العمل وقوة الأمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الجزء الأول من الخطبة:

إن ضعف المسلمين في شؤون دنياهم جعلهم عالة على غيرهم في الكثير من أمور معاشهم، وكان ذلك سبباً في تسلط أعدائهم عليهم يتصرفون فيهم، ويوجهونهم وفق ما يريدون. وما ذاك إلا بسبب حاجة المسلمين إليهم. إن السبب في ذلك هو أننا لا نعمل، والذي يعمل منا لا يتقن عمله. وعندما ضعف العمل، وضعفت قيمة العمل، وقلّ العاملون المخلصونº تدنى مستوى الإنتاج في الأمة، وضعف حالها، وتسلط عليها أعداؤها.

 

إن الأمة عندما تحسن في عملها، سوف تتخلص بإذن الله من تسلط أعدائها عليها، وسوف تشعر بكرامتها وعزتها، وسوف تحمل عقيدتها وفكرها، وتقدمه للآخرين تعرضه عليهم، وتدعوهم إليه. أمّا وهي ضعيفة مهزومة، أمّا وهي فقيرة مستجدية لفضل غيرهاº فإنها لن تحمل فكراً، ولن تدعو إليه، ولو دعت فلن يقبل منها - إلا قليلاً -.

 

ولكن.. ما شروط نجاح الأمة وتفوقها في مجال العمل؟ ما الذي تحتاجه الأمة لتترك سلبيتها وتواكلها، وتنطلق في ميدان الإنتاج والإتقان؟؟

 

شروط ثلاثة في نظري أساسية لتحقيق ذلك الهدف:

 

أولاً: إن أول وأهم ما تحتاجه الأمة لتنطلق في العمل، هو أن تقتنع قناعة قوية بأن العمل ضرورة لقوة الأمة.

 

ثانياً: تحتاج أيضاً إلى علم واضح جليّ لميادين العمل التي ستقوم بها.

 

ثالثاً: وتحتاج أيضاً إلى توجّهٍ, عامٍ, للأمة يجمع عقولها وعواطفها، ويوجهها نحو العمل والإنتاج.

 

هذه شروط عامة تحتوي على الكثير من التفريعات، وإذا تتبعنا أحوالنا وجدنا لدينا كثيراً من القصور، وكثيراً من الأخطاء المتراكمة التي أوصلت الأمة إلى هذا المستوى من الضعف.

 

وللتحرر والانعتاق من هذه القيود التي كبّلت الأمة، وحالت بينها وبين الانطلاق في ميادين القوةº لابد من التعرف على تلك الأسباب، والعمل على إزالتها.

 

فالشرط الأول والذي أشرنا إليه، وهو القناعة بأن العمل ضرورة لقوة الأمة.. إذا نظرنا إليه نجد عجباً في مختلف المستويات، نجد عجباً لدى الآباء والأمهات والمدرسين الذين يقودون تربية أبناء الأمة وتوجيههم. إن قيمة العمل والإنتاج والتفوق فيه تكاد تكون من أضعف القيم التي يوجه إليها الأبناء مما جعل الحصول على الشهادة أغلى الأماني، وأكبر الأحلام، دون أن يكون لدى الشاب تصوّر للعمل الذي سيؤديه للأمة عندما يتخرج من الجامعة أو المعهد.

 

إن الكثير من الأبناء ربما لم يسمع طول حياته العلمية كلمة تشجيع على التفوق والإتقان في حياته العملية، بل ربما إن حياته العملية التي سيدخلها لا ترتبط أصلاً بالعلم الذي اكتسبهº فأصبحت الشهادة مطلباً مباشراً سواءً أنتج صاحبها، أو لم ينتج.

 

إن هذا جزء من الواقع المرّ الذي يعيشه شباب الأمة الآن. لا يشعرون ولا يستشعرون أهمية العملº لأن العمل ليس من الاهتمامات التربوية لا في البيت، ولا في المدرسة.. لا من الآباء، ولا من المدرسين إلا فيما ندر. إن سلبية الشباب، وعدم اهتمامهم بالإنتاج محصّلة طبيعية لذلك القصور في الإعداد التربوي، ولن يصلح حالهم إلا عندما نصلح الخلل التربوي في البيوت والمدارس، وفي الوسائل المؤثرة عليها.

 

أما الشرط الثاني الذي أسميناه العلم بميادين العمل الذي نحتاجه فحدث فيه ولا حرج. في بلاد المسلمين تطغى الدراسات النظرية حتى في العلوم التجريبية، وتملأ عقول الطلاب بكميات كبيرة من نظريات وفلسفات العلوم.. أما التطبيق فله أقل القليل من الوقت، وله أقل القليل من الجهد، وله أقل القليل من الاختبار أيضاًº فيتخرج الطلاب من الكليات العلمية بحصيلة هزيلة في ميادين التطبيق، ثم يذهبون إلى العمل الذي يعزلهم عن الميدان في الغالبº فالمهندس يبتعد عن الهندسة، ويعيش مع الأوراق فقط..

 

كل هذا يحدث ونحن المسؤولون عنه. ولا ننكر أن لأعدائنا نصيباً في تكريسه بينناº لأن الشركات الأجنبية التي تعيش في بلاد المسلمين تستقدم خبراءها ومهندسيها معها، ولا تتيح لأبناء المسلمين إلا المجالات النظرية. بل إن الكثير من شبابنا يخدع نفسه بالأسماء فقط، ويعيش في المكاتب بعيداً عن ميدان العمل الفعلي.

 

أما الشرط الثالث الذي ذكرنا أنه يتعلق بجمع عقول الأمة وقلوبها وتوجهها نحو العملº فهذا - بكل أسف - شرط غائب. فعقول الأمة وقلوبها مشتتة مفرقة، نهباً بين الأهواء والشهوات.

 

القدوة التي تقدم للأطفال والشباب لا تشجعهم على العملº بل إن أهل البطالة والعبث من الفنانين والمغنين وأهل اللهو والبطالة هم القدوة التي تقدم وتلمّع وتعرض في أبهى صورة.

 

لو سألت طفلاً أو شاباً عن أمله في الحياة، ماذا يريد أن يكون في المستقبل.. فلن تجد - غالباً - إلا آمالاً جوفاء، آمالاً فارغة!! إما ممثل فارغ، أو مغنٍ, ساقط، أو رياضيّ عابث!!! أما العامل المنتج، أما المزارع الناجح، أما العامل الجاد، أما العسكري المكافح، أما التاجر الناصح، أما الطبيب الماهر، فهذه مهنٌ لا تلمّع في الإعلام ولا تقدم للشباب. إن أقصى أمنيات كثير من شباب الأمة لا تتجاوز الرياضة أو الفن. أبهذا تعد الأمة للعمل؟؟ أبهذا يدفع الشباب للعمل؟؟ أبهذا تحقق الأمة التقدم في شؤونها؟؟ أبهذا نصبح أمة قوية؟؟ الله المستعان.

 

الجزء الثاني من الخطبة:

إن توجيه الأمة للعمل مطلبٌ ملحُّ، وغير قابل للتأجيل. يجب أن يتقدم في سلّم الأولويات، وقائمة الاهتمامات. هذا أمر لا بدّ منه إن كنا نريد العزّة والقوّة، ونحن كذلك إن شاء الله.

 

والسؤال: من المسؤول عن توجيه الأمة نحو العمل؟

 

إن الشعور بحاجة الأمة إلى تغيير كثير من أساليبها التي أدت بها إلى هذا الواقع المتخلف، قد أدركه الكثير من أبناء الأمة الناصحين لهاº فمنذ الحرب العالمية الثانية، بل وقبلها كان كثير من علماء الأمة ومثقفيها ينادون بضرورة تأمّل واقع الأمة، والعمل على النهوض بها. وتعالت الدعوات للنهوض بالأمة منذ ذلك الوقت المبكر، ولكن الحال كما نرى اليوم.. فلا تزال الأمة في تخلفها وضعفها. فما السبب في ذلك؟

ما السبب في أن الأمة تنادي وتدعو إلى النهوض، ولكنها لا تسمع منادياً، بل تتثاقل إلى الأرض، وتستمر في تخلفها وضعفها؟؟

 

إن من أبرز الأسباب في ذلك - ولا ندعي أنها كلّ الأسباب - الفرقة والتنافر في أساليب الطرح الذي يقوم بالنهوض بالأمة. يقول الله - تعالى -: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب } ويقول - تعالى -: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}.

إن من أسوأ ما أصيبت به الأمة الإسلامية في عصرها الحديث هو ما نجده عندها من كثرة الآراء، وكثرة الأحزاب، وكثرة الجماعات. وليس السوء في الكثرة فقط، ولكنه في كثرة التناحر والتقاتل بين تلك الأحزاب، وبين أصحاب تلك الآراء، مع أن الكثير منها يتفق في الغاية، ولكنه يختلف في الأساليب، والوسائل، مع أن الخلاف في الأفكار قد يكون محدوداً.

 

إن جهود الأمة الإسلامية قد بدّدت وأنفقت في التناحر، والتقاتل بين الجماعات والدول. كلُّ يشغل نفسه لإسقاط الآخر، أو إسقاط آرائه وأساليبه. يبذل كل حزب جهوده وطاقاته ليس للبناء والعمل، ولكن لإسقاط الآخرين، وإفساد عملهم.. أمَا عَلِمَ هؤلاء أنهم يفسدون ولا يصلحون؟؟ أما علم هؤلاء أن لدى هذه الفئات كلها بعض الأهداف المشتركة التي يمكن التعاون لتحقيقها؟؟ ما الذي يمنع البلاد الإسلامية أن تتعاون في مجال الزراعة لسدّ حاجة الأمة في هذا المجال؟ وما الذي يمنع وزارات الصناعة في بلاد المسلمين أن تتعاون لإنتاج الكثير من الحاجات اليسيرة التي لا تزال الأمة تستوردها؟

 

ما الذي يمنع مدارس ومعاهد التدريب المهني في العالم الإسلامي أن تتبادل الخبرات لتخريج العمال المهرة، لسدّ حاجة الأمة بدلاً من فتح البلاد الإسلامية لأعداء المسلمين، وفي تخصصات عادية تجد فيها العامل الأجنبي، وفي إمكان الأمة الإسلامية أن تقوم بهذا الدور بنفسها؟؟

 

إن الكثير من مجالات العمل المثمر في بلاد المسلمين تركت، وشغل الناس بالتناحر السياسي، والفكري، والثقافي في أمور قابلة للتأجيل.. بل إن بعض تلك القضايا التي تثار، ويثار حولها الجدل، والنقاش المبدّد لطاقات الأمة، قضايا لا حاجة لها أصلاً، وإنما هي للاستهلاك المحلي، لإشغال الناس بها، وكأن من يثيرها يتعمّد إشغال الناس عن ما ينفعهم، وما ينفع الأمة كلها.

 

إن الأمور التي لا يمكن أن نتجاوزها، ولا يمكن أن نتهاون بها هي أمور العقائد والأحكام الشرعية المحكمة. أما أمور الدنيا، وأساليب إتقانهاº فإن من مصلحة الأمة جمع الجهود حولها، والاتجاه الجاد للتعاون لتحقيقها.. انتصاراً للأمة، وتمكيناً لها، وتحريراً لها من سيطرة أعداء الإسلام عليها بسبب سيطرتهم على شؤون دنياهم..

 

فهل نحن فاعلون؟

اللهم وفق المسلمين لرضاك. اللهم وفقهم لأخذ أسباب العزة والنصرة للدين. اللهم إنا نعلم أن القوة في شؤون الدنيا من الأمور التي أمرت بها لتحقيق النصر.. اللهم وفقنا للأخذ بأسباب القوة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply