بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
وبعد: أيها المسلمون:
فإن من البديهيات المسلمة والتي يؤمن بها كل واحد منا أن الله - سبحانه و تعالى - هو مالك كل موجود لأنه هو خالقه وقد جعل الله - تعالى - هذا الإنسان خليفة في هذه الأرض وفق منهج الله وحسب شريعته، فكل ما خالف هذه الشريعة والمنهج كان باطلا وكان ظلما وكان عدوانا، فإن لله - سبحانه و تعالى - على خلقه شروطا وعهودا وحقوقا.
وقد أوجب الله - سبحانه و تعالى - على المؤمنين أن يكونوا متعاونين متكافلين، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل، فأوجب الزكاة، وشرع القرض الحسن، ثم أوجب عليهم أن يلتزموا في معاملاتهم جانب القصد والاعتدال ويتجنبوا السرف والتبذير والشطط فيما ينفقون، وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية هذه جملة من المبادئ العقائدية، والأخلاقية والاجتماعية التي أقام الإسلام نظامه الاجتماعي عليها، ومن ثم كان التعامل بالربا عملية تصطدم مع قواعد الإيمان، لا رعاية فيها لعقيدة، ولا خلق ولا مبادئ ولا غايات سامية.
إن الربا يقوم ابتداء على أساس أنه لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر، فكأن من يعامله به يجعل نفسه سيد هذه الأرض ابتداء، وهو غير مقيد بعهد من الله أو أنه غير ملزم باتباع أوامره في الكسب والعمل وتنمية المال، كما يجعل غاية الغايات في الوجود الإنساني هو تحصيل المال بأي وسيلة ومن ثم يتكالب عليه وعلى المتاع به، ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين، ثم ينشئ في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا لمصلحة جماعة من المرابين، ويحطمها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا عندما يجعل المال في النهاية بيد حفنة المرابين، هؤلاء الذين يمتصون جهود وعرق ودماء الآخرين المحتاجين للمال، ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة لهؤلاء المرابين، فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة المال الذي يقترضونه بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدون في أثمان السلعة الاستهلاكية، فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين.
ولذلك أيها المسلمون: يجب أن تذكروا أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي لأنه يتنافى مع أصل الإيمان، حتى ولو خادع بعض الناس أنفسهم في تبرير شيء من ذلك الربا.
وإن النظام الربوي بلاء على الإنسانية في إيمانها وفي أخلاقها وفي حياتها الاقتصادية، فهو أبشع نظام يمحق سعادة البشر محقاً، على الرغم من أنه يبدو كأنه مساعده من هذا النظام للنمو وسد الحاجات، واذكروا أن التعامل الربوي لابد أن يفسد ضمير الفرد وخلقه وشعوره تجاه أخيه في الجماعة، ثم يفسد حياة الجماعة وتضامنها بما ينشره فيها من روح الطمع والجشع والأثرة والمغامرة.
لهذا كله أيها المسلمون: ولغيره من الأسباب وقف الإسلام من الربا موقف الحرب الساخنة التي لا هوادة فيها، وشنع على أصحاب هذه المعاملة أبلغ تشنيع، وحمل عليهم حملة مفزعة مرعبة وهددهم تهديدا معنويا وحسيا فقال - سبحانه و تعالى -: \" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم\".
فأكلة الربا لا يقومون في الحياة لا يتحركون فيها إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا يستقر له قرار ولا طمأنينة ولا راحة، يعيش حياة القلق والاضطراب والخوف والأمراض النفسية والعصيبة والخوف على المال، والخوف من الخسارة والخوف من المحق، ثم الخوف من الكفر والله لا يحب كل كفار أثيم ثم ينادي الله - تعالى - الذين يريدون تحقيق إيمانهم فيقول: \" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون \".
ثم يربط الله - تعالى - هذه الأحكام جميعا بتقوى الله والخوف من عقابه يوم الحساب \"واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون\".
ثم تواردت أحاديث النبي تحذر من الربا وتبين عواقبه ففي الصحيحين عن أبي هريرة: ((اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله السحر وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات)).
الربا سبب للعن والطرد من رحمة الله، يشترك في ذلك كل من له علاقة بالربا شهادة أو كتابة أو أخذا أو إعطاء، وفي الصحيحين عن ابن مسعود: ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله)). وعن جابر: ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء)).
وإذا كان الجزاء من جنس العمل فاسمعوا إلى عقوبة أخروية تبدأ بعد الموت إلى قيام الساعة مع ما ينتظر صاحبها من عقوبة بعد البعث، فقال: ((رأيت الليلة رجلين (أي ملكين)، فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فمه، فرده حيث كان، فقلت: ما هذا الذي رأيت في النهر؟ فقال: آكل الربا)).
وفي الحديث الصحيح كذلك تشنيع لهذه المعاملة وجعلها في مستوى الزنا بل هي أشد من الزنا، فكيف إذا كان الزنا بالأم، فعن النبي قال: ((الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه))، وقال: ((الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام)).
وهو سبب لعذاب الله وسبب للعقوبات العاجلة في الدنيا، ففي الحديث: ((ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله))، وفي حديث عمرو بن العاص: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)).
وقد رأى - عليه الصلاة والسلام - عقوبة رهيبة لآكلة الربا وهو في رحلة الإسراء والمعراج فقال: ((رأيت ليلة أسرى بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبروق وصواعق، فأتيت على قوم: بطونهم كالبيوت فيها الحيات (الأفاعي) ترى من خارج بطونهم قلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء آكلة الربا)).
فاحذروا ذلك كله على أنفسكم أيها المؤمنون فما من أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة، وليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره.
أيها المسلمون: فقد يقول بعض إني مضطر للقرض بربا كي أكمل عمارتي أو أوسع تجارتي، أو ما شابه ذلك والضرورات تبيح المحظورات، فاعلموا أن ذلك ليس من الضرورة التي تبيح المحرمات.
وقد يقول بعضهم كيف أعطي أموال للآخرين ينتفعون بها وأعطلها عن العمل ولا استفيد منها.
ونسي هؤلاء أن القرض يجب أن يكون منزها عن هذه المنفعة المادية ولا يراد به إلا وجه الله، وفيه ضمان للمال فسيرده صاحبه كاملا دون خسارة، ولو كان عندك لم يكن مضمونا.
أما إذا ردت النفع المادي مع ذلك فإن الإسلام شرع شركة المضاربة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد