من أعظم كربها وهو فتنة الدجال، ثم يُبتلى الناس بعدها بيأجوج ومأجوج، وأيضاً يهلكهم الله بدعاء عيسى - عليه السلام - عليهم بعد أن يشاء لهم أن يبقوا في الأرض ما يبقوا، ويعيثوا فيها الفساد، وذكرنا بأن الأمة بعد ذلك تمر عليها فترة من الفترات الذهبية، برجوع الناس للدين وتحكيم الشريعة وارتفاع راية الإسلام واندحار الكفر وأهله، وحصول أمن ورخاء عجيب، حتى أن الحيوانات التي كانت تضر لا تضر فيلعب الصبيان بالحيات كما ورد بذلك الحديث.

 

وبعد هذا الانتشار العظيم للإسلام الذي يعم مشارق الأرض ومغاربها، يقدر الله - تعالى - بأن يضعف الإسلام مرة أخرى وينتفش الشر ويظهر ويعلو، وذلك قبيل قيام الساعة، عندها يختار الله - تعالى - لهذا الدين أن يرفع من الأرض فيرفع القرآن ويذهب العلم وتحصل بعدها أشراط الساعة الكبار كما سيأتي وبعدها يقبض الله - تعالى - نفس من كان في قلبه بقية من إيمان حتى إذا لم يبقى على وجه الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة. عَن حُذَيفَةَ بنِ اليَمَانِ - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدرُسُ الإِسلَامُ كَمَا يَدرُسُ وَشيُ الثَّوبِ حَتَّى لَا يُدرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَيُسرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ - عز وجل - فِي لَيلَةٍ, فَلَا يَبقَى فِي الأَرضِ مِنهُ آيَةٌ وَتَبقَى طَوَائِفُ مِن النَّاسِ الشَّيخُ الكَبِيرُ وَالعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدرَكنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَحنُ نَقُولُهَا)) رواه ابن ماجة والحاكم وسنده صحيح. وحتى هذه البقية الباقية التي لا تعرف من الدين إلا كلمة لا إله إلا الله تفنى وتبيد، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)) وذهاب هذه البقية الصالحة يكون عن طريق بعث ريح من اليمن وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها ألين من الحرير فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته. عن النواس بن سمعان قال: ((فَبَينَمَا هُم كَذَلِكَ إِذ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأخُذُهُم تَحتَ آبَاطِهِم فَتَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤمِنٍ, وَكُلِّ مُسلِمٍ,، وَيَبقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الحُمُرِ فَعَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ)) رواه مسلم. وروى البخاري عن مرداس الأسلمي - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بالة)). وبعد انبعاث هذه الريح تنقطع عبادة الحج فلا حج ولا عمرة. ترجع البشرية بعدها إلى جاهليتها الأولى أو أشد ويعود عبادة الأوثان، ويعبد الناس اللات والعزى مرة أخرى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: ((فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: ما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان)). ويتدنى المستوى الأخلاقي تدنياً هائلاً فقد أخرج البزار وابن حبان بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير، قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم، ليكونن)). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذٍ, من يقول: هلاّ واريتها وراء هذا الحائط)).

 

أيها المسلمون: يظهر بعدها علامة كبرى، وهي الخسوفات الثلاثة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب كما في حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم. وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سيكون بعدي خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب. قلت: يا رسول الله! أيُخسف بالأرض وفيها الصالحون؟ قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أكثر أهلها الخبث)).

 

وهذه الخسوفات لم تقع بعد كغيرها من أشراط الساعة الكبرى التي لم يظهر شيء منها، وما حدث من بعض الخسف في أماكن متفرقة من الأرض وفي أزمان متباعدة فذلك كان من أشراط الساعة الصغرى قال ابن حجر - رحمه الله -: وقد وجد الخسف في مواضع ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدراً زائداً على ما وجد كأن يكون أعظم منه مكاناً أو قدراً[1].

 

أيها المسلمون: ومن علامات الساعة الكبرى هدم الكعبة المشرفة والقبلة المعظمة: فالكعبة التي يصلى إليها المسلمون اليوم تهدم في آخر الزمان يسلط الله عليها رجلاً أسوداً من الحبشة يسمى ذو السويقتين لصغر ساقيه ورقتهما، وسوف يهدمها حجراً حجراً ويجردها من كسوتها ويسلبها حليها.

 

وقد يقال كيف يهدمها وقد جعل الله مكة حرماً آمناً؟ قال الله - تعالى -: ((أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً)). وقال - سبحانه -: ((ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)) وقد حماه الله - تعالى - من أصحاب الفيل وهم حينئذٍ, كفار مشركون فكيف يسلط عليه هذا الرجل وهو قبلة المسلمين؟

 

الجواب: أولاً: أنه يبقى حرماً آمناً، هذا سيكون إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيام الساعة وخراب الدنيا، وليس في الآية استمرار بقاء الأمن إلى قيام الساعة. ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار في حديث صحيح وهو حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد أنه سيستحل هذا البيت أهله فقال: ((يُبايع لرجل ما بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلا أهله فإذا استحلوه فلا يسأل عن هلكة العرب، ثم تأتي الحبشة فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً، وهم الذين يستخرجون كنزه)). ففي زمن أصحاب الفيل مع أنهم كانوا كفاراً فما كانوا قد استحلوا البيت فمنعه الله - عز وجل - منهم. وأما ذو السويقتين الحبشي فلن يهدمه إلا بعد استحلال أهله له، وقد استحل المسلمون الحرم والكعبة عدة مرات، أولها جيش يزيد بن معاوية بأمره، ثم الحجاج في زمن عبد الملك بن مروان بأمره، فسلط الله عليه القرامطة فقتلوا من المسلمين في المطاف ما لا يحصى وقلعوا الحجر الأسود ونقلوه إلى بلادهم، وبقي معهم أكثر من عشرين سنة، فلما وقع استحلاله من أهله مراراً مكّن الله غيرهم من ذلك عقوبة لهم.

 

ومن أشراط الساعة الكبرى ظهور الدخان، وهذا ثابت بالكتاب والسنة قال الله - تعالى -: ((فَارتَقِب يَومَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ, مُبِينٍ, يَغشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أليم)) قال ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - هو دخان قبل قيام الساعة يدخل أسماع الكفار والمنافقين ويعتري المؤمن كهيئة الزكام. أخرج مسلم من حديث حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - قال: طلع علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر فقال: ((وما تذاكرون؟ قالوا: الساعة يا رسول الله، قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات. فذكر منها الدخان)).

 

وسيملأ هذا الدخان ما بين المشرق والمغرب ويمكث في الأرض أربعين يوماً فأما المؤمن فيصيبه منه مثل الزكام، وأما الكافر فيدخل فيه هذا الدخان فينتفخ حتى يخرج منه من كل جهة: من فيه ومنخريه وعينيه وأذنيه ودبره. ولا شك أن هذا ابتلاء من الله من جملة الابتلاءات لهذه الأمة في آخر الزمان، ولو تتبعنا بقية الآيات لربما أدركنا شيئاً من حكمة ذلك: وهو البعد عن ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسمع وتأمل قال الله - تعالى -: ((فَارتَقِب يَومَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ, مُبِينٍ, يَغشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكشِف عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤمِنُونَ أَنَّى لَهُم الذِّكرَى وَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُم عَائِدُونَ يَومَ نَبطِشُ البَطشَةَ الكُبرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ)).

 

ومن أشراط الساعة: ظهور دابة تكلم الناس، وهذه الدابة آية من آيات الله وهي مخالفة لمعهود البشر حيث أنها تتكلم وتخاطب الناس قال الله - تعالى -: ((وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)). وفي قوله - تعالى -: ((أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)). إشارة إلى أن خروج الدابة يكون عندما يكثر الشر ويعم الفساد، ويكون الخير قلة في ذلك الزمان، قال ابن كثير - رحمه الله -: وأن ذلك يكون عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، يُخرج الله لهم دابة من الأرض فتكلم الناس على ذلك.

 

عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجنَ لَا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا: طُلُوعُ الشَّمسِ مِن مَغرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الأَرضِ)). رواه مسلم. وذهب عدد من العلماء إلى أن مكان خروج الدابة يكون من مكة من أعظم المساجد.

 

الخطبة الثانية:

 أما بعد:

أيها المسلمون: ومن علامات الساعة الكبرى طلوع الشمس من المغرب، وهذا خلاف ما اعتاده الناس من طلوعها من المشرق، ولكن الذي أطلعها من المشرق قادر على أن يغير مسارها فهو خالقها ومدبر أمرها - سبحانه - وتعالى -. قال الله - تعالى -: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. روى الشيخان عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَت مِن مَغرِبِهَا آمَنَ النَّاسُ كُلٌّهُم أَجمَعُونَ فَيَومَئِذٍ, لَا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا)).

 

أيها المسلمون: وإذا طلعت الشمس من مغربها فإنه لا يقبل الإيمان ممن لم يكن قبل ذلك مؤمناً، كما أنه لا تقبل توبة العاصي، فبعد خروجها يغلق باب التوبة عَن أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ - عز وجل - يَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِهَا)) رواه مسلم.

 

إن طلوع الشمس من مغربها آية عظيمة يراها كل من كان في ذلك الزمان، فتنكشف لهم الحقائق ويشاهدون من الأهوال ما يلوي أعناقهم إلى الإقرار والتصديق بالله وآياته، وحكمهم في ذلك حكم من عاين بأس الله - تعالى - كما قال - عز وجل -: ((فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون. قال القرطبي - رحمه الله -: \"قال العلماء: وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوع الشمس من مغربهاº لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضرة الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت\". انتهى.

 

أيها الأحبة: إن طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة يكون متتالياً وربما كما قال بعض العلماء يكون في يوم واحد، وهو اليوم الذي تطلع الشمس فيه من المغرب تخرج الدابة فيه على الناس. عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍ,و قَالَ حَفِظتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا لَم أَنسَهُ بَعدُ سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمسِ مِن مَغرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَأَيٌّهُمَا مَا كَانَت قَبلَ صَاحِبَتِهَا فَالأُخرَى عَلَى إِثرِهَا قَرِيبًا)) رواه مسلم. ولا يبقى بعد ذلك إلاّ النار التي تخرج من قعر عدن لتحشر الناس إلى محشرهم وبعدها تقوم الساعة.

 

ــــــــــــــــــــ

[1] الفتح 13/84.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply