روى البخاري في الأدب المفرد أن رجلاً توفي وترك ابناً له ومولى فأوصى مولاه بابنه فلم يألهُ (لم يقصر) حتى أدرك وزوجه فقال له الولد جهزني أطلب العلم فجهزه فأتى عالماً فسأله فقال له إذا أردت أن تنطلق فقل لي أعلمك.
فقال: حضر مني الخروج فعلمني فقال له: \" اتق الله واصطبر ولا تستعجل \" قال الحسن (راوي الحديث) في هذا الخير كله.
فلما جاء الرجل أهله نزل عن راحلته فلما نزل الدار إذا هو برجل نائم متراخ عن المرأة وإذ امرأته نائمة فرجع إلى راحلته فلما أراد أن يأخذ السيف ليضرب عنق هذا الذي هو نائم قرب زوجته تذكر قول العالم \" اتق الله واصطبر ولا تستعجل\" فرجع، فلما قام على رأسه قال ما انتظر بهذا شيئاً فرجع إلى راحلته فلما أراد أن يأخذ سيفه تذكر قول العالم (اتق الله واصطبر ولا تستعجل\"، فرجع إليه فلما قام على رأسه استيقظ الرجل فوثب إليه فعانقه وقبله (فإذا به ابنه الذي تركه عندما خرج لطلب العلم) فقال له:
ما أصبت بعدي قال:
أصبت بعدك والله خيراً كثيراً، أصبت والله بعدك أني مشيت الليلة بين السيف وبين رأسك ثلاث مرات فحجزني ما أصبت من العلم عن قتلك (البخاري في الأدب المفرد).
اتق الله، واصطبر، ولا تستعجل ثلاث مفاصل أساسية في مختلف علاقتك..
وهي تمثل ثلاثية رائعة متكاملة..
تمثل ثلاثية النجاة من المهالك وتمثل ثلاثية النجاة من المزالق فالعجلة وعدم الصبر وقلة التقوى طريق الهاوية وعين الهلاك.
ومن حاز التقوى وتجمل بالصبر وتحلى بعدم الاستعجال تجنب الزلات وابتعد عن المهلكات وحاز الحب والاحترام
فإذا اتقيت الله في أهلك وإخوانك..وصبرت عليهم.. ولم تستعجل.. حزتهم كلهم.. بالحب والاحترام ونجوت بعلاقاتهم إلى شاطئ السلامة وبر الأمان.
إن كثيراً من الذين يشكلون علاقات مع إخوانهم ومع أقاربهم وأهليهم لا يأبهون لهذه الثلاثية الرائعة ثلاثية النجاة
فتراه لا يتقي الله فيهم ويستعجل في الحكم عليهم ولا يصطبر ليعرف الأمر على حقيقته فإذا به قد انزلق في مهاوي الشقاق و الاختلاف وأوقع الجميع في دائرة الحرج والنفور.
إن كثيراًً من الناس تأتيه مقولة نقلت له عن شخص محدد فإذا به لا يحمل التقوى في قلبه وينسى قوله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ, فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهَالَةٍ, فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَادِمِينَ}الحجرات6
ولا يصبر حتى يعرف الحقيقة ويستعجل في الحكم على صاحبها وإذا به قد دخل في دائرة القطيعة والشقاق بعجلته هذه ولو صبر لتبينت الحقيقة و لعالج الأمر بروية.
ولو رجع الإنسان إلى أسباب الشقاق والخلاف والقطيعة والهجران بين الأصدقاء وبين الأقارب لوجد أن سببها لا يعدوا أن يكون أحد الأسباب الثلاثة السابقة.
أما العجلة فمصيبة المصائب لأنها ارتكاس لحدث والارتكاس غير مضمون العواقب.
لقد أفرد الإمام الترمذي بابا سماه باب ما جاء في التأني والعجلة.
فالتأني من الصفات التي يحبها الله - سبحانه وتعالى - فقد روى الترمذي عَن ابنِ عَبَّاسٍ, - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِأَشَجِّ عَبدِ القَيسِ: \" إِنَّ فِيكَ خَصلَتَينِ يُحِبٌّهُمَا اللَّهُ الحِلمُ وَالأَنَاةُ \" (قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). والأناة هي التثبت وعدم العجلة، والعجلة من الشبطان قد روى الترمذي عن سَهلِ بنِ سَعدٍ, السَّاعِدِيٌّ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
\" الأَنَاةُ مِن اللَّهِ وَالعَجَلَةُ مِن الشَّيطَانِ \" (قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَد تَكَلَّمَ بَعضُ أَهلِ الحَدِيثِ فِي أحد رواة الحديث وهو عَبد المُهَيمِنِ بن عَبَّاسِ بن سَهلٍ, وَضَعَّفَهُ مِن قِبَلِ حِفظِهِ)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه َقَالَ لأبي السائب: أَتَرَى هَذَا البَيتَ كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهدٍ, بِعُرسٍ, قَالَ فَخَرَجنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الخَندَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الفَتَى يَستَأذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنصَافِ النَّهَارِ فَيَرجِعُ إِلَى أَهلِهِ فَاستَأذَنَهُ يَومًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: \"خُذ عَلَيكَ سِلَاحَكَ فَإِنِّي أَخشَى عَلَيكَ قُرَيظَةَ\" فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امرَأَتُهُ بَينَ البَابَينِ قَائِمَةً فَأَهوَى إِلَيهَا الرٌّمحَ لِيَطعنَهَا بِهِ وَأَصَابَتهُ غَيرَةٌ فَقَالَت لَهُ اكفُف عَلَيكَ رُمحَكَ وَادخُل البَيتَ حَتَّى تَنظُرَ مَا الَّذِي أَخرَجَنِي فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ, عَظِيمَةٍ, مُنطَوِيَةٍ, عَلَى الفِرَاشِ فَأَهوَى إِلَيهَا بِالرٌّمحِ فَانتَظَمَهَا بِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضطَرَبَت عَلَيهِ فَمَا يُدرَى أَيٌّهُمَا كَانَ أَسرَعَ مَوتًا الحَيَّةُ أَم الفَتَى. \" مسلم /4150/ ولو تعجل هذا الرجل على زوجته لقتلها ولظلمها باستعجاله.
فالعجلة داء إذا سرى في الإنسان أفسد وأهلك وكم وقع كثير من الناس ضحية استعجالهم وفريسة تهورهم
وأما الصبر فقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ضياءً، والضياءُ هو النور القوي الذي ينير الدرب لصاحبه
عَن أَبِي مَالِكٍ, الأَشعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: \" وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرهَانٌ وَالصَّبرُ ضِيَاءٌ \" مسلم /328/
قال النووي - رحمه الله تعالى -:
\" أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (والصبر ضياء)،.... والمراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب \"
فمن يتحلَّ بالصبر يرَ الأمور على حقيقتها ويحكم عليها بصبر وروية فيرى أبعادها ويحيط بجوانبها ويتسلل إلى خفاياها مما يجعله أقدر على محاكمة الأمور محاكمة صحيحة وسليمة وأما التقوى فهي طوق النجاة من المآزق من ارتداه نجا ومن خلعه هلك {..... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجاً}الطلاق2
هذه هي ثلاثية النجاة ما أحوجنا إليها في علاقاتنا كلها مع زوجاتنا و إخواننا مع أولادنا و أصدقائنا في عملنا وتجارتنا حتى نصل بهذه العلاقات إلى شاطئ السلامة و بر الأمان ونبني بها علاقات أساسها الصبر والتقوى وننجو بها من مزالق العلاقات وشحناء اللقاءات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد