بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
حينما نريد أن نحصر كل الأخطاء التي تقع في تفكيرنا فلن نستطيع أن ندرك ذلك في لقاء عاجل مثل هذا اللقاء، لكني سأشير إلى أبرز الأخطاء.
وبادئ ذي بدء ثمة سؤال مهم، لعلي لا أطيل في الإجابة عليه، وهو: لماذا نحن بحاجة إلى بناء منهج التفكير؟
إن الإنسان يمكن أن يستوعب كماً هائلاً من المعلومات، سواءً النصوص أو الأحكام الشرعية، أو غيرها من المعلومات في أوجه الحياة، فذهن الإنسان يمكن أن يستوعب قدراً لا محدود من الأسماء والأرقام والمعلومات، لكنه يحتاج إلى أن يتعامل معها بطريقة صحيحة، ومن ثم فما لم يملك الإنسان منهجاً سليماً للتفكير، فإنه لن يستطيع توظيفها بطريقة صحيحة، وكثيراً ما نرى في عصرنا أناساً يبهرون من حولهم بما يحفظون ويطلعون عليه من الكم الهائل من المعلومات، لكننا نرى هوة واسعة بين ما يتوصلون إليه من نتائج، وبين مستوى القدرات والإمكانات والمعلومات التي يملكونها، والسبب هو الخلل في طريقة التفكير.
إن برنامج الحاسب الآلي كالموسوعات العلمية على سبيل المثال يحتوي على شقين، الشق الأول هو المعلومات والبيانات المدخلة فيه و المستقاة من المراجع والموسوعات العلمية، والشق الثاني البرنامج الذي يدير هذه المعلومات ويبحث فيها، فوجود الخلل في الشق الثاني سيعوق المستخدم عن الاستفادة المثلى من الكم الهائل من المعلومات المتاحة في البرنامج.
إن الشق الثاني هو أقرب ما يكون إلى منهج التفكير لدى الإنسان والشق الأول المعلومات والخبرات التي يملكها من خلال الحفظ أو البحث والإطلاع.
إن منهج التفكير السليم لن ينقل الإنسان إلى مستوى العصمة، ولن تكون كل الآراء التي يصل إليها صحيحة، فستبقى قضايا كثيرة نسبية، وفيها مجال للاحتمالات والأخذ والعطاء، لكن كلما صار الإنسان يملك منهجاً سليماً في التفكير، فإن هذا سيجعل فرصة وصوله إلى نتائج سليمة أكبر بكثير من غيره ممن لا يملك هذا المنهج.
ومع أهمية التفكير فنحن نعاني من إهمال في الاعتناء به، فمدارسنا لا تعتني بتعليمه للطلاب، إنما تركز على إعطاء معلومات مجردة، وفي قراءتنا وحواراتنا لا نعتني بهذا الجانب، ومن ثم قد نحفظ معلومات وشواهد لكن نوظفها توظيفاً خاطئاً وغير مثمر.
لا أستطيع أن أتحدث في هذه العجالة عن منهجية التفكير، لكن سأشير إلى طائفة من أخطائنا في التفكير، وأحسب أن إثارة هذه القضية تعطينا شعوراً بأهمية الاعتناء ببناء مهارات التفكير في أنفسنا، والاعتناء بها تربوياً في مدارسنا، وفي تعليمنا و تربية أولادنا و تربية هذا الجيل المبارك جيل الصحوة رجالاً ونساءً.
الخطأ الأول: غياب التفكير العلمي:
ليست مشكلتنا أننا لا نفكر، لكننا نفكر بعشوائية ودون منهجية منظمة، وقلما نستخدم خطوات التفكير العلمي وهي خطوات معروفة ومحددة يمكن أن يمارسها الإنسان في الخروج من مشكلة شخصية، وفي إقناعه للآخرين، وفي حل مشكلة علمية، بل في أي مجال وميدان من ميادين الحياة.
وخطوات التفكير العلمي تبدأ بتحديد المشكلة أولاً، ثم فرض الفروض والاحتمالات الممكنة، ثم اختبار هذه الفروض، ثم الوصول إلى الحل الذي يمكن أن يفسر هذه الظاهرة، ودعونا نضرب على ذلك أمثلة.
المثال الأول:
- لو أن أحد الجالسين في هذه الصالة غلبه النعاس، ولم يستيقظ إلا والصالة مغلقة، فهو بين خيارين: أن يضع يديه على رأسه ويفكر في المواعيد التي ستفوته ويفكر في عمله الوظيفي ماذا سيصنع غداً... إلخ؟. وهذا تفكير عشوائي لن يفيده.
الخيار الثاني: أن يستعرض الاحتمالات الممكنة للخروج، فيفكر تفكيراً علمياً، ما الخيارات التي يمكن أن أصنعها لأخرج من هذا المأزق؟ أني أنام إلى أن يأتي أصحاب الصالة ويفتحونها في الغد. أو أن أبحث عن الأبواب فربما يكون هناك باباً نُسي أن يغلق.أن أكسر الزجاج أو النافذة. أن أتصل على أحد خارج الصالة...إلخ. ثم يقيم كل خيار: الخيار الأول هل أستطيع أن أطبقه أو لا؟ ما هي نتائجه الخيار الثاني ثم الثالث وفي النهاية يصل إلى الحل.
المثال الثاني:
ما يمارسه عامل الصيانة في إصلاح السيارة حين ترتفع حرارة المحرك، أنه يقوم باختبار مستوى الماء، مستوى زيت المحرك، مروحة التبريد، السيور..............إلخ.
فهو يمارس أسلوب التفكير العلمي – دون أن يعيه نظرياً - إنه يفترض الفروض ثم يقوم باختبارها ليصل إلى تفسير المشكلة.
خطوات التفكير العلمي لا يمكن أن نمارسها من خلال التعليم النظري بأن نملي على الناس ونقول هذه هي الخطوات: الأولى، الثانية، الثالثة، فما لم يُعَلَّم الطالب وهو في المرحلة الابتدائية أن يطبقها، ما لم يعلم الطفل وهو صغير أن يمارسها في التعامل مع مشكلاته المحدودة إلى أن يصل إلى مستوى أعلى، فإننا لا يمكن أن نتقن هذه المهارات، ونطبقها بطريقة صحيحة.
الخطأ الثاني: التعميم الخاطيء:
وهذا كثيراً ما يحدث من الدعاة والوعاظ والخطباء، ودعوني أضرب على ذلك أمثلة.
المثال الأول:
قد تقول للناس: الأب المتعلم أكثر قدرة على تربية أولاده تربية سليمة من الأب الأمي، حينها يعترض عليك من يحتج بأن أباً أمياً قد أحسن تربية أولاده، وأنه يعرف عدداً من الآباء المتعلمين لا يحسنون التربية.
إنه قد عمم الصورة التي رآها لدى الأمي، والصورة التي رآها لدى المتعلم، جاهلاً أن نجاح هذا الأمي واستقامة أولاده نتيجة عامل آخر غير عامل الأمية، وأن فشل الآخر نتيجة عامل آخر غير عامل التعليم.
المثال الثاني:
كثيراً ما نسمع من يقول أن المتدينين سيئو الخلق، والسبب في ذلك أنه رأى شخصاً متديناً يتصف بذلك، فعمم هذه النتيجة على الآخرين.
إن التعميم له شروط موضوعية لا بد من تحققها، وليس تكرر الصور كافيا في تعميم الأحكام.
الخطأ الثالث: الربط الخاطئ:
أحياناً نربط بين ظاهرتين ليس بينهما علاقة وإليك الأمثلة:-
المثال الأول:
كنت واقفاً ذات مرة فأتاني شاب غير متدين، فقال لي: أريد أن أسألك سؤالاً، ثم سألني وأجبت، ثم قلت له: ليس كل متدين طالب علم، فالتدين شيء والعلم شيئ آخر-وإن كان الغالب في المتدين أن يكونوا أكثر حرصاً، وأكثر تمسكاً- قال لي: إنك ستكون في الأغلب أعلم مني، ولو لم تعرف فستقول لي: لا أعلم.
الناس يربطون كثيراً بين الأمرين، وهو أمر ليس وليد العصر، ففي حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين رجلاً دله الناس على الراهب حين سأل عن أعلم أهل الأرض.
المثال الثاني:
طالب متدين فاشل دراسياً، فهل يعني أن هناك صلة بين التدين والفشل الدراسي؟. أو طالب متدين متفوق دراسياً، هل يعني ذلك أن هناك صلة بين التدين و التفوق الدراسي؟.
إنها ظواهر كثيرة يبدو لنا في تفكيرنا العاجل الربط بينها، وافتراض السببية، والواقع أن الصلة محدودة أو معدومة.
الخطأ الرابع: الغلو والتطرف:
يرتبط الغلو والتطرف بمحدودية الثقافة ارتباطاًُ وثيقاً، ومن ثم كانت مجتمعاتنا تتسم بقدر منها في التفكير.
ومن صور الغلو والتطرف ما يأتي:
الصورة الأولى: الغلو في الحديث عن حجم الظواهر، وهذه الصورة أكثر ما تحدث لدى الخطباء والوعاظ، فكثيراً ما نسمع هذه العبارة (هذه ظاهرة تنذر بالخطر، هذه مشكلة عظيمة).
إننا نخلط بين خطورة الظاهرة وحجمها، فالظاهرة الخطيرة تستحق التحذير والحديث، لكن ذلك لا يسَوِّغ تضخيم حجمها.
الصورة الثانية: الغلو في الحديث عن الطاعة، فقد نتحدث عن طاعة من الطاعات، فنغلو في الحديث عنها، فقيام الليل على سبيل المثال شأن الصالحين ودأبهم، ورد ذلك في معظم آيات القران التي وصف الله عز وجل فيها المتقين والمؤمنين، لكن لا يمكن أن يتحول قيام الليل إلى فريضة، ولا يمكن أن يكون ترك قيام الليل علامة على عدم الجدية، وقسوة القلب ..إلخ..
نتحدث أحياناً عن بعض النوافل، ونحولها إلى فرائض، بل نجعلها علامة على صدق التدين وعدمه، يأتيك متحدث يقول لك: أن هذا الشاب غير جاد في التزامه لماذا؟. لأنه لا يقوم الليل، ولا يصوم النوافل، ولا يقرأ القران. إذاً هو غير جاد.
إن هذا الأمر لم يوجبه الله على عباده، ولو لقي العبد ربه تبارك وتعالى، وهو لم يقم ليلة واحدة من الليالي، أو لم يصم نافلة، فإنه لن يحاسب ولن يسأل عن ذلك، ولو أننا نحتاج إلى الحث على النوافل، والتأكيد والتربية عليها؛ لتعوض الإنسان ما نقص من فريضته، وتكفر ذنوبه. لكن هذا شيء، والغلو في الحديث عنها، وتحويل السنة إلى واجب شيء آخر.
الصورة الثالثة: الغلو في الحديث عن المعصية:
إن المؤمن يعظم المعصية ويخاف منها، وهو يرى أنها كالجبل يوشك أن يسقط على رأسه لكننا قد نتحدث عن معصية يقع فيها الشباب، فنبالغ في الحديث عنها، ونجعلها سبباً لسوء الخاتمة، وقد تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في الانحراف، مع أنها من الصغائر، ولا تصل إلى حد الكبيرة. والله عز وجل يقول: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً). سورةالنساءآية31. وفي المقابل قد يتحمس الإنسان ليبعث الرجاء عند الناس، فيقع في الطرف الآخر. خطيب كان يتحدث عن التوبة، فيريد أن يشجع الناس على التوبة. فقال: إن الله عز وجل لم يقل لا تسيئوا، ولكن قال: إذا أسأتم فاستغفروا.
وهل يسوغ أن يأتي متحدث إلى قوم أهل كبائر، فساق وفجَّار؛ ليقول لهم: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولحاء بقوم يذنبون؛ فيستغفرون فيغفر الله لهم؟ إنه يحتاج إلى اعتدال فالغلو في تضخيم المعصية لا يسوغ، وكذلك الغلو في التهوين من شأنها.
الصورة الرابعة: الغلو في الحماس للفكرة، فقد يتحمس إنسان لفكرة من الأفكار، فيضخمها ويقيس الناس من خلالها، ويطالبهم أن يتحمسوا لها بقدر حماسه هو لها. هذه الفكرة قد تكون مشروعاً دعوياً، أو باباً من أبواب الدعوة، أو الخير.
من حق هذا المرء أن يفرغ وقته كله وجهده ليكون متخصصاً في ميدان من الميادين، لكن هذا شيء، وأن يطالب كل الناس أن يتحمسوا لفكرته شيء آخر.
الخطأ الخامس: القطع في الظنيات أو الأمور الاحتمالية:
هناك أمور ظنية لا يمكن أن نقطع فيها، إلا أننا قد نحولها إلى مسائل قطعية ومن ذلك المسائل الاجتهادية فقد يترجح عند الإنسان فيها رأي معين، لكن ستبقى محل اجتهاد. لا يسوغ أن يصنف فيها كتاب تقرأ رأي المؤلف من عنوانه: القول القاطع، القول الصواب ..إلخ
وكما يحصل الخلل في القطع في الأمور الظنية في باب الأحكام الفقهية فهو يمتد إلى مجالات أخرى في حياتنا.
ففي تفسير الظواهر السياسية والتربوية، وفي الحديث عن المسائل الاجتماعية هناك مجالات واسعة للأخذ والعطاء والاحتمال. وحين يترجح لدى المتحدث رأي فهذا لا يلغي الاحتمال الآخر.
وفي ميادين النقاش نجد تباينا واسعا فهذا يتبنى رأيا والآخر يتبنى الرأي المقابل له والمضاد له، ولو كانت المسالة بهذا القدر من القطع والحزم لما احتملت اختلاف الآراء بهذا القدر من التباين.
إننا بحاجة إلى قدر من النسبية في التعامل مع ما يحتمل الرأي والاجتهاد، فبدلا من الحزم والقطع لنقل إن هذا الرأي صحيح بنسبة سبعين في المائة أو أقل أو أكثر، والمسألة محل نظر وأخذ وعطاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد