بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد: فإن الله - تعالى - قد حبانا بلغة عظيمة هي لغة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلام والكتاب الكريم الذي لم بنزل قبله مثله، ولن ينزل كتابا بعده، فهو آخر الكتب الإلهية.
وإن من شكر هذه النعمة أن نحافظ على هذه اللغة ونعتز بها، وأن نعلمها الأجيال، ونبعث في نفوسهم محبتها والحفاظ عليها. ومن الاعتزاز بها أن تكون وسيلة مخاطباتنا دائما بحيث لا نلجأ إلى غيرها من غير حاجة، وكما أن هذا يعد من الوفاء لهذه اللغة فهو كذلك من جملة الأمور التي تحفظ للأمة كيانها بل شخصيتها التي تميزها عن غيرها.
كما أن ذلك من الأمور التي تؤثر في قلب الإنسان ونفسه ومزاجه المعنوي، وقد قرر ذلك أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق الاقتضاء 1/470 وذلك أن التكلم بلغة قوم فيه نوع محاكاة لهم، ولا يخفى أثر المحاكاة على نفس صاحبها.
(وأيضاً - فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب ألا به فهو واجب) ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية. وهذا معنى ما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة، عن عمر بن زيد قال: كتب عمر إلى أبي موسى - رضي الله عنه -: (أما بعد: فتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه عربي) وفي حديث آخر عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (تعلموا العربية، فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض، فإنها من دينكم) وهذا الذي أمر به عمر - رضي الله عنه - من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يُحتاج إليهº لأن الدين فيه أقوال وأعمال، فقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله) ما بين الأقواس من كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء 1/470-1 وبهذا تعلم أن هذه مسألة شرعية ينبني عليها بعض الأحكام الشرعية، ذلك أن الكلام بغير لغة العرب على قسمين، يتفرع عن كل منها نوعان على النحو الأتي:
القسم الأول: وهو ما كان من قبيل الألفاظ المفردة كأسماء الأشخاص أو الشهور أو الآلات أو غيرها، وهو نوعان:
النوع الأول: ما كان باقياً على أعجميته أي: أنه لم يخالط اللغة العربية ولم يداخلها حتى يصير كأنه واحد من ألفاظها، وهو نوعان:
الأول: أن يكون من ألفاظ التي لا يعرف معناها.
قال حرب الكرماني - رحمه الله - (باب تسمية الشهور بالفارسية) قلت لأحمد: فإن للفرس أياماًً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف (أي لا يعرف معناها) فكره ذلك أشد الكراهة وروى فيه عن مجاهد حديثاً: أنه كره أن يقال: آذرماه، وذي ماه (أسماء لبعض الشهور في الفارسية) قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه، قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل: آذرماه، وذي ماه؟ قال: إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو. قال وكان ابن المبارك يكره (إيزد) أن يحلف به، وقال لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية. قال: وسألت إسحاق مرة أخرى قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس. قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس نقلته بواسطة الاقتضاء، 1/461-462.
وقد وجه أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله- قول الإمام أحمد في كراهة هذه الأسماء بأن الاسم الذي لا يعرف معناه يحتمل أن يكون له معنى محرم، والمسلم لا ينطق بما لا يعرف معناه انظر: الاقتضاء 1/462.
وقال: ((إن جهل معناه فأحمد كرهه)) الاقتضاء، 1/462، وانظر نحوه، ص 464.
الثاني: ماله معنى معروف. وهو على نوعين:
أ. ما كان له معنى محرم.
فهذا يمنع - بلا ريب - من باب أولى، حيث منع ما لا يعرف معناه الاقتضاء، 1/462، وانظر نحوه، ص 464.
ب. ما كان له معنى غير محرم، فهذا على نوعين:
1. أن يتكلم به لحاجة كأسماء بعض المصنوعات أو المصطلحات العلمية ونحوها مما لا يعرف لها مقابل في العربية أو كان السامع لا يفهم مراده إلا باللفظ الأعجمي (أخرج الطبراني في الكبير، 6/218، أن سلمان - رضي الله عنه - أصاب جارية فقال لها بالفارسية: صلي. فقالت: لا، اسجدي واحدة … إلخ) فلا بأس بالتكلم بها في هذه الحال، لكن ينبغي السعي في تعريبها حفظاً للغة العربية من الضمور والانحسار.
2. أن يتكلم به لغير حاجة، وله صورتان:
الأولى: أن يقع ذلك منه على سبيل الإعجاب بالأعجمية ومحبتها وإيثارها فهذا لا ينبغي، وفاعله مبتلى بالنقص والهزيمة النفسية.
الثانية: أن لا يكون منشأ ذلك محبة الأعجمية والإعجاب بها، والذي يظهر أن هذا على قسمين:
أن يكون ذلك قليلاً أو نادراً. وهذا لا حرج فيه - إن شاء الله -. قال البخاري - رحمه الله - (باب من تكلم بالفارسية والرطانة) البخاري مع الفتح، 6/183، والرطانة بكسر الراء ويجوز فتحها وهو كلام غير العربي. انظر: الفتح، 6/ 184، وأورد تحته ثلاثة أحاديث، الأول: حديث جابر - رضي الله عنه - قال: (قلت يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير فتعال أنت ونفر.فصاح النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع سوراًً، فحي هلا بكم) البخاري في الجهاد من تكلم بالفارسية، والرطانة، حديث رقم: (3070)،6/183، وأورده في موضعين آخرين حديث رقم:(4101، 4102).
والشاهد هنا في قوله (سُوراً) بضم السين وسكون الواو وهو الطعام مطلقاً أو الطعام الذي يدعى إليه. وهو بالهمز (السُؤر) بقية الشيء. قال الحافظ (والأول هو المراد هنا) الفتح، 6/184، ونقل عن الطبري أنه من الفارسية، قيل له: أليس هو الفضلة؟ قال لم يكن هناك شيء فضل ذلك منه، إنما هوا [أي معناه] بالفارسية: من أتى دعوة) الفتح، 6/184.
الحديث الثاني: حديث أم خالد بنت خالد بن سعيد، قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلي قميص أصفر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سَنَة سَنَة) البخاري في الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم (3071) 6/183، وذكره في مواضع أحرى، انظر الأحاديث رقم: (3874، 5823، 5845، 5993) قال عبد الله (وهو عبد الله بن المبارك - رحمه الله - أحد رواة هذا الحديث): وهي بالحبشية: حسنة. والشاهد فيه قوله (سَنَة سَنَة) بفتح النون وسكون الهاء، وفي بعض الروايات: (سناه) بزيادة ألف. والهاء فيهما للسكت وقد تحذف، وقد جاءت بعض الروايات بحذفها.
وأم خالد - رضي الله عنها - ولدت في الحبشة، مع أبيها وهي صغيرة.
والحديث الثالث: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفارسية، كخ، كخ! أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة؟) (16) البخاري في الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم: (3072) وذكره في الزكاة، باب مايذكر في الصدقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم: (1491) 3/354.
فقوله: (كخ كخ) كلمة تقال لردع الصبي عند تناوله ما يُستقذر، قيل عربية، وقيل أعجمية، وذهب بعضهم إلى أنها معربة انظر الفتح، 3/355. وصنيع البخاري يدل على أنه يرى أنها أعجمية. والله أعلم.
قال الحافظ: وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة أعجمية، لأن الأول يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون أصله (حسنة) محرف أوله إيجازاً، والثالث من أسماء الأصوات. وقد أجاب عن الأخير ابن المنيِر فقال: وجه مناسبة أنه - صلى الله عليه وسلم - خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل، فهو كمخاطبة العجمي بما يفهمه من لغته. قلت: وبهذا يجاب عن الباقي) الفتح 6/185 ولعل هذا الأخيرة لا يظهر، لأن هؤلاء جميعاً كانوا من العرب.
ويحتمل أن الأول والثالث من قبيل الدارج في لغة العرب الذي صار من جملة الألفاظ المستعملة عند أهل العربية.
وأما الثاني وهو حديث أم خالد فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله لهذه الجارية الصغيرة على سبيل الملاطفة والمداعبة لكونها قدمت من الحبشة، والغالب أنها تعرف بعض كلامهم. والله أعلم.
ومما ورد في هذا الباب ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه(مختصر تاريخ دمشق، 10/297)، وساقه الذهبي بسنده (السير، 4/103) عن علي - رضي الله عنه - أنه قال للقاضي شريح - وقد حكم في قضية بين يديه فأعجبه حكمه -: (قالون) وهي بلسان الروم بمعنى: أحسنت أو جيد. ولم يكن شريح رومياً ولا مقيماً في أرض الروم، بل كان من كندة في أهل اليمن، وولي القضاء في الكوفة ستين سنة.
ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة - وفيه من لا يعرف - أن أبا هريرة - رضي الله عنه - أشرف على السوق فقال: سحت وداست (مصنف ابن أبي شيبة، 9/12).
وأخرج ابن أبي شيبة - أيضاً - عن منذر الثوري قال ((سأل رجل ابن الحنفية عن الجبن فقال: يا جارية: اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به ينيراً(هكذا في المطبوع وبعض المعاصرين يرجع أن صوابها: (نيزا)، فاشترت به ينيراً ثم جاءت به (المصنف، 9/12) يعني: الجبن.
وذكر القرطبي - وعزاه للخطيب - عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت: أندرون (الجامع لأحكام القرآن، 12/218) وقال القرطبي: وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل اصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: 0 أندرون فلقبه أهل المدينة (الداروردي) الجامع لأحكام القرآن، 12وذكره الذهبي في السير 8/366/218 و(أندرون) كلمة فارسية تعني (داخل، باطن)) ونحو ذلك.
وقال حبيب بن أبي ثابت (كنا نسمى أبا صالح (وهو أبو صالح مولى أم هانئ).
\"دزوزن\"وهو بالفارسية: كتاب) (نقله النسائي في الكبرى، 2/252).
فهذه الآثار تدل على أن السلف كانوا يتكلمون في أحيان قليلة بالكلمة من الأعجمية.
قال أبو العابس ابن تيمية - رحمه الله -: (ونقل عن طائفة منهم أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية).
وفي الجملة: فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام عليه) الاقتضاء، 1/468.
1. أن يكثر ذلك مع عدم الحاجة، فهذا ينبغي أن يُجتنب.
قال الشافعي - رحمه الله -: ((سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجاراً، ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجراً، إلا تاجراً. ولا ينطق بالعربية فيسمى شيئاً بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله - عز وجل - لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنه اللسان الأولى بأن يكون مرغوباً فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية) نقله بواسطة الاقتضاء، 1/465.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:(فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين) نقله بواسطة الاقتضاء، 1/465
النوع الثاني:من القسم الأول وهو ما خالط كلام العرب ودخل في لغتهم حتى صار بمنزلة مفرادتها الأصلية، وهو المعرب وما في حكمه. وهو نوعان: ما استعملته العرب قبل اختلاط ألسنتها.
فهذا معدود في حكم كلام العرب ولا غضاضة في استعماله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد