بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ولقد كان من فضائل هذه الأمة وشمائلها: أنّ الله بارك في أيامها، ووفقها إلى الانتفاع بالصالحات في أوقاتها. فدلّنا ـ سبحانه ـ على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهدانا من الشهور إلى رمضان، ومن الساعات إلى السَّحَر، ووجّهنا إلى يوم عرفة وعاشوراء، وغير ذلك من أيّام الله المباركة.
ومن أيّام الأسبوع جاء تعظيم يوم الجمعة في القرآن حتى سمّيت سورة (الجمعة)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة. فيه خلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة) [رواه مسلم]. وبَيّن - صلى الله عليه وسلم - أنّ الجمعة كان عيداً معظّماً، ولكن ضلّ عنه أهل الكتاب ووفّق الله المسلمين إليه. فقد أخرج مسلم من حديث حذيفة - رضي الله تعالى - عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تَبَع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضيّ لهم قبل الخلائق).
وقد ذكر العلماء من فقه الانتفاع بالجمعة آداباً جمّة، منها:
1. فضل الغسل يوم الجمعة:
فقد وردت جملة من الأحاديث الصحيحة استنبط منها بعض العلماء وجوب الغسل، وذهب بعضهم إلى استحبابه. من ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل). وفيهما أيضاً حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم)، ورَوى مسلم حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كُفَاةٌ، فكانوا يكون لهم تَفَلٌ- وفي رواية: "يصيبهم الغبار فتخرج منهم الرّيح"- فقيل لهم: لو اغتسلتم يوم الجمعة". وروى الشيخان حديث عمر - رضي الله عنه - وهو يخطب على المنبر يوم الجمعة وقد دخل عثمان بن عفّان، فعرّض به عمر فقال: "ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟"ـ وفي رواية: "فناداه عمر: أيّة ساعة هذه؟"ـ فقال: "إني شُغلت اليومَ فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء، فلم أزد على أن توضأت". فقال عمر: "والوضوءَ أيضاً! وقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل". قال الحافظ ابن حجر: "إذا عُرفَ أنّ الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة والتنظيف رعايةُ الحاضرين من التأذّي بالرائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يزيل تنظيفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه. ولعلّ هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن ممّا يغاير التنظيف"[فتح الباري 3/10].
2. استحباب التطيب والدَّهن والاستياك:
فقد ورد الحثّ في الأحاديث الشريفة على مسّ الطيب، ولو من طيب الزوجة تأكيداً لذلك. روى الشيخان حديث أبي سعيد الخدري قال: "أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كلّ محتلم، وأن يستنّ، وأن يمسّ طيباً إن وجد)، وروى البخاري عن سلمان قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهّر ما استطاع من طهرٍ, ويدّهن من دُهنه أو يمسّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له، ثم يُنصت إذا تكلّم الإمام إلاّ غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)، وفي مسلم: (ولو من طيب المرأة). وفي الحث على الاستياك لطيفة أشار إليها الزّين بن المنيّر بقوله: "لمّا خُصّت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب، ناسب ذلك تطييب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضر الملائكة وبني آدم"[عن فتح الباري 3/30].
3. استحباب لبس أحسن ما يجد:
فاليوم يوم عيد، وقد استدل البخاري على هذا الأمر بقول عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما رأى حُلّة سِيَراء عند باب المسجد: "يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك"، [الحلة السيراء ثوب مسيّر فيه خطوط من القزِّ كالسيور]. وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنّه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته). [وصله في التمهيد وسنن أبي داود وابن ماجة].
4. فضل التبكير إلى المسجد وتعمير الوقت بكثرة الذكر:
لما رتبه الشارع على ذلك من عظيم الأجر فإن يوم الجمعة للصالحين يوم بركة وذكرى، وموعظة ومغفرة. وقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة، ثم راح فكأنّما قرّب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنّما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنّما قرّب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنّما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر). وقد أفاد الحافظ ابن حجر أن مما في الحديث: "مساواة المبادرة إلى الجمعة للمتقرب بالمال، فكأنّه جمع بين عبادتين: بدنيّة وماليّة. وهذه خصوصية للجمعة لم تثبت لغيرها من الصلوات"[الفتح 3/19].
5. استحباب تحيّن ساعة الجمعة:
فإنها ساعة إجابة ورحمة وعطاء، كما روى الشيخان عن أبي هريرة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ وهو قائم يصلي يسأل الله - تعالى - شيئاً إلاّ أعطاه الله إياه) وأشار بيده يقلّلها يزهّدها. وفي رواية عند مسلم: (وهي ساعة خفيفة). قال الزين بن المنيّر: "الإشارة لتقليلها هو للترغيب فيها، والحضّ عليهاº ليسارة وقتها وغزارة فضلها"[عن الفتح 3/82].
وقد اختَلَف أهل العلم في تعيين هذه الساعة، حتى ذكر الحافظ ابن حجر أكثر من أربعين قولاً في ذلك.
ومن أقوى المذاهب ههنا قولان:
أحدهما: أنّ هذه الساعة من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة.
والثاني: أنّها من بعد العصر إلى غروب الشمس.
فقد روى مسلم حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر: أَسَمِعتَ أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة). وهذا اختيار كثير من أهل العلم كما روى البيهقي عن مسلم قوله: "حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحّه"، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة. وقال القرطبي: "هو نصّ في موضع الخلاف، فلا يُلتَفت إلى غيره". وقال النووي: "هو الصحيح، بل الصواب"، ورجّحه أيضاً بكونه مرفوعاً صريحاً وفي أحد الصحيحين. وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال:"أكثر الأحاديث على ذلك"، وقال ابن عبد البرّ: "إنه أثبت شيء في هذا الباب".
ومن أحسن المذاهب الجمع بين هذين القولين كما قال ابن حجر: "وسلك صاحب الهَديِ [يريد ابن القيم رحمه الله] مسلكاً آخر، فاختار أنّ ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأنّ أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون - صلى الله عليه وسلم - دلّ على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر. وهذا كقول ابن عبد البرّ: "الذي ينبغي الاجتهادُ في الدعاء في الوقتين المذكورين. وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد. وهو أولى في طريق الجمع"[الفتح 3/90].
6. الحرص على أداء تحية المسجد:
ولو جاء الرجل أثناء الخطبة صلّى ركعتين يتجوّز فيهما. فقد جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -قال: دخل رجل يوم الجمعة والنبي يخطب فقال: (أصَلَّيتَ؟) قال: لا. قال: (فصَلِّ ركعتين). وفي رواية عند مسلم: (يا سُلَيكُ! قم فاركع ركعتين وتَجَوَّز فيهما) ولذلك ترجم الإمام البخاري (باب: من جاء والإمام يخطب صلّى ركعتين خفيفتين). وما أحسنَ أن يُذَكِّر الإمام الناس بذلك إحياءً لهذه السنة النبوية.
7. من السنّة أن يستقبل الإمام الناس، وأن يعلّمهم من الأحكام:
وأن يعظهم ويذكّرهم الآخرة، ويعتني بحال المسلمين كما كان شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -ـ كما في البخاري ـ: (أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله)، وعن أنس قال: (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكُراع وهَلك الشاءُ، فادع الله أن يسقينا، فمدّ يديه ودعا) رواه البخاري. ومن حديث جابر - رضي الله عنه - في مسلم – قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنّه مُنذِرُ جيشٍ,، يقول صبَّحكم ومسَّاكم. ويقول: بُعثت أنا والساعة كهاتين. ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى...)، ومن حديث صفوان بن يعلى عن أبيه أنه (سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على المنبر (ونادوا يا مالك). وعن أختٍ, لعمرة بنت عبد الرحمن وأم هشام بنت حارثة بن النعمان أنهما ما أخذتا (ق والقرآن المجيد) إلاّ عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقرؤها كلَّ جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن أبي رفاعة لمّا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة، قال: (فأقبل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إليّ. فأُتِيَ بكرسيّ حسبتُ قوائمه حديداً قال: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يعلمني ممّا علمه الله. ثم أتى خطبته فأتمّ آخرها). جميع ذلك في صحيح مسلم.
كما ذكر العلماء محاذير لئلاّ يقع فيها الناس:
1. النهي عن الغياب عن الجمعة والتكاسل في شأنها:
فقد روى مسلم عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: (لينتهينّ أقوام عن وَدعِهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم أو ليكوننّ من الغافلين).
2. النهي عن الاشتغال بالبيع والشراء في وقت النداء:
لقول الله - تعالى -: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع). وقد خص البيع من جميع الأفعال – كما قال الرازي والقرطبي –"لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش، وفيه إشارة إلى ترك التجارة، ولأن البيع والشراء في الأسواق غالباً، والغفلة على أهل السوق أغلب. فقوله (وذروا البيع) تنبيه للغافلين". [التفسير الكبير 30/9 والجامع لأحكام القرآن 18/107]. وقال سيّد قطب رحمه الله: "لا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض ليخلو إلى ربّه ويتجرّد لذكره، ويتذوّق هذا الطعم الخاص للتجرّد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ قلبه وصدره من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه"[الظلال 8/3569-3570].
3. ترك اللغو في أثناء الخطبة:
فقد روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة أَنصِت – والإمام يخطب – فقد لغوت)، وفي مسلم: (ومَن مسّ الحصى فقد لغا).
4. النهي عن التفريق بين الناس، وأن يقيم الرجل ويجلس مكانه:
فقد ترجم البخاري في الصحيح (باب: لا يُفَرَّق بين اثنين يوم الجمعة) و (باب: لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه). أورد فيهما حديث سلمان - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من اغتسل يوم الجمعة وتطهّر بما استطاع من طُهر، ثم ادّهن أو مسّ من طيب، ثم راح فلم يفرّق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه).
خاتمة:
وبعد، فهذا يوم من أيام الله المباركة، وعيدٌ أي عيدٍ,، السعيد من عَبَد الله فيه، وفاز برضوانه، ونال ما يطلبه من المسألة. نسأل الله أن نكون من السعداء المبشرين بالخيرات، وأرفع الدرجات. كما رَوَى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلّى ما قدِّر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلّي معه غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيّام) [رواه مسلم].
ورحم الله الحافظ ابن كثير حيث قال: "إنما سُمّيت الجمعةُ جمعةَ لأنّها مشتقّة من الجمع فإنّ أهل الإسلام يجتمعون فيه في كلّ أسبوع مرةَ بالمعابد الكبار، وفيه كَمُلَ جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، وفيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مؤمنٌ يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه. كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح" [تفسير القرآن العظيم 4/468].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد