ولكنكم تستعجلون


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

 

أما بعد:

أخرج البخاري في صحيحه أن خباباً يقول: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بُردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شِدّة – فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرٌ وجهه فقال: لقد كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق اثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، ولَيُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).

 

ولكنكم تستعجلون. العجلة طبع في الإنسان، بشهادة خالق هذا الإنسان، قال الله - تعالى -: \" ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولاً \" وقال – سبحانه -: \" خلق الإنسان من عجل \".

 

والاستعجال ليس مذموماً دائماً، بل أن الاستعجال في الخير والمبادرة إليه، هو المطلوب أحياناً، ولعل هذا هو المعنيِّ في قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام – \"وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى\".

 

وأما حديث خباب الذي قرأته عليكم فإنه صورة من صور الاستعجال المذموم مع أن الصحابي - رضي الله عنه - كان طلبه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله لهم، عسى أن الله - عز وجل - يفرج عنهم شيئاً من الضيق والشدة التي كانوا يواجهونها في مكة، فأحمّر وجه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من هذا الطلب، مع أنه طلب دعاء، وعدّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا من الاستعجال الذي لا ينبغي في مثل هذه الظروف، وإنما المطلوب الصبر والتحمل وملاقاة كل ذلك في سبيل الدين.. ولكنكم تستعجلون.

 

وإليك أخي المسلم بعض صور الاستعجال المذموم والذي قد يحدث من البعض والصور كثيرة، لكني اخترت لكم أربعةً منها:

 

الصورة الأولى: الاستعجال في تغيير واقع الأمة. إن كثيراً من الغيورين على هذه الأمة، وممن لا يرضون بالانحراف والجور والبعد عن منهج الله - عز وجل -، لهم جهودٌ طيبة ومشكورة في التغيير، كل بحسب اختصاصه، وبحسب الثغرة التي هو يملؤها. إن الغيرة على واقع الأمة شيء مطلوب، والانزعاج مما وصلت إليه الأمة من الذلة والمهانة والخضوع لأعدائها، أمر يلزم قلب كل مسلم عاقل غيور. بل أن الضريبة التي تدفعها الأمة لخصمها الكافر تجعل الساكن يتحرك، والهادئ ينفعل، وهو يرى خيرات الأمة وثرواتها تستنزف في غير مسارها الصحيح، وفي المقابل هناك من أبناء هذه الأمة في بقاع كثيرة من الأرض لا يجدون لقمة العيش، بل إن أعداداً ليست بالقليلة تموت جوعاً وظمأً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم إن هذا الظلم العلني التي توجه سهامه لهذه الأمة، والمتمثل في إزهاق أرواح الأبرياء نساءً ورجالاً، صغاراً وكباراً، دون أي سبب، سوى أنهم مسلمون، هذا الوضع وهذه الصور جعلت طائفة من الناس لا يتحملون ويريدون التغيير بأية صورة.

 

ولا أريد في هذه العجالة أن أتتبع كل ما يُفعل بالأمة، وكل ما يدبر لها، وكل جوانب النقص والخلل فيها، فليس هذا مجاله.. لكن هذه المقتطفات التي ذكرتها، لأبين السبب الذي قد حرك فئةً من الغيورين للمساهمة في التغيير، فالذي نحذر منه هو! الاستعجال في التغيير.

 

إن الواقع الذي وصلت إليه الأمة، لم يحصل فجأة ولم تكن الأمة في المساء مستقيمة وأحوالها طيبة، ثم أصبحت، وإذا بالأمور منقلبة رأساً على عقب، أبداً لم يكن التدني والدنو بهذا الشكل. وإنما الذي حصل، هو أن حال الأمة اليوم نتيجة لتخطيط وتدبير استمر مئات السنين، أعداء الأمة يخططون منذ أمد بعيد، وتخطيطهم كان يسير بخطوات هادئة، لكي لا يحدث ردة فعل، فجهة كانت تدبر لتقويض أركان الأمة اقتصادياً، وجهة كانت تعد البرامج لهدم الأمة أخلاقياً، وثالثة كانت تنظّر لغزو الأمة فكرياً، وهكذا مؤسسات ضخمة، وميزانيات ودعم قوي ومستمر ودول قائمة لهذه الجهات، لكي تعمل عملها في الإفساد. فالسؤال الآن هذا التدبير الماكر الذي بدأ بإسقاط الخلافة الإسلامية، وتقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات، ثم تبعه ما تبعه من الإفساد هذا المشوار الطويل الذي استمر كما قلنا مئات السنين، هل يمكننا إعادة الأمور إلى نصابها بفترة قصيرة: شهر أو سنة، أو حتى عشر سنين؟ هل يمكن تغيير واقع الأمة ورفع كل جوانب النقص والخلل في مدة سنة أو سنتين أو حتى عشر سنين؟ من كان يظن ذلك فهو مخطئ، ومن كان يتصور هذا فمع كل أسف ليس لديه بُعد نظر.. إذا كان النزول لم يحصل بسرعة، وإنما استمر عمراً ليس بالقصير من عمر الأمة، فكيف بالصعود مرة أخرى، والكل يعلم بداهةً بأن الصعود أصعب وأشق من النزول.. لا بد أن تكون تقديراتنا معقولة ولا بد أن يكون تصوراتنا فيها شيء من الصحة.

 

إن تغيير واقع الأمة الآن، وإن انتشال الأمة الآن، من الوحل التي هي غارقةٌ فيه، لا يمكن أن يحصل بسنة، ولا سنتين ولا حتى عشر سنين، بل ربما يستغرق ذلك عمر جيل كامل، أو جيلين، إن لم يكن أكثر.. لأنه ما من جانب إلا ونخر فيه الفساد، فإنه لا يحتاج إلى إزالة هذا الفساد فقط، وإنما يحتاج إلى ملئه بالنافع والصالح أيضاً، فأين العقول المتوفرة في الأمة، لكي تسد كل فراغ؟ وأين الطاقات التي سوف تساهم في كل ميدان؟ النقص كبير، والمسافة بعيدة، ولا أريد بهذا الكلام، إحباط ذوي الهمم أبداً، لكن الفكرة التي أريد أن أوصلها لكم باختصار، هو أن تغيير واقع الأمة الحالي، لا يكون بسهولة، ولا يكون بسرعة، بل لا يمكن ويستحيل أن يحصل بسرعة، فالاستعجال في هذه القضية، يحتاج إلى دراسة متأنية، فكما أن الشر استمر سنوات وهو يخطط وينظّر حتى نشر شره، فكذلك الخير يحتاج إلى سنوات وهو يخطط وينظّر حتى يزيل الشر الموجود، ويوجد مكانه الخير.. الصحوة موجودة والحركة العلمية بدأت لكن كل هذا بحاجة إلى تربية طويلة. وإن كنا على يقين تام، واعتقاد جازم، بأن العاقبة للتقوى، وتسلم زمام الأمور سوف يكون لأهل الخير والاستقامة بوعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

الصورة الثانية: من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في نزع بذور الشر من نفوس الناس.. وهذه شبيهة تقريباً بسابقتها، لكن تلك على المستوى العام، وهذه لها علاقة بدعوة الأشخاص، بعض من لهم جهود طيبة ومشكورة في إصلاح الناس، وبث الخير بين الناس، ومحاولة نزع وتقليل الشر من نفوس الناس، هؤلاء يستعجلون أحياناً، ويريدون أن يرتقوا بالمدعوين دفعة واحدة وبسرعة، وهذا خطأ، فنفوس أشربت المعاصي سنوات عديدة، ونفوس ألفت المنكرات مدة طويلة من الزمن، من الاستعجال المذموم أنك تريد نسف هذا الركام في وقت قصير، وفي لحظة.. بل من الطبيعي أنك ترى أخطاء، وتشاهد قصوراً وضعفاً، فالواجب عليك الصبر، وغض الطرف أحياناً عن بعض التقصير، حتى تستقيم هذه النفوس شيئاً فشيئاً على دين الله.

 

هل تتصور أن بقاء الشخص على منكر أو معصية عشرة أو عشرين سنة لا يكون له أثر أو بقايا في نفسه حتى ولو التزم؟ إن كنت تظن هذا فأنت مخطئ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – وتأمل معي أخي المسلم هذا المقطع من كلام شيخ الإسلام، فإنه كلام نفيس يقول - رحمه الله -: وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع [1]..انتهى. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

ــــــــــــــــــــــ

[1] مجموع الفتاوى 20/60

 

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد:

الصورة الثالثة: من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في الفتوى. هناك العديد من النصوص التي تحذر من الفتوى بغير علم، والتحدث في أمور الشرع والدين بغير بصيرة قال الله - تعالى -: \"قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون\".

 

إن أهل العلم الحقيقيين لا يودون أن يُسألوا، لأنهم يعلمون خطورة الفتوى، والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتدافعون الفتوى، كلهم يحيلها لغيره، حتى ترجع للأول، كل هذا تورعاً من أن يتكلم أحدهم بشيء في الدين ثم لا يكون صواباً. لأن الفتوى معناها أن حكم الله في هذه المسألة هو كذا، وهذا أمر صعب خصوصاً في الأمور والقضايا التي لا يكون الأمر فيها واضحاً وضوحاً بيناً، فلذا يقال بأن الاستعجال في الفتوى أمر مذموم، ولا يتعجل في الفتوى إلا جاهل، ولا يجرؤ على الفتوى إلا قليل البضاعة، ومع كل أسف صار الدين في زماننا هذا يتكلم فيه كل أحد، وأصبح الجميع متخصصاً في تفاصيل أمور الشرع، وأصبحت الجرأة في الفتوى عجيبة، ولذا أصبَحتَ تسمع بالطوام العظام.

 

المشكلة أن العجلة في التحدث في قضايا الشرع والجرأة في الفتوى لم تعد مقصورة على أنصاف العلماء وأرباع العلماء وطويلبي العلم، بل حتى بعض العوام أصبحوا مفتين، وتجد في كل عائلة وفي كل حي أحياناً هناك هيئة لكبار العلماء، ولجنة دائمة تجتهد في كل أمر وفي كل مسألة، وفي قضايا لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رقة الدين وزيادة الجهل وضعف الخوف من الله، والله المستعان.

 

ثم إن المفتي، ومرجعية الفتوى تكون لمن؟ هذا لا تحدده المناصب، وليست المسألة تعين فلان أو فلان، فإن الأمة تعرف لمن ترجع حال النوازل، ومن هم العلماء الراسخون الذين يُلجأ لهم في الفتوى بعد الله - عز وجل -، ففي الوقت التي كانت حكومة المأمون ضد الإمام أحمد - رحمه الله - وجردته من كل شيء: من الإمامة والتدريس والفتوى بل وجردته حتى من ثيابه وأودعته السجن ووضعت القيد في يديه ورجليه، في تلك اللحظة كان هو مفتي أهل السنة والجماعة في وقته، وله المرجعية في المسائل. ومثله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في الوقت الذي حبس في سجن القلعة بدمشق وألّب قضاة السوء الحكومة عليه كان هو المفتي الحقيقي للأمة، وفتاواه هي التي يعمل بها في حين كان غيره خارج السجن حراً طليقاً ولا يؤبه لرأيه.

 

الصورة الرابعة: من صور الاستعجال المذموم: بل والخطير هو الاستعجال في الحكم على الأشخاص والهيئات والأوضاع.

 

لقد أمرنا الله - عز وجل - بالتثبت، ونهانا عن قبول خبر الفاسق، وأحياناً يظهر في المجتمع من يتخصصون في تفسير النيات، والمقاصد والنوايا.. فلان يقصد كذا، وفلان كان يريد بكلامه كذا، وفلان ينوي أن يقول كذا.

 

وحديثي ليس إلى هذه الفئة، لأن من سلك هذا المسلك فانحرافه أظهر من أن يبين واعوجاجه أبين من الشمس، فليس من منهج أهل السنة والجماعة، تبديع الناس وتفسيقهم من خلال النية والمقصد، لأنها قضايا لا اطلاع لأحد من البشر عليها، ولا يعلم بالنيات إلا الله - عز وجل -، بل ولا حتى من المنهج الصحيح تبديع فرد بعينه بمجرد كلمة خرجت منه، ربما لا يقصدها، أو لا يريد معناها، ونحو ذلك.

 

لكن نصيحتي لغيرهم، لنا نحن جميعاً أن لا نقبل الطعن في أحد دون بينة، أن لا نستعجل ونقبل كلام أحد في أحد إلا بعد التثبت. فإن من الاستعجال المذموم قبولنا الحكم على الأشخاص والهيئات، أو الأوضاع بطعن، أو تبديع أو جرح دون أدلة قوية واضحة، ودون تأكد من أنه قد أقيمت عليهم الحجة، وبُين لهم الخطأ. والاستعجال في مثل هذه الأمور قد يُحملّك وزر غيرك، أنت في غنى عنه.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply