العفافُ خلقٌ عظيمٌ، ومسلكٌ كريمٌ، وطبعٌ مستقيمٌ، ونهجٌ قويمٌ، هو زينةُ الآدابِ، وحليةُ أولي الألبابِ، وثمرٌ مُستطابٌ.
ونحنُ في هذا المقال أمام صفحة وضَّاءةٍ, مُشرِقَةٍ, في سجل الصالحات، لنشهد مواقف خالدةً من مواقف الطٌّهر والعفاف، والصبرِ والثبات.
حينما ترزق المرأة بجمالٍ, رائعٍ, وحسنٍ, بارعٍ, ثم يتعرض لها أحدُ المُجَّان، من أصحاب النفوذ والسلطان، فتثبت وتستعيذ بالرحمن، من ذلك الفتَّان.
ذلك ما وقع على مرِّ الزمان لنساء كثيرات عفائف طاهرات ومنهن سارة زوج نبي الله إبراهيم وأم نبي الله إسحاق - عليهم السلام -: حين تعرَّض لها ذلك الفاجرُ الغادرُ بإيعاز من ندماء السوء لعنهم الله:
عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: \" لَم يَكذِب إِبرَاهِيمُ النّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - قَطّ إِلاّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ,، ثِنتَينِ فِي ذَاتِ اللّهِ، قوله: (إِنّي سَقِيمٌ)، وَقوله: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا)، وَوَاحِدَةً فِي شَأنِ سَارَةَ، فَإِنّهُ قَدِمَ أَرضَ جَبَّارٍ, وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَت أَحسَنَ النّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنّ هَذَا الجَبّارَ، إِن يَعلَم أَنَّكِ امرَأَتِي، يَغلِبنِي عَلَيكِ، فَإِن سَأَلَكِ فَأَخبِرِيهِ أَنَّكِ أُختِي، فَإِنّكِ أُختِي فِي الإِسلاَمِ، فَإِنّي لاَ أَعلَمُ فِي الأَرضِ مُسلِماً غَيرِي وَغَيرَكِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرضَهُ رَآهَا بَعضُ أَهلِ الجَبَّارِ، فأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَد قَدِمَ أَرضَكَ امرَأَةٌ لاَ يَنبَغِي لَهَا أَن تَكُونَ إِلاّ لَكَ، فَأَرسَلَ إِلَيهَا فَأُتِيَ بِهَا، فَقَامَ إِبرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - إِلَىَ الصّلاَةِ، فَلَمّا دَخَلَت عَلَيهِ لَم يَتَمَالَك أَن بَسَطَ يَدَهُ إِلَيهَا، فَقُبِضَت يَدُهُ قَبضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادعِي اللّهَ أَن يُطلِقَ يَدِي وَلاَ أَضُرّكِ، فَفَعَلَت، فَعَادَ، فَقُبِضَت أَشَدّ مِنَ القَبضَةِ الأُولَىَ، فَقَالَ لَهَا مِثلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَت، فَعَادَ، فَقُبِضَت أَشَدَّ مِنَ القَبضَتَينِ الأُولَيَينِ، فَقَالَ: ادعِي اللّهَ أَن يُطلِقَ يَدِي، فَلَكِ اللّهُ أَن لاَ أَضُرَّكِ، فَفَعَلَت، وَأُطلِقَت يَدُهُ، وَدَعَا الّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنّكَ إِنّمَا أَتَيتَنِي بِشَيطَانٍ,، وَلَم تَأتِنِي بِإِنسَانٍ,، فَأَخرِجهَا مِن أَرضِي، وَأَعطِهَا هَاجَرَ، قَالَ: فَأَقبَلَت تَمشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - انصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهيَم؟ قَالَت: خَيراً، كَفَّ اللّهُ يَدَ الفَاجِرِ، وَأَخدَمَ خَادِماً...\" الحديث [1].
وخرجت سارةُ - رضي الله عنها - من هذه المحنة العصيبة مرفوعةَ الجبين، مصونةًَ مكرَّمة، سالمةً غانمة.
· قَالَت: يَا عَبدَ اللّهِ اتّقِ اللّهَ!
ومن مواقف الطهر والعفاف وما أكثرها: موقف إحدى العفائف من ابن عمها الذي كان مُعجبا بحسنها مفتونا بجمالها، فراودها عن نفسها فأبت حتى ألجأتها الحاجةُ إلى أن تستسلم له فلما خلا بها وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ذكَّرته بالله - تعالى -فانتفض كما ينتفض العصفور وقام عنها دون أن يمسَّها بسوء، وأعطاها ما تحتاجه من مالº خوفا من الكبير المتعال، ومرت الأيام وخرج هذا الرجل مع رفيقين له فآواهما المبيت إلى غار ووقعت صخرة على بابه فسدته ولم يتمكنوا من زحزحتها فدعا كلٌّ واحدٍ, متوسلا بصالح عمله ونجاهم الله - عز وجل -:
فعَن عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَر َرضي الله عنه عَن رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنّهُ قَالَ: \"بَينَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ, يَتَمَشّونَ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَأَوَوا إِلَى غَارٍ, فِي جَبَلٍ,، فَانحَطَّت عَلَىَ فَمِ غَارِهِم صَخرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَانطَبَقَت عَلَيهِم، فَقَالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ,: انظُرُوا أَعمَالاً عَمِلتُمُوهَا صَالِحَةً لله، فَادعُوا اللّهَ - تعالى -بِهَا، لَعَلّ اللّهَ أَن يُفَرِّجَ عَنكُم، فَقَالَ أَحَدُهُم: اللّهُمّ إِنّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ، وَامرَأَتِي، وَلِي صِبيَةٌ صِغَارٌ أَرعَىَ عَلَيهِم، فَإِذَا أَرَحتُ عَلَيهِم، حَلَبتُ، فَبَدَأتُ بِوَالِدَيَّ فَسَقَيتُهُمَا قَبلَ بَنِيّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَومٍ, الشّجَرُ فَلَم آتِ حَتّىَ أَمسَيتُ فَوَجَدتُهُمَا قَد نَامَا، فَحَلَبتُ كَمَا كُنتُ أَحلُبُ، فَجِئتُ بِالحِلاَبِ فَقُمتُ عِندَ رُؤُوسِهِمَا، أَكرَهُ أَن أُوقِظَهُمَا مِن نَومِهِمَا، وَأَكرَهُ أَن أَسقِيَ الصِّبيَةَ قَبلَهُمَا، وَالصِّبيَةُ يَتَضَاغَونَ عِندَ قَدَمَيّ، فَلَم يَزَل ذَلِكَ دَأبِي وَدَأبَهُم حَتّىَ طَلَعَ الفَجرُ، فَإِن كُنتَ تَعلَمُ أَنّي فَعَلتُ ذَلِكَ ابتِغَاءَ وَجهِكَ، فَافرُج لَنَا مِنهَا فُرجَةً، نَرَىَ مِنهَا السّمَاءَ، فَفَرَجَ اللّهُ مِنهَا فُرجَةً، فَرَأَوا مِنهَا السّمَاءَ، وَقَالَ الآخرُ: اللّهُمَّ إِنّهُ كَانَت لِي ابنَةُ عَمٍّ, أَحبَبتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبٌّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبتُ إِلَيهَا نَفسَهَا، فَأَبَت حَتّىَ آتِيهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ,، فَتَعِبتُ حَتّىَ جَمَعتُ مِائَةَ دِينَارٍ,، فَجِئتُهَا بِهَا، فَلَمّا وَقَعتُ بَينَ رِجلَيهَا قَالَت: يَا عَبدَ اللّهِ اتّقِ اللّهَ، وَلاَ تَفتَحِ الخَاتَمَ إِلاّ بِحَقّهِ، فَقُمتُ عَنهَا، فَإِن كُنتَ تَعلَمُ أَنّي فَعَلتُ ذَلِكَ ابتِغَاءَ وَجهِكَ، فَافرُج لَنَا مِنهَا فُرجَةً، فَفَرَجَ لَهُم... \" الخ الحديث [2].
فانظر كيف سجّلت لنا كتب السنة النبوية الكثير والكثير من قصص العفيفات الطاهرات واحتفت بِهِنَّ وأشادت بمآثرهن ومفاخرهنّ، وخلدت على مر الزمان ذكرهن.
------------------
1- رواه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله - تعالى -(وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلاً) (سورة النساء 125) 2/371 حديث 3358 ومسلم في صحيحه واللفظ له كتاب الفضائل باب من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - 4/1840 حديث 154 - (2371).
2- رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - كتاب البيوع باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي 2/42 حديث 2215 وفي كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الغار 2/407 حديث 3465، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الرقاق - باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال. واللفظ له 4/2099 حديث 100 - (2743) وقوله: (يتضاغون) أي يصيحون ويستغيثون من الجوع. (لا تفتح الخاتم إلا بحقه) الخاتم كناية عن بكارتها. وقولها بحقه، أي بنكاح، لا بزنى.
*أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك
بجامعة الأزهر - وكلية التربية عنيزة
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد