الظلم وصوره ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله فهي وصية الله للأولين والآخرين وَلَقَد وَصَّينَا الذينَ أُوتُوا الكِتَـابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّـاكُم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ.

 

عباد الله:

نستكمل وإياكم الحديث عن الظلم وصوره وأشكاله ولا نزال نسمع في كل حين عن صور أليمة من الظلم تقع بين المسلمين، وظلم تضج منه الأرض والسماء ويقع بين من؟ بين المسلم والمسلم، بين الأخ وأخيه المسلم، والنبي يقول: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.

 

ومن صور الظلم: ظلم الجار لجاره فيؤذي الجار جاره ويظلمه في معاشه ويظلمه بتسليط الأغاني والأصوات المزعجة عليه ويظلمه بمعاكسات أولاده لبناته وغير ذلك مما يجري بين الجار وجاره، مع أنه قد جاء الوعيد الشديد في ذلك يقول النبي: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: يا رسول الله لقد خاب وخسر، من هذا؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري.

 

أي لا يستكمل الإيمان، والبوائق هي الشرور والغوائل. ومن أبشع صور الظلم ظلم ذوي القربى، وأسأل القضاة في المحاكم لتقف على الحقيقة المرة فيما يجري بين الأقارب بل بين الأخ وأخيه على شبر من الأرض أو حفنة قليلة من المال، والأقارب الذين هم أولى الناس بنصرة بعضهم البعض إلا أنهم وبسبب ما فتح الله على الناس من الدنيا تسلل الداء إلى نفوسهم فانقطعت المودات وانفصمت العلاقات وتسلط القريب على قريبه إلا من رحم الله، أقلق نهاره وأسهر ليله وبدل سعادته همًا، وصحته سقمًا، ويسره عسرًا، حتى وصل الأمر والعياذ بالله بسبب كيد شياطين الإنس والجن أن بعض الأقارب قد سلط على أقاربه السحرة فيبقى القريب يتجرع ألم الحياة وغصصها إلى أن يهلك أو يكتب الله له الشفاء والعافية.

 

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على النفس من وقع الحسام المهند

 

أما يتق الله أولئك، أما كان الأولى أن ينصر أخاه ويقف معه وقت الشدائد والمحن.

 

ومن صور الظلم الشنيعة ذلك الأب المسكين الذي يبكي بدمع الدم حرقة ولوعة، من ظلم من؟ من ظلم أقرب الناس إليه من ظلم من رباه وخرج من صلبه، من ظلم من أنفق عليه وسهر من أجله وتعب من أجل راحته حتى رآه رجلاً جلدًا يمشي على الأرض قويًا، وعندما أصبح خصمًا عنيدًا لوالده يضربه ويشتمه ويلعنه في حياته قبل مماته.

 

فوا عجبًا لمن ربيت طفلاً *** ألقمه بأطراف البناني

 

أعلمـه الرمايـة كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني

 

وكم علمته نظم القوافي *** فلما قال قافية هجاني

 

وفي القصة التي في سندها ضعف أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -نظر إلى رجل ملوي اليد فقال له: ما بال يدك ملوية؟ قال إن أبي كان مشركًا وكان كثير المال فسألته شيئًا من ماله فامتنع فلويت يده وانتزعت من ماله ما أردت، فدعا علي في شعر قاله، قال فأصبحت يا أمير المؤمنين ملوي اليد فقال عمر الله أكبر هذا دعاء آبائكم في الجاهلية فكيف في الإسلام.

 

ومن صور الظلم عباد الله عضل البنات عن الزواج فبعض الآباء يمنع بناته من أغلى وأعز شيء تمتلكه من الحب الحلال الذي أباحه الإسلام فيمنعها من الحياة السعيدة والحنان والأمومة وهمه الأكبر هو جمع الأموال والاستيلاء على رواتب بناته بالقوة والقهر، وكم هي القصص المأساوية في هذا المجال.

 

ومن صور الظلم ما يحصل من بعض الأزواج لزوجاتهم، وله صور ومظاهر شتى، فمن ذلك حينما يرغب الزوج بمفارقة زوجته التي يكرهها فإنه لا يسرحها بإحسان، ولكنه يلجأ إلى تنغيص حياتها بشتى الطرق والوسائل لكي تفدي نفسها والله - تعالى - يقول: يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ يَحِلٌّ لَكُم أَن تَرِثُوا النّسَاء كَرهاً وَلاَ تَعضُلُوهُنَّ لِتَذهَبُوا بِبَعضِ مَا ءاتَيتُمُوهُنَّ [النساء: 19].

 

ومن المعددين من يميل إلى إحدى زوجاته فيحيف على الأخرى ويضر بها، يقول - صلى الله عليه وسلم - ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)).

 

فاتق الله - تعالى - أيها الزوج وعليك أن تمسك بمعروف أو تسرح بإحسان وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النساء: 130].

 

ومن صور الظلم المؤلمة ما يقع من أرباب العمال على عمالهم، فهؤلاء الضعفة الذين تعاقدت معهم أوف عهدك معهم ولا تستغل ضعفهم وغربتهم، ولا تنتهز عجزهم فإن من عمل ذلك فإن الله توعده أن يكون هو خصمه يوم القيامة، فاتق الله وأعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ولا تمنعه حقه وتبخسه راتبه حتى وإن قل.

 

وإن مثل هذا الظلم هو ما دفع بعض العمالة إلى السرقة أو قتل كفيله أو الزنا بمحارمه، أو قتل الأسرة بكاملها كما نسمع في وسائل الإعلام، بل بعضهم يصل به الحال إلى أن يقتل نفسه فيأتي ذلك العامل المسكين من بلاده الفقيرة وقد باع ما يملك حتى وصل إلى هذه البلاد المباركة، ويفاجأ بالظلم المرير والبخس للحقوق فيصل به الأمر إلى الانتحار عياذًا بالله - تعالى -.

 

فمن المسئول عن هذا؟ إنه أنت أيها الظالم، يا من بخستهم حقوقهم فاتق الله - تعالى - فيمن تحت كفالتك من العمالة، وأعلم أن الله - تعالى - يمهل وأن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، فأعط كل ذي حق حقه، واتق الله - تعالى - وأقلع عن ظلم المسلمين وظلم العباد، وكف عن التعدي عليهم في أموالهم وأعراضهم ودمائهم قبل أن تلقى الله بهذا الظلم الشنيع، فتندم في ساعة لا ينفع فيها الندم. يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري.

 

فاللهم إنا نعوذ بك من الظلم، اللهم نعوذ بك من الظلم، اللهم لا تجعلنا من القوم الظالمين ولا مع القوم الظالمين.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

اتقوا الله عباد الله واحذروا الظلم بجميع صوره وأشكاله، ومن أعظم الظلم وأشنعه وأفظعه هو تجاوز العبد تجاه ربه - جل جلاله -، وذلك أن يشرك بربه غيره وأن يجعل الإنسان لله ندًا وهو خلقه يقول سبحانه: وَإِذ قَالَ لُقمَانُ لابنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لاَ تُشرِك بِاللَّهِ إِنَّ الشّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13].

 

وكذلك من الظلم التعدي في حدود الله وانتهاك محارمه يقول - سبحانه -: تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ [البقرة: 229].

 

أبعد الله عني وعنكم الظلم بجميع أشكاله وصوره.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply