بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: عباد الله، يقول الحق - جل وعلا- : فَإِذا لَقِيتُم الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَربَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثخَنتُمُوهُم فَشُدٌّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَربُ أَوزَارَهَا ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِن لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ, وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمَالَهُم سَيَهدِيهِم وَيُصلِحُ بَالَهُم وَيُدخِلُهُم الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُم يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعسًا لَهُم وَأَضَلَّ أَعمَالَهُم ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحبَطَ أَعمَالَهُم أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِم وَلِلكَافِرِينَ أَمثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَولَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لا مَولَى لَهُم [محمد: 4-11].
عباد الله، لماذا لا تزال الأمة تحت الحصار؟! لماذا تضرب من اليمين واليسار؟! لماذا يتحكم أعداؤنا فينا تحكم السادة بالعبيد؟! لماذا تتلقى أمتنا الضربات من كل مكان؟! لماذا تخلت الشعوب الإسلامية عن شعبنا المرابط الصامد؟! ولماذا هذا الصمت المخزي لما يجري على الساحة اللبنانية؟! وفي المقابل أليست أمتنا هي القائمة على أمر الحق والدين القيم؟! أليست هي الشهيدة على الناس؟! أليست هي الأمة الوحيدة التي تقدم قوافل الشهداء؟! أليس شعبنا الفلسطيني المسلم هو الشعب الوحيد الذي يرابط على ثغور الإسلام وكذلك الشعب اللبناني؟! أليست أمتنا خير أمة أخرجت للناس؟! ألسنا الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! ألم تحكم أمتنا الإسلامية العالم قرونا طويلة؟! ألسنا أصحاب الحق الشرعيين في أرضنا المباركة؟! ألم يأمرنا المولى- تبارك وتعالى -بالمحافظة على ديننا وأرضنا وعزتنا وكرامتنا؟! أليست قلوبنا حية ومؤمنة وصادقة ونرضى بما كتب الله لنا؟! قُل لَن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَولانَا وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّل المُؤمِنُونَ [التوبة: 51]، قُل هَل تَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحدَى الحُسنَيَينِ وَنَحنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصِيبَكُم اللَّهُ بِعَذَابٍ, مِن عِندِهِ أَو بِأَيدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُتَرَبِّصُونَ [التوبة: 52].
عباد الله، لا عجب أن نرى اليوم الذين يحملون رسالة الإسلام جلّهم من الشباب، فقد كان أصحاب رسول الله شبابا، وكان أكبرهم أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، وكان في الثامنة والثلاثين حينما دخل الإسلام، فقد ناصروا الرسول ووقفوا بجواره وأيدوا دعوته ونصروا رسالته، ونحن هنا في أرضنا المباركة نرى الفئة والجماعة المؤمنة أغلبها من الشباب الذين يحملون رسالة الإسلام قولا وعملا، لا يخافون في الله لومة لائم، صابرين في البأساء والضراء وحين البأس، لا يتزعزع إيمانهم مهما كلّف الثمنº لأنهم باعوا أنفسهم لله - سبحانه وتعالى -، والله - سبحانه وتعالى - يقول: وَمِن النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ [البقرة: 207].
أتدرون ـ يا عباد الله ـ فيمن نزلت هذه الآية؟ لقد نزلت في الصحابي الجليل صهيب بن سنان الرومي - رضي الله عنه -، وكان في مكة، وأسلم وأراد أن يهاجر، فقال له الكفار: لقد جئت مكة فقيرا وآويناك إلى جوارنا، وأنت الآن ذو مال كثير وتريد أن تهاجر بمالك! فقال لهم: أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟ قالوا: نعم، قال: تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟ قالوا: لك هكذا.
عباد الله، هكذا تكون التربية الإيمانية، فلا تغيير في الموقف مهما اشتدّت المحن، ومهما استمرّ العذاب فالمؤمن يزداد إيمانا وقوّة وعزيمة، تلك هي سنّة الله في عباده، ولن تجد لسنة لله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
انظروا ـ يا عباد الله ـ كيف تنازل عن ماله من أجل عقيدته من أجل دينه من أجل أن يهاجر إلى رسول الله ويلتحق بموكب المؤمنين من المهاجرين والأنصار، ليسجّل اسمه في سجل رباني كتب فيه قوله - تعالى -: وَمِن النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللَّهِ، وينزل الأمين جبريل - عليه السلام - ويخبر الرسول بخبر صهيب، فيقول له النبي: ((ربح البيع أبا يحيى)). إنها التضحية، إنه الدين، إنه الفداء، وأي دين لو كان له رجال مثل أصحاب رسول الله؟!
يا عباد الله، ما الحياة بثقة فيرجى نومها، ولا المنية بعذر فيؤمن غَدرها، ففيم التفريط والتقصير والاتكال والإبطاء؟!
عباد الله، لقد رضينا من أعمالنا بالأماني، ومِن طَلَب التوبة بالتواني، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني، فيا أيها المؤمن بادر إلى الله واستيقظ من غفلتك، فقد طال الغياب، ولا تؤثرن فانيا على باق، فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ولا تغترنّ بملكك وهو ملك لولا أن بعده هلاك، وفرح وسرور لولا أنه غرور، وهو يوم لو كان يوثق به بعد، فسارع إلى أمر الله فهو القائل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغفِرَةٍ, مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ, عَرضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
عباد الله، إذا كان السحرة وهم عدة فرعون وعتاده لمواجهة موسى - عليه السلام - أعلنوا الإيمان، ولم يكترثوا بتهديد فرعون ووعيده، وقد ثبتوا على إيمانهم وقالوا لفرعون بصوت واحد: فَاقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ, إِنَّمَا تَقضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدٌّنيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكرَهتَنَا عَلَيهِ مِن السِّحرِ وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقَى [طه: 72، 73].
عباد الله، لا تتعجبوا من أولئك السحرة، فقد كانوا أول النهار كفرة سحرة، وكانوا آخر النهار شهداء بررة، كيف لا وقد توجهوا إلى الله بقولهم: رَبَّنَا أَفرِغ عَلَينَا صَبرًا وَتَوَفَّنَا مُسلِمِينَ [الأعراف: 126]؟!
عباد الله، إذا أردتم النصر والثبات فعليكم أن تتصلوا بالله، فهو القاهر فوق عباده، وهو محطّم المعتدين ومخزي الظالمين وقاهر الجبارين. إذا أردتم المدد من الله فانظروا إليه بعين العبودية الصادقة، واستغيثوا به ليلا ونهارا سرا وجهارا، فهو - سبحانه - القائل: إِذ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم أَنِّي مُمِدٌّكُم بِأَلفٍ, مِن المَلائِكَةِ مُردِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشرَى وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُم وَمَا النَّصرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 9، 10]. إذا أردنا النصر فلنطلبه من الله وحده، فهو صاحب النصر والقوة والجبروت، هو الذي يمدنا بمدده ويقوينا بجنده. وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، وأن التضحيات كبيرة والدماء تسيل والشهداء يتساقطون والمعتقلون يتزايدون، فعليكم بالصبر والمصابرة فهو باب النجاة.
عباد الله، قال رجل لعنترة: ما السر في شجاعتك؟! قال: ضع إصبعك في فمي وخذ إصبعي في فمك، فوضعها في فم عنترة ووضع عنترة إصبعه في فم الرجل، وكلّ عض إصبع صاحبه، فصاح الرجل من الألم ولم يصبر، فأخرج له عنترة إصبعه وقال: بهذا غلبت الرجال، أي: بالصبر والاحتمال.
عن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رسول الله في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: ((يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاءَ العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف))، ثم قال النبي: ((اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)).
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها المسلمون، دائرة الأوقاف الإسلامية والهيئة الإسلامية العليا والمسلمون في كل مكان يدينون منع المصلين المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك، وبخاصة في أيام الجمع، ومنع الشباب من هم دون سن الخامسة والأربعين، وقد تكرّر هذا مرارا وتكرارا من سلطات الاحتلال. وإن هذه الأعمال تكشف زيف الاحتلال وأنه يعطي حرية العبادة للناس. فلا تمعنوا في الظلم، وكفاكم محاربة لله - تعالى -، كفاكم ظلما لبيوت الله - تعالى -: وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَدخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُم فِي الدٌّنيَا خِزيٌ وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114].
عباد الله، إن اتساع رقعة العدوان على شعبنا على امتداد الوطن الفلسطيني وعلى لبنان إنما يعزّز الرؤيا الصادقة التي طالما أكدناها وأنه لا سلام في ظل الاحتلال ولا تحرير في ظل غياب دولة الإسلام، مبدآن أساسيان لا يلتقيان مهما تغلفت الاتفاقيات الثنائية والحلول والمعاهدات بأغلفة الاستقرار والانتعاش والرخاء، وما يجري على ساحة اليوم خير دليل على عنجهية المحتل، وخير برهان على العجز العربي والإسلامي، وخير بيان لسذاجة المتوهمين واللاهثين وراء الحلول الاستسلامية تحت ذرائع وهمية لا تمت إلى عقيدتنا الإسلامية بشيء، بل إنها تندرج تحت فلسفة العاجزين وبأن العالم قد تغير ولا بد من الواقعية والتسليم بالأمر والواقع.
أيها المسلمون، إن إسرائيل بعدوانها الواسع ضدّ شعبنا المسلم والصابر وضدّ الشعب اللبناني تبين للجميع هشاشة ما يسمى السلام، وتؤكد للجميع أنها لا تفرّق بين هذا الفصيل أو ذاك، فالعدوان يستهدف تدمير البنية التحتية وتدمير محطات الكهرباء وضرب الجامعات والمستشفيات والمؤسسات الأهلية في كل من فلسطين ولبنان، فشعبنا بكل انتماءاته مستهدف، وكذلك الشعب اللبناني، وادعاء الحكومة الإسرائيلية بأنها لا تسعى إلى إيجاد أزمة إنسانية في قطاع غزة محض افتراء ومجرّد ذر الرماد بالعيون. فما معنى تدمير محطات الطاقة ومحطات تزويد المياه؟! ما معنى تدمير المباني الحكومية والجسور واختراق الطائرات الحربية حاجز الصوت فوق المخيمات وهي مبنية من الطوب والصفيح؟! أليس هذا العدوان يفوق كل الأزمات الإنسانية التي يمكن أن تلحق بنا؟! إن إسرائيل التي اتخذت من أسر الجنود في فلسطين ولبنان ذريعة للعدوان الواسع على قطاع غزة ولبنان يعطي للمراقب أن كل الاتفاقات المبرمة أصبحت حبرا على ورق، وأن الدعوة إلى طاولة المفاوضات ما هو إلا دليل العجز والاستسلام لشروط إسرائيل.
لقد أعلنت إسرائيل أنها تستهدف الحكومة الفلسطينية، فعملت على اعتقال وزراء وأعضاء في المجلس التشريعي، ووجهت لهم تهم الإرهاب أو التحريض على الإرهاب، فأي منطق هذا؟! وهل تعتقد إسرائيل أن هؤلاء سيشكلون ورقة ضغط على الحكومة الفلسطينية لإطلاق سراح الأسير الإسرائيلي؟!
عباد الله، إسرائيل واهمة لأنها تسير بعكس التيار، فإرادة الأمة أقوى من كل الأسلحة، واستمرار العدوان ومسلسل القتل والتدمير والاعتقالات سيعمق الكراهية والعداء، كلما ازداد العدوان زاد تمسك الشعب الفلسطيني بالثوابت الإيمانية، وازدادت قناعته بأن حل القضية لن يكون عبر مفاوضات تهدف إلى إضفاء شرعية الاحتلال.
عباد الله، ليس جديدا على شعبنا المواقف المخجلة من الدول العربية والإسلامية، فليست هذه هي المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يتعرض فيها شعبنا إلى المذابح والعدوان والقتل والتدمير والحصار والتجويع وتذهب استغاثات الثكلى وأنات المرضى والجرحى أدراج الرياح. وليست المرة الأولى التي تعرب فيها الإدارة الأمريكية الحاقدة بأن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، فشعبنا عليه مواجهة العدوان بالعزيمة والإيمان وقوة الصبر والصمود في ظل صمت عربي وإسلامي وأنظمة لا تعرف للعقيدة معنى ولا للإنسانية مغزى ولا للأخوة شيئا، وإن وحدة شعبنا وتمسّكه بدينه كفيلة بإفشال مخططات الأعداء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد