الكرم: خلقٌ كريمٌ ومسلكٌ مستقيمٌ، والجود والإيثار من صفات أصحاب الهمم العالية، والأنفسِ الزاكية وما أجمل أن تتزين المرأة بهذه الأخلاق الطيبة وتتحلى بها، سيما مع ما قد يعتريها من ضيق الحياة وشظف العيش وقد قيل:
إِن الكريمَ ليُخفي عنكَ عُسرَتَهُ *** حتى تَراهُ غنيًّا وهو مَجهودُ.
هذا ما سوف نلمسه في هذا الموقف المشهود لتلك الصحابية التي قدَّمَت مع زوجها أروع الأمثلة في الجود والإيثار:
ففي الصحيحين عَن أَبِي هُرَيرَة َرضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنّي مَجهُودٌ، فَأَرسَلَ إِلَىَ بَعضِ نِسَائِهِ، فَقَالَت: وَالّذِي بَعَثَكَ بِالحَقّ مَا عِندِي إلاّ مَاءٌ، ثُمّ أَرسَلَ إلَىَ أُخرَىَ، فَقَالَت مِثلَ ذَلِكَ، حَتّىَ قُلنَ كُلٌّهُنّ مِثلَ ذَلِكَ: لاَ، وَالّذِي بَعَثَكَ بِالحَقّ مَا عِندِي إِلاّ مَاءٌ، فَقَالَ: \"مَن يُضِيفُ هَذَا اللّيلَةَ، - رحمه الله -\" فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَانطَلَقَ بِهِ إلَىَ رَحلِهِ، فَقَالَ لاِمرَأَتِهِ: هَل عِندَكِ شَيءٌ؟ قَالَت: لاَ إلاّ قُوتَ صِبيَانِي، قَالَ: فَعلِّلِيهِم بِشَيءٍ,، فَإِذَا دَخَلَ ضَيفُنَا فَأَطفِئِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأكُلُ، فَإِذَا أَهوَىَ لِيَأكُلَ فَقُومِي إلَىَ السِّرَاجِ حَتَّّىَ تُطفِئِيهِ، قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضّيفُ، فَلَمّا أَصبَحَ غَدَا عَلَى النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: \" قَد عَجِبَ اللّهُ مِن صَنِيعِكُمَا بِضَيفِكُمَا اللّيلَةَ \". (1)
وصدق الله - عز وجل - إذ يقول {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} (سورة الحشر 9)
وإن تعجب من موقف هذه المرأة التقيةِ السخية، فإن مما يثير الدهشة والإعجاب: بيتَ النبوة، بيتَ العز والكرم، بيتَ الهدى والنور، منزل الوحي ومهبط البركات، وموئل النفحات، هذا البيت العامر بالذكر، الحافل بالعلم، يعيش أهلُه في شظفٍ, من العيشِ، عيشةً راضيةً وحياةً هانيةً! وتمر الليالي على هذا البيت الكريم وما فيه إلا الماء! وحوله بيوت الصحابة بيوتٌ طيبةٌ مباركةٌ، عامرةٌ بالتلاوة والأذكار، والتهجد بالأسحار، قائمةٌ على الحب والإيثار، وإن خلت من ألوان الرفاهية ووسائل الترف.
وكم من بيوتٍ, متخمةٍ, بما لذَّ وطاب من الطعام والشراب، ومع ذلك فإنها تفتقد السعادة والقناعة، وتعيش بلا معنى وبلا هدف، حياةً بائسةً مقفرةً.
وتاريخنا الإسلامي حافل بمواقف البذل والإيثار النابعة من قلوبٍ, مؤمنةٍ, رحيمةٍ, ونفوسٍ, طيبةٍ, كريمةٍ,، وأيادٍ, سخيةٍ, ألفت البذل والعطاء:
ويطيب لنا في هذا المقال أن نقلبَ صفحاتِ تاريخنا المشرقِ وتراثنا الذاخرº لنقدم لقرائنا الكرام طاقةً من تلكِ المواقف العطرة.
1. خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيهº إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائطَ كلبٌ ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتُك كلَّ يوم؟ قال ما رأيتَ! قال فلم آثرتَ به هذا الكلب؟ قال ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت أن أشبعَ وهو جائع! قال فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر أُلامُ على السخاء! إن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى الحائطَ والغلامَ وما فيه من الآلات، فأعتق الغلام ووهبه منه.
2. وقال عمر - رضي الله عنه -: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس شاة فقال: إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول.
3. وعن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفساً - وكانوا في قرية بقرب الري - ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعَهم \" فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع، فإذا الطعام بحاله، ولم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه.
4. وروي أن شعبة جاءه سائل وليس عنده شيء، فنزع خشبةً من سقفِ بيتِهِ فأعطاه ثم اعتذر إليه.
5. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول: آه.. فأشار ابن عمي إلى أن أنطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه... فأشار هشام انطق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين.
6. وقال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحرثº فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوباً فمات فيه.
7. وإذا كان الإيثار بالمال من أعظم المآثر فإن الجود بالنفس أسمى غايةَ الجود، ومن الشواهدِ على ذلك: ما حكاه أبو محمد الأزدي قال: لما احترق المسجد بمرو، ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه، فأحرقوا خاناتهم، فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخانات، وكتب رقاعاً فيها القطع والجلد والقتل ونثرها عليهم، فمن وقع عليه رقعة فعل به ما فيها، فوقعت رقعةٌ فيها القتل بيد رجل، فقال: والله ما كنت أبالي لولا أم لي! وكان بجنبه بعض الفتيان، فقال له: في رقعتي الجلد وليس لي أم، فخذ أنت رقعتي وأعطني رقعتك. ففعل، فقتل ذلك الفتى وتخلص هذا الرجل!
8. وكان مورق العجلي يتلطف في إدخال السرور والرفق على إخوانه، فيضع عند أحدهم البدرَة، [صرة المال - كيس النقود] ويقول له: امسكها حتى أعود إليك، ثم يرسل يقول له: أنت منها في حل.
9. ولما دخل المنكدر على عاثشة - رضي الله عنها - قال لها: يا أم المؤمنين أصابتني فاقة فقالت ما عندي شيء، فلو كان عندي عشرة آلاف درهم لبعثت بها إليك، فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم من عند خالد بن أسيد فأرسلت بها إليه في أثره، فأخذها ودخل بها السوق، فاشترى جارية بألف درهم، فولدت له ثلاثة أولاد، فكانوا عباد المدينة، وهم: محمد وأبو بكر، وعمر بنو المنكدر.
10. وقصد رجل إلى صديق له فدق عليه الباب، فخرج إليه وسأله عن حاجته، فقال: علي دين كذا وكذا، فدخل الدار وأخرج إليه ما كان عليه، ثم دخل الدار باكياً، فقالت له زوجته: هلا تعللت حيث شقت عليك الإجابة، فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلي أن يسألَني.
11. وكان عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - من أجود الناس، عطش يوماً في طريقه، فاستسقى من منزل امرأة، فأخرجت له كوزاً، وقامت خلف الباب وقالت تنحوا عن الباب، وليأخذه بعض غلمانكم، فإنني امرأة عزبٌ مات زوجي، فشرب عبد الله الماء وقال: يا غلام احمل إليها عشرة آلاف درهم، فقالت: سبحان الله أتسخر بي! فقال: يا غلام احمل إليها عشرين ألفاً، فقالت: أسأل الله العافية، فقال: يا غلام احمل إليها ثلاثين، فما أمست، حتى كثر خطابها.
12. وكان عبد الله بن أبي بكر رضي الله - تعالى -عنه ينفق على أربعين داراً من جيرانه عن يمينه، وأربعين عن يساره، وأربعين أمامه، وأربعين خلفه، ويبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد، ويعتق في كل عيد مائة مملوك رضي الله - تعالى -عنه.
13. ولما مرض قيس بن سعد بن عبادة استبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله ما يمنع عني الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي من كان لقيس عنده مال، فهو منه في حل، فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العواد.
14. ومن لم يجد ما يواسي به إخوانه فلا أقل من أن يستشعر ما هم فيه ويتعيش مع همومهم ويواسيهم ولو بحاله ووجدانه، قال بعض الرواة: دخلت على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب، فقلت: يا أبا نصر الناس يزيدون الثياب في مثل هذا اليوم وأنت تنقص؟ فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه ولم يكن لي ما أواسيهم، فأردت أن أوافقهم بنفسي في مقاساة البرد!
15. وترى أهل السخاء يجودون بالكثير، وإن عاشوا حياةً بسيطةً خاليةً من التكلفº قال الأصمعي: كانت حرب بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها حتى مشى بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في المسجد الجامع قال: فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع بن حازم، فاستأذن لي، فإذا هو في شملة يخبط نوى لعنز له حلوب، فأخبرته بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل القصعة وقال: يا جارية غدينا. فأتته بزيت وتمر. قال: فدعاني، فعذرته أن آكل معه حتى إذا قضى من أكله وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يديه، ثم صاح بالجارية فقال: اسقيني ماء، فأتت بماء فشربه ومسح بفاضله على وجهه وقال: الحمد لله! ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام متى تؤدي شكر هذه النعم؟
ثم قال: علي بردائي، فأتته برداء عدني فارتدى به على تلك الشملة، قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه، فدخل المسجد وصلى ركعتين ومشى إلى القوم، فلم تبق حبوةٌ إلا حلَّت إعظاماً له، فتحمل ما كان بين الأحياء من الديات في ماله وانصرف! (2)
16. ونختم حديثنا بموقف من مواقف الإيثار حكاه لنا أحد الصالحين حيث قال: كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع عال وقعدنا. فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه مقدار عشرين كلباً، فجاء إلى تكل الميتة وقعد ناحية ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكلها وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة وبقي العظم ورجعت الكلاب إلى البلد، فقام ذلك الكلب وجاء إلى تلك العظام فأكل مما بقي عليها قليلاً ثم انصرف.
------------------
1- رواه البخاري في صحيحه ك التفسير باب {وَيُؤثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌٌ} (الحشر الاَية: 9). 3/299 حديث 4889 ورواه مسلم في صحيحه واللفظ له كتاب الأشربة باب إكرام الضيف وفضل إيثاره 3/1624 حديث (2054)
قال الإمام النووي في تعليقه هذا الحديث في كتابه القيم الأذكَارُ النَّوَويَّة \" وهذا محمولٌ على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين إلى الطعام حاجة ضرورية، لأن العادةَ أن الصبيّ وإن كان شبعاناً يطلبُ الطعامَ إذا رأى مَن يأكلُه، ويُحمل فعلُ الرجل والمرأة على أنهما آثرا بنصيبهما ضيفهما، واللّه أعلم \". الأذكَارُ النَّوَويَّة للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي ص 384 - كتاب أذكار الأكل والشّرب - 209ـ بابُ الثناءِ على مَن أكرمَ ضيفَه - الحديث رقم: 1
2- الاحتبَاء: هو أن يَضٌّمّ الإنسان رجلَيه إلى بَطنه بثَوب يَجمَعَهُما به مع ظَهره، ويَشُدٌّه عليها. وقد يكون الاحتباء باليَدَين عوَض الثَّوب، وإنَّما نَهَى عنه لأنه إذا لم يكن عليه إلاَّ ثوب واحِد رُبَّما تَحرّك أو زال الثَّوبُ فَتَبدُو عَورَتُه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد