نصرة دولة مسلمة حاكمها كافر على دولة كافرة معتدية


بسم الله الرحمن الرحيم 

إن الدين الإسلامي، دين تضامن، وتكافل، وأخوة، يحث على الاجتماع والألفة وينبذ التفرق والتشتت والتنافر والانعزالية العامة، يُرَغِّب في الوحدة، ويرهِّب من الفرقة، من مقاصده العظمى، ومهماته الكبرى، إقامة أواصر المحبة بين المؤمنين والمسلمين بعضهم لبعض، ومحاربة العبث بهذه الشعيرة الإسلامية حتى ولو كان من بعض المسلمين، فكيف إذا كان من أعدائهم.

 

إن ديننا الإسلام جاء ليحقق الأمن والأمان، وينشر العدل، ويحفظ السلام بين المسلمين، ويقطع جذور كل عناصر الشر والفتنة، وبالجملة فقد جاء الإسلام بنشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وحين يتخلى أهل الإسلام عن هذه القيم العالية، والأخلاق الإنسانية، فحدث ولا حرج من انتشار الفوضى، وارتفاع الظلم، وانبعاث القلق والخوف وقُل على الاستقرار العفاء، وعلى الأمن السلام.

وينبثق من هذا مناصرة المسلمين حيثما كانوا، وتحت أي سيادة كانوا، وينبثق من هذه المناصرة، قضية نطرحها، وهي حديث الساعة وإحدى المسائل النازلة، بحاجة إلى التمحيص والتصحيحº لتكون مسألة محسومة، وقضية معلومة، لا سيما في وقت الفتن الهوجاء وفي ظل هذه الظروف الصعبة، والمرحلة الحرجة، والأجواء المتكدرة.

مسألتنا هذه (حكم نصرة الدولة المسلمة التي يحكمها كافر على دولة كافرة معتدية) وقد تكلم علماء الإسلام على هذه المسألة، ولم يختلف قول واحد منهم في ضرورة النصرة، والمعونة، ووجوب الدفاع عن المسلمين، والكف عن حرماتهم المصونة، وأموالهم المحرمة.

قال الإمام ابن حزم - رحمه الله - تعالى - في مراتب الإجماع (138) واتفقوا أن دفاع المشركين وأهل الكفر عن بيضة أهل الإسلام وقراهم وحصونهم وحريمهم إذا نزلوا على المسلمين فرض على الأحرار البالغين المطيقين.

وقال ابن عبد البر - رحمه الله - تعالى - في الكافي (1/2.5): فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار، وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً وشباباً وشيوخاً ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا، قلوا أو كثروا، على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم. فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه). وكذلك ذكر القرطبي - رحمه الله - في الجامع (8/151) وقال: (ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو. ولا خلاف في هذا).

وقال البغوي في شرح السنة (1./374) فرض العين: أن يدخل العدو دار قوم من المؤمنين، أو ينزل بباب بلدهم، فيجب على كل مكلف من الرجال ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى غزوهم، حراً كان أو عبداً، فقيراً كان أو غنياً، دفعاً عن أنفسهم وعن جيرانهم، وهو في حق من بعد عنهم من المسلمين فرض على الكفاية فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونهم، وإن وقعت الكفاية بالنازلين بهم، فلا فرض على الأبعدين إلا عن طريق الاختيار، والاستحباب، ولا يدخل في هذا القسم العبيد، والفقراء.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى - كما في الاختيارات (المطبوع ضمن الفتاوى الكبرى:5/537) - وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرطº بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم.

وعلى ضوء هذه التقريرات العلمية، وما تقتضيه الأقيسة الأصولية، والنظائر الفقهية، فإن (حكم نصرة الدولة المسلمة التي يحكمها كافر على دولة كافرة معتدية) واجب، ولا يؤثر على ذلك كفر الحاكم، لأن المناصرة قائمة لأمرين:

أحدهما: الذب عن بلاد المسلمين، وحرماتهم، وأعراضهم، وأموالهم.

الثاني: دفع عدوان الكفار، وطردهم عن بلاد المسلمين، وليس في هذا ولا ذاك الدفاع عن الحاكم، أو النظام، ولكل امرىءٍ, ما نوى، فالذين يقاتلون حماية للدين والنفس، والعرض، وحفظ حوزة المسلمين، هم مجاهدون في سبيل الله، والذين يقاتلون حماية للأنظمة الجاهلية، ورعاة الشر، أو يبحثون عن منصب وجاه، يعدون مقاتلين في سبيل الشيطان، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) متفق عليه من حديث أبي موسى.

وأهيب بالمسلمين أن لا ينكلوا عن نصرة المستضعفين في فلسطين، وأفغانستان وكشمير، والفلبين، والعراق، وأن لا يبخلوا عليهم بالمعونات المالية، والطبية، ومتطلبات الحياة، وأن لا يُخلوا بينهم وبين عدوهم، وقد جاء في صحيح مسلم (2897) من طريق سليمان بن بلال، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم، خلوا بيننا وبين الذين سَبَوا منا نُقاتلهم، فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبداً.....) وهذا شأن المؤمنين لا يخذلون إخوانهم ولا يدعونهم في وقت محنتهم، ولا يمتنعون عن نصرتهم، ومعونتهم. قال - تعالى -: (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ,) وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصرة المظلوم جاء هذا في الصحيحين من حديث البراء - رضي الله عنه - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) رواه البخاري عن أنس، ومسلم من حديث جابر.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) الحديث متفق عليه من طريق الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

ودين الإسلام دين ترابط ووفاء، وبر وإخاء، دعا إلى التواصل والألفة والنصرة وتحقيق ذلك على أرض الواقع، ليكون للمسلمين قوة ترهب عدو الله وعدوهم.

وبلاد المسلمين كالبلد الواحد، والاعتداء على بعضهم اعتداء على جميعهم، فلا تحول دون نصرتهم حدود وهمية، ولا حواجز مصطنعة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق على صحته من طريق زكرياء، عن الشعبي عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -.

وهم لبعضهم، كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً) متفق عليه من طريق بريد عن أبي بردة، عن أبي موسى - رضي الله عنه -.

ومن الأنباء العجيبة، والأخبار الغريبة، أن تتكاتف جهود الكفار، وينصر بعضهم بعضاً، ويدعم بعضهم بعضاً، حتى ولو كان المدعوم ذا قوة هائلة تغطي قوته قوة عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد! وصاحب مال وثروة يغطي ماله مال قارون! والداعم ذا فقر مدقع يأكل الشجر من الجوع، فهذه دول الكفر تتكاتف جميعاً مع اليهود من حين إعلانهم لدولتهم حتى ساعتنا هذه، وهم يلقون الدعم بكل ما يحمله من معنى على المستوى البشري والعسكري، والاقتصادي، والمعنوي، من دول الكفر عامة والدول الكبرى منها خاصة وتضامنت دول الكفر كلها مع أمريكا في قضية الرهائن الأمريكيين لدى إيران، رغم قوة أمريكا الهائلة، وتفوقها في مجالات عدة، وتضامنت اليهود مع نصارى لبنان فضلاً عن نصارى العالم أجمع، وتضامن الشيوعيون في كوبا وبولندا، مع روسيا في غزوها لأفغانستان، رغم أن روسيا ليست بحاجة إلى ذلك، فهل تكون دول الكفر أولى بمناصرة بعضها لبعض من المسلمين؟.

إن المسلمين أحق بهذا من أعدائهم، وهم أحق بها وأهلها، وهم أهل النصرة والنجدة، وأهل القوة والغلبة.

وفيه قضية أخرى، ومسألة هي من الأهمية بمكان، نحتاج إليها في عالمنا المعاصر وعصر وسادة الحكم إلى غير أهله، وفي ضل هذه الحملة الصليبية الشرسة على بلاد المسلمين، وهي حكم القتال تحت راية الحاكم الكافر، وبيان هذا، أنه إذا لم توجد راية شرعية قادرة على النكاية بالعدو، فلا حرج من القتال تحت راية ذلك الحاكم الكافر، ولا سيما إذا دعت إلى ذلك المصالح العامة، وانتفت الأضرار الراجحة، وهذا الذي تدل عليه ظواهر الأدلة الشرعية، والقواعد الأصولية، والنظائر الفقهية، ولا يصح شرعاً المنع من ذلك استناداً إلى حديث (من قاتل تحت راية عمية...) رواه مسلم في صحيحه (1848) من حديث أبي هريرة رضي لله عنهº فإن الراية العمية هي التي لا يستبين وجه الحق من الباطل فيها، أو تكون لعصبية جاهلية وعناصر فاسدة، ووشائج لون وتربة وأمور مشبوهة، فكم أشعلت هذه الراية المشئومة من حروب طاحنة، ومعارك مسعورة، وفتن هوجاء، وهذه هي الراية التي يحرم الانضمام إليها والقتال تحتها، إنها راية لا تحفل بالدين، ولا تقيم لروابطه وزناً، ولعل المعنى واضح من الحديث حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل فقتله جاهلية) وجاء في شرح النووي - رحمه الله - على صحيح مسلم (العمية) الأمر الأعمى لا يستبين وجهه كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور..) فمن قاتل تحت راية سلطان يبحث في قتاله عن تعزيز سلطانه، ونفوذ ملكه وتكثير ماله، فقتاله حرام حرام وهذه الجاهلية المذمومة.

وأما الذين يقاتلون الكفار - بقصد الذب عن دينهم، وبلادهم - تحت راية النظام الكفري، فلا يدخلون في ذلك، ومقاصد المكلفين معتبرة في هذه النازلة، وأهل العلم لا يشترطون لجهاد الدفع شرطاً، ولا تجب له راية شرعية، فيدفع بحسب القدرة والإمكان فالذين يقدرون على القتال تحت راية شرعية، ويستطيعون النكاية بالعدو، ولا يترتب على ذلك أضرار راجحة، فهذا الواجب شرعاً، والذين يعجزون عن ذلك ويقدرون على المواجهة فرادى، وجماعات دون راية مطلقاً، فهؤلاء مصيبون، والذين يعجزون عن هذا وذاك، ولا يقدرون على المواجهة الحقيقية للعدو، إلا بالدخول في مراكز التدريب النظامية والقتال تحت رايتهم، فلا حرج من ذلك، فهم يقاتلون لأمور متعددة ومصالح متنوعة أهمها وأولاها:

1 - الذب عن المسلمين، وبلادهم.

2 - صد عدوان الكفار المعتدين، أو تقليل حجم قواتهم، وإضعافهم.

3 - رفع الضرر العام، ولا يختلف الفقهاء، والأصوليون أن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام.

ودفع هؤلاء المستعمرين الصليبيين الذين غزوا بلاد المسلمين تحت أي راية، مصلحة راجحة لقطع المد الصليبي الغاشم وتوقيف زحفهº لأن هؤلاء الصليبيين لا يقصدون الأنظمة، وصناعها، فهم يريدون إبادة المسلمين وتغيير مبادئهم، وقيمهم - كما أعلنوها حرباً صليبية - وتركيعهم لهم ونهب ثرواتهم، وقد جاء القرآن الكريم بكشف مخططاتهم، وسياستهم تجاه الأمة الإسلامية. قال الله - تعالى -: (وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِن اتَّبَعتَ أَهوَاءَهُم بَعدَ الَّذِي جَاءَكَ مِن العِلمِ مَا لَكَ مِن اللَّهِ مِن وَلِيٍّ, وَلا نَصِيرٍ,) وجاء في تصريحات بعض شياطينهم (لن تقف جهودنا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة، ويقام قداس الأحد في المدينة) والقتال لمكافحة الصليبيين في العراق كالجهاد لدفع الصهاينة في فلسطين، وكالجهاد في الشيشان، وأكثر بلاد المسلمين، والذين يمتنعون عن الجهاد في مواجهة هذا اللون الجديد من ألوان الاستعمار الصليبي، معتذرين بالرايات الجاهلية، والطاغوتية، يعطلون حينئذ المواجهة وجهاد الدفع، ويعززون الزحف الصليبي.

بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك، فلا حرج من مناصرة دولة وشعب كافر على دولة كافرة أخرى، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين، وقصة الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - خير دليل على هذه المسألةº فإنه - رضي الله عنه - راهن المشركين على انتصار الروم على فارس، والقصة عند الترمذي في جامعه (3193) من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله - تعالى -: (الم. غُلِبَت الرٌّومُ. فِي أَدنَى الأَرضِ) قال: غُلبت وغَلبت. قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: (أما إنهم سيغلبون) فذكره أبو بكر لهم،فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (ألا جعلته إلى دون) قال: أراه العشر، قال: قال سعيد: والبضع ما دون العشر، قال: ثم ظهرت الروم بعد قال: فذلك قوله - تعالى -: (الم. غُلِبَت الرٌّومُ) إلى قوله (وَيَومَئِذٍ, يَفرَحُ المُؤمِنُونَ. بِنَصرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ) قال: سفيان سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة.

فهذا الخبر دليل على جواز مناصرة كافر على كافر آخر، سواء كانت المناصرة بالفرح والتأييد على ما جاء في هذا الخبر، أو كانت بالمعونة المالية، والنفس ما دامت فيه مصلحة راجحة للإسلام والمسلمين، وينظر في هذه المصلحة إلى أهل العلم بالشرع، وأهل الورع والتقوى، ولا يلتمس هذا الأمر عند من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً، وجعل الفتوى حسب الطلب، والمصالح الشخصية، والمآرب السياسية.

* وقد قال أبو حنيفة - رحمه الله - يستعان بهم ويعانون على الإطلاق متى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهمº فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره) وذهب غيره: إلى أنه لا يكره، وأنه لا حرج من القتال معهم، وتحت رايتهم لمصلحة راجحة، وإذا قصد بقتاله النكاية بالكفار وزعزعة صفوفهم، أثيب على ذلك، وإن مات رجيت له الشهادة.

* وفي مسائل الإمام أحمد لأبي داود (248 - 249) قلت لأحمد: لو نزل عدو بأهل قسطنطينية فقال الملك للأسرى: اخرجوا فقاتلوا، وأعطيكم كذا وكذا؟ قال: إن قال أخلي عنكم فلا بأس رجاء أن ينجوا.

قال: قلت فإن قال: أعطيكم وأحسن إليكم، هل يقاتلون معه؟

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) لا أدري

وقوله - رحمه الله - (لا أدري) وذلك لتعارض المصالح، والمفاسد، والقواعد في هذا الباب واضحة وجلية، ويبقى الشأن في تنزيل المصالح، والمفاسد على النوازل.

والمسائل عند التطبيق تظل بحاجة إلى التقدير والتمييز والدراسة، لتحديد الراجح من المرجوح، وما هو من قبيل جلب المصلحة، وما هو من قبيل درأ المفسدة، ولتمييز أي المصلحتين أصلح، وأيهما أكبر، وقد أفتى الإمام أحمد - رحمه الله - بجواز القتال مع الكفار وتحت رايتهم، لفك الأسر، وهو قد ينجو وقد يهلك، ومناط الجواز في هذا هو تحقيق المصلحة، وتوقف - رحمه الله - في القتال معهم إذا كان بقصد دنيا يصيبونها، أو مكرمة ينالونها وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى جواز هذا بنية إعلاء كلمة الله، وإلحاق الضرر بالكفار، وتوهين قوتهم، وبث الرعب في صفوفهم.

• وقال محمد بن الحسن - رحمه الله - كما في (شرح السير) 4/1515:

لا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا أهل الشرك مع أهل الشركº لأن الفئتين حزب الشيطان وحزب الشيطان هم الخاسرون، فلا ينبغي للمسلم أن ينضم إلى إحدى الفئتين فيكثر سوادهم ويقاتل دفعاً عنهمº وهذا لأن حكم الشرك هو الظاهر، والمسلم إنما يقاتل لنصرة أهل الحق لا لإظهار حكم الشرك - إلى أن قال - رحمه الله - تعالى - ولو قال أهل الحرب لأسراء فيهم: قاتلوا معنا عدونا من المشركين، وهم لا يخافونهم على أنفسهم إن لم يفعلوا، فليس ينبغي أن يقاتلوهم معهمº لأن في هذا القتال إظهار الشرك، والمقاتل يخاطر بنفسه فلا رخصة في ذلك إلا على قصد إعزاز الدين، أو الدفع عن نفسه. فإذا كانوا يخافون أولئك الآخرين على أنفسهم فلا بأس بأن يقاتلوهم ; لأنهم يدفعون الآن شر القتل عن أنفسهم، فإنهم يأمنون الذين هم في أيديهم على أنفسهم، ولا يأمنون الآخرين إن وقعوا في أيديهم، فحل لهم أن يقاتلوا دفعاً عن أنفسهم.

وإن قالوا لهم: قاتلوا معنا عدونا من المشركين و إلا قتلناكم، فلا بأس بأن يقاتلوا دفعاً لهم، لأنهم أيضاً يدفعون الآن شر القتل عن أنفسهم، وقتل أولئك المشركين حلال ولا بأس بالإقدام على ما هو حلال عند تحقق الضرورة بسبب الإكراه، وربما يجب ذلك كما في تناول الميتة، وشرب الخمر.

فإن هددوهم ليقفوا معهم في صفهم ولا يقاتلوا المسلمين، فهم في سعة في ذلك لأنهم الآن لا يصنعون بالمسلمين شيئاً، فهذا ليس من جملة المظالم وأكبر ما فيه أن يلحق المسلمين وهنº لكثرة سواد المشركين في أعينهم - فهو بمنزلة ما لو أكره على إتلاف مال المسلمين بوعيد متلف.

ولو قالوا لهم: قاتلوا معنا عدونا من أهل حرب آخرين على أن نخلي سبيلكم إذا انقضت حربنا، ووقع في قلوبهم أنهم صادقون فلا بأس أن يقاتلوا معهمº لأنهم يدفعون بهذا الأسر عن أنفسهم.

وقال السرخسي الحنفي - رحمه الله - في (المبسوط1./98): وإذا كان قوم من المسلمين مستأمنين في دار الحرب فأغار على تلك الدار قوم من أهل الحرب لم يحل لهؤلاء المسلمين أن يقاتلوهم ; لأن في القتال تعريض النفس فلا يحل ذلك إلا على وجه إعلاء كلمة الله - عز وجل - وإعزاز الدين، وذلك لا يوجد ههنا ; لأن أحكام أهل الشرك غالبة فيهم فلا يستطيع المسلمون أن يحكموا بأحكام أهل الإسلام، فكان قتالهم في الصورة لإعلاء كلمة الشرك، وذلك لا يحل إلا أن يخافوا على أنفسهم من أولئكº فحينئذ لا بأس بأن يقاتلوهم للدفع عن أنفسهم، لا لإعلاء كلمة الشرك، والأصل فيه حديث جعفر - رضي الله عنه - ، فإنه قاتل بالحبشة العدو الذي كان قصد النجاشي، وإنما فعل ذلك ; لأنه لما كان مع المسلمين يومئذ آمناً عند النجاشي فكان يخاف على نفسه وعلى المسلمين من غيره فعرفنا أنه لا بأس بذلك عند الخوف.

وقال ابن هبيرة في الإفصاح (2/438) واختلفوا: هل يستعان بالمشركين على قتال أهل الحرب، أو يعاونون على عدوهم؟ فقال مالك وأحمد: لا يستعان بهم ولا يعاونون على الإطلاق، واستثنى مالك: إلا أن يكونوا خدماً للمسلمين فيجوز. وقال أبو حنيفة: يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق متى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره، وقال الشافعي: يجوز ذلك بشرطين أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة، وبالمشركين كثرة، والثاني: أن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام، وميل إليه، فإن استعين بهم رضخ لهم، ولم يسهم لهم، إلا أن أحمد قال في إحدى روايتيه يسهم لهم.

وقال الجصاص الحنفي في مختصر اختلاف الفقهاء للإمام الطحاوي (3/454):

قال أصحابنا (في المستأمن المسلم يقاتل مع المشركين): لا ينبغي أن يقاتلوا مع أهل الشرك لأن حكم الشرك هو الظاهر وهو قول مالك. وقال الثوري: يقاتلون معهم.

وقال الأوزاعي: لا يقاتلون إلا أن يشترطوا عليهم إن غلبوا أن يردوهم إلى دار الإسلام. وللشافعي: قولان. انتهى.

وفي الفتاوى الكبرى الفقهية (2/25) لابن حجر الهيتمي - رحمه الله - تعالى -: وسئل نفع الله به وفسح في مدته: عما إذا حضر المسلم الحرب الواقعة بين الكفار الحربيين ككفرة مليبار فإن من يشاهد الحرب كافراً كان أو مسلماً يقصد معاركهم إلى نحو فرسخين ويعدون لذلك مآكل، ويقوم عند معركتهم ويتفرج على القتل والضرب فيما بينهم، فهل يأثم المسلم بمشاهدته وحضوره لما فيه من تكثير جمعهم، مع أنه لا ضرورة له إلى ذلك وتقبيح طائفة وتحسين أخرى والحث على الهجوم على الآخرين، ووجود الخطر فربما تصل إليه سهامهم، وربما يجرح وربما يقتل أو لا إثم في ذلك؟

وإذا أعان المسلمون إحدى طائفتي الكفرة في حروبهم، وقاتلوا الآخرين معهم من غير ضرورة ولا حاجة حتى يَقتُلوا أو يُقتَلوا في الحروب، فهل يجوز ذلك أو لا؟ وهل يؤجر المسلم بذلك لقتله الكافر أو لكونه مقتولة؟ وهل يعامل معاملة الشهيد في عدم الغسل والصلاة عليه؟ وقد يكون خروج المسلم لإعانتهم لطلب ملوك بلادهم الكفرة منه أن يخرج معهم لذلك، فكيف يكون الحكم في ذلك؟ وهل فرق بين ما إذا خرج بطلب ملوكهم أو لا؟

فأجاب بقوله:

حضور المسلم لحرب الحربيين فيما بينهم بقصد تعلمه الشجاعة وكيفية القتال وقوة النفس عند مشاهدته أو بقصد فرحه بمن مات من الحربيين لتعلو كلمة الله - تعالى - بضعف شوكتهم وقلة عددهم، أو بقصد شيء غير ذلك من المقاصد الصحيحة جائز، محذور فيه بوجه، سواء بعد مكان الحرب أو قرب، وليس في ذلك تكثير لجمعهم، فان التكثير إنما يتصور في حق الموالي والمناصر، وأما الحاضر راجياً لزوالهم وفنائهم عن آخرهم ومنتظراً وقوع دائرة عليهم فينتقم منهم فغير مكثر لجمعهم، بل هو من جملة المحاربين لهم باطناً.

وكذا لا محذور أيضاً في إغراء بعضهم على بعض، لأن التوصل إلى قتل الحربي جائز بل محبوب بأي طريق كان، هذا كله إن ظن سلامته أو قتله بعد إنكائهم.

أما لو غلب على ظنه أن مجرد حضوره يؤدي إلى قتله أو نحوه من غير أن يلحقهم منه نكاية بوجه، فحضوره حينئذ في غاية الذم والتقصير، فليمسك عنه، وإذا أعان مسلم أو أكثر إحدى الطائفتين فقتله في الحرب أحد الحربيين فهو شهيد لا يغسل ولا يصلى عليه وله ثواب، أي ثواب إن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولا فرق في ذلك كله بين من خرج بنفسه ومن خرج بطلب ملكهم له حيث لا إجبار.

وسئل أيضاً نحو هذا السؤال، فأجاب - رحمه الله تبارك وتعالى - بقوله:

إذا وقع قتال بين طائفتين من الحربيين لم يحرم الحضورº لأن دم كلٍ, من الطائفتين مهدر، فالقتل فيهما واقع في محله، فليس ثم معصية أقر عليها المتفرج بحضوره، نعم إن خشي على عود ضرر عليه من الحضور حرم عليه.

ولعل منع المشايخ المذكورين الحضور، كان لأجل ذلك، وللمسلمين أن يقاتلوا كلاً من الطائفتين، وأن يقاتلوا إحداهما، لا بقصد نصرة الطائفة الأخرى، بل بقصد إعلاء كلمة الإسلام، وإلحاق النكاية في أعداء الله - تعالى - ، ومن فعل ذلك بهذا القصد حصل له أجر المجاهد لقوله - صلى الله عليه وسلم - في خبر البخاري وغيره: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله - ولا شك أن من قاتل إحدى الطائفتين بقصد ذلك كان كذلك حتى إذا قتل في الحرب، أو انقضت وحركته حركة مذبوح أو ليس به حياة مستقرة عومل معاملة الشهيد في الدنيا والآخرة، فلا يغسل ولا يصلى عليه، نعم يشترط أن يعلم مريد القتال أنه يبلغ نوع نكاية فيهم، أما لو علم أنه بمجرد أن يبرز للقتال بادروه بالقتل من غير أدنى نكاية فيهم فلا يجوز له قتالهم حينئذº لأنه يقتل نفسه من غير فائدة ألبتة، فيكون عليه إثم قاتل نفسه، والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

والنقولات عن الأئمة، والفقهاء، في هذا الباب كثيرة، فمنهم من أجاز بقيد ومنهم من أطلق، وذهب آخرون إلى المنع مطلقاً، والصواب من ذلك: الجواز للحاجة سواء كانت الحاجة خاصة تعود على فك أسير، أم كانت عامة لمصلحة المسلمين، ومناط الجواز في هذه المسألة النازلة الحاجة، ويرجع في ذلك إلى أهل العلم، والخبرة في كل نازلة.

وقد جاءت الشريعة، بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها ويُحقق في هذا الباب خير الخيرين وشر الشرين، وتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

وأفادت هذه النقولات عن الأئمة في تجويز القتال مع الكفار الأصليين، وتحت رايتهم، لمصلحة تخلص الأسير من أسره، أنه لا يمتنع على هذا الأصل، وبجامع المصلحة والحاجة، القتال تحت راية قومية أو علمانية، بقصد حماية الدين، والنفس، وبلاد المسلمين، وزعزعة قوات الصليبيين، ودرء فتنتهم، فهذا أمر أكثر دلالة، وأكبر مصلحة من القتال تحت راية الكفار، ومعونتهم على كفار آخرين، رجاء فك الأسر ونحو ذلك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply