بسم الله الرحمن الرحيم
ما دخل على اللغة بعد اختلاط الألسنة, وقد وقعت الجمهور من ذلك في القرنين الأخيرين, ذلك أن أكثر بلاد المسلمين وقعت تحت سيطرة أعدائها, إضافة إلى أن الأمة صارت تستقبل من غيرها أشياء كثيرة من الثقافة والصناعة وغير ذك فتستقر اللفظة في الأمة غالباً بثوبها الذي جاءت به من حيث التسمية وغيرها. فصار الناس ينطقون بتلك الألفاظ الأعجمية نطقهم بالعربية دون تنبه أو تمييز لأصلها, فهم حين
يتلفظون بها لا يقصدون التكلم بأعجمية سواء كانوا عالمين بأصلها أم لم يكونوا كذلك.
وفي هذه الحال لا يعد من صدور منه مثل ذلك محاكياً للأعاجم أو متشبهاً بهم, ومن ثم فالحرج الشرعي مرتفع عنه.
لكن ثمة أمر آخر ينبغي مراعاته, وهو أن هذه الكلمات الدخيلة على اللغة ينبغي استبدالها بالألفاظ التي تقوم مقامها في العربية, كما ينبغي أن ينبه الناس إلى أصل تلك المفردات ليكون ذلك معيناً على التخلص منها, ذلك أنها تزاحم مفردات العربية وإذا كثرت فإنها تفسد اللغة من أساسها وتقوضها كما لا يخفى.
· فائدة: من عادة العرب إذا نطقوا أعجمية أنهم يلقونها على طريقتهم في النطق من غير تكلف, ودون ترقيق في اللفظ فضلاً عن نبرة الصوت, وقاعدتهم في ذلك (أعجمي فالعب به) كما قرر ذلك بعض المتقدمين من أئمة اللغة, وهذا على خلاف ما شاع في أوساط المثقفين من تمحل في إخراج اللفظة مصحوبة بنبرتها الأعجمية.
القسم الثاني: ما كان من قبيل التراكيب والجمل وليس من قبيل اللفظة المفردة, وهو نوعان:
الأول: ما دعت إليه الحاجة فهذا لا بأس به كأن يكون المخاطب لا يعرف العربية.
لكن ينبغي أن تتضافر الجهود على بث العربية ودعمها بكل وسيلة ممكنة حتى تكون هي لغة التخاطب بين العرب وغيرهم كما كان عليه الأمر في الأزمنة التي كانت فيها القوة والغلبة للمسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:(ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر, ولغة أهلها رومية, وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية. وأهل المغرب, ولغة أهلها بربرية - عودوا أهل البلاد العربية, حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم. وهكذا كانت خراسان قديماً) الاقتضاء, 1/469- 470.
ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة, واعتادوا الخطاب بالفارسية, حتى غلبت عليهم, وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم, ولا ريب أن هذا مكروه. إنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية, حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور, فيظهر شعار الإسلام وأهله, ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف, بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب.
الثاني: ما لم تدع إليه الحاجة. وهو نوعان:
1. ما كان الباعث له محبتها والإعجاب بها, فهذا لا ينبغي فعله سواء كان قليلاً أم كثيراً ويخشى على صاحبه أن يقع في النفاق العلمي كما لا يخفى وهو من ألوان محاكاتهم والتشبه بهم, وهذا يكثر وقوعة عادة بين من ابتلوا بالهزيمة النفسية لا سيما في أوقات ضعف الأمة وتراجعها, فالأمم القوية تسعى لفرض ثقافتها على الأمم الضعيفة المغلوبة, وإنما يعبر ذلك كله على جسد اللغة.
ولغة الأمصار تكون عادة بلسان الأمة الغالبة عليها, ولما كان المسلمون غالبين على غيرهم من الأمم صارت اللغة العربية هي لغة التخاطب في كثير من البلاد التي هي في أصلها أعجمية. لابن خلدون - رحمه الله - كلام مفيد في هذا الموضوع فراجعه إن شئت في المقدمة, ص 379.
قال ابن حزم - رحمه الله -: (فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم, فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم, وأما من تَلِفَت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر, وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم, ونسيان أنسابهم وأخبارهم, وبيود علومهم, هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة الإحكام, 1/31.
2. ما لم يكن الباعث له الإعجاب بها ومحبتها.وله صورتان:
الأولى: أن يعتاد ذلك ويكثر منه. وهذا لا ينبغي أيضاً, لأن (اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون) ما بين الأقواس من كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء, 1/463.
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن عمر - رضي الله عنه - قال: (ما تعلم الرجل الفارسية إلا خَبُثَ (هكذا في المطبوع, ولعلها: خب: أي صار مخادعاً), ولا خبث إلا نقصت مروءته) المصنف, 9/11.
وأخرج عن سعد بن أبي وقاص - رضى الله عنه - أنه سمع قوماً يتكلمون بالفارسية, فقال: (ما بال المجوسية بعد الحنيفية؟) المصنف, 9/11.
وأخرج عن عطاء قال: (لا تعلموا رطانة الأعاجم, ولا تدخلوا عليهم كنائسهم, فإن السخط ينزل عليهم) المصنف, 9/11.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله, أو لأهل الدار, أو للرجل مع صاحبه, أو لأهل السوق, أو للأمراء, أو لأهل الديوان, أو لأهل الفقه, فلا ريب أن هذا مكروه, فإنه من التشبه بالأعاجم, وهو مكروه كما تقدم الاقتضاء: 1/469.
الثانية: أن يقع ذلك نادراً, فهذا أسهل من الأول ينبغي أن يجتنب.
والله أعلم, وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد