بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
طرفان ووسط:
هناك من يماري، وهناك من يترك النقاش واستبيان الحق بالكلية، وهذان طرفان، أحدهما على إفراط والآخر على تفريط، وأهل السنة وسط بين الفريقين.
أهلُ البدع العملية كالتبرك بالأضرحة والطواف بها والنذر لها والذبح عندها، والاستغاثة بالأموات هم طرفُ التفريط الذي لا يُناقِش، ويستدلون ببعض الجُمَل من السنة النبوية المطهرة يضعونها في غير محلها مثل (استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك)1 و نهينا عن الجدل.
وهي كلمة حق أريد بها باطل، فالاستفتاء لا يكون في الأحكام وإنما في المناط الذي تتنزل عليه الأحكام. ولو كان الاستفتاء في الأحكام لصار الدين بالهوى، كل يحل ويحرم كما يحلو له2.
ونُهينا عن المراء وأمرنا بجدالٍ, مشروط، وهو جدال بالتي هي أحسن. وفي الحديث (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيتٍ, فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ المِرَاءَ وَإِن كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيتٍ, فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الكَذِبَ وَإِن كَانَ مَازِحًا وَبِبَيتٍ, فِي أَعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسَّنَ خُلُقَهُ)3 وفي التنزيل (وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ}[النحل: من الآية 125]، وفي التنزيل {وَلَا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ}[العنكبوت: من الآية 46]
هناك من يماري، وهناك من يترك النقاش واستبيان الحق بالكلية، وهذان طرفان، أحدهما على إفراط والآخر على تفريط، وأهل السنة وسط بين الفريقين.
والجدل والمراء حين يتجاوران في السياق، يختص أحدهما ـ وهو المراء ـ بشدة الخصومة (تجادل صاحبك حتى تغضبه)4، والثاني ـ وهو الجدال ـ بــمقابلة الحجة بالحجة أو المناظرة وهو محمود5 لقول الله - تعالى -{ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ}[النحل: 125].
وقول الله - تعالى -: ({وَلَا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيكُم وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُم وَاحِدٌ وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
فالمِراء المنهي عنه حاله متطورة من الجدال يخرج فيها الطرفين أو أحدهما عن أدب الحوار6.
وأهل المراء هم طرف الإفراط في المعادلة.
مسألة: أين وممن ولم يكون المراء؟
هذه ثلاثة أسئلة نفتش بها عن مكان المِرَاء، و لماذا يماري نفر في الحق وهو واضح أبلج، ومن هؤلاء الذي يمارون في الحق؟
واسمع: القرآن الكريم من حيث الإحكام وعدمه ثلاثة أنواع:
الأول: محكم حقيقي وهو بَين الدِلالة الذي لا يحتاج لغيره لبيانه، وهو الأعم الأغلب في كتاب الله...هو أمّ الكتاب كما قال مُنزل الكتاب - سبحانه وتعالى و عز وجل - ({هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مٌّحكَمَاتٌ هُنَّ أُمٌّ الكِتَابِ [آل عمران: 7].هي (الحلال والحرام، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والأمر والزجر، والخبر والمثل، والعظة والعبر، وما أشبه ذلك... فهي عماد الدين والفرائض... وسماهم أم الكتاب لأنهن مُعظم الكتاب ومفزع أهله عند الحاجة إليه)7.
الثاني: محكم إضافي ويقال له أيضا المتشابه الإضافي وهو الذي يحتاج لغيره لبيانه بحيث إذا انضم إليه هذا الغير صار محكما حقيقيا، فهو متشابه قبله ومحكم بعده، مثل العام مع مخصصه، والمطلق مع مقيدة، والمجمل مع مفصله وهكذا،،،
ومن يتمعن في شبهات النصارى حول الإسلام ونبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - يجد عمدتها البتر واعتماد الشاذ والضعيف وما لا يصح من الأحاديث وأقوال المفسرين مستغلين جهالة المتلقي.
الثالث: متشابه حقيقي وهو الذي لا سبيل للوقوف على معناه بأي حال، مثل الحروف المقطعة الموجودة في فواتح بعض الصور (الم طه يس المر الر)، ولا يتعلق بهذا النوع أحكام شرعية، وغاية ما يراد منه التسليم بأنه من عند الله.
وأهل الزيغ أهل المراء يتبعون المتشابه أو يفتعلونه كما سيأتي إن شاء الله، فتجدهم مع ما تشابه منه كما أخبر ربنا العليم الخبير {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ}[آل عمران: من الآية 7]. ولماذا يفعلون ذلك؟
{ابتِغَاء الفِتنَةِ وَابتِغَاء تَأوِيلِهِ}[آل عمران: من الآية 7]ومن أصدق من الله قيلا؟، ومن أصدق من الله حديثا؟
وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمٌّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلُّ مِن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلبَابِ قَالَت قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا رَأَيتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحذَرُوهُم 8
فائدة: أهل الباطل يفتعلون المتشابه:
تكلم أهلُ العلم على أنه لا بد من الجمع بين أطراف الأدلة، وأنه لا بد من رد المتشابه للمحكم، و(لا بد من النظر في أدلة المخالف) 9
وأهل الباطل.. أهل الزيغ.. أهل المِِراء.. الذين في قلوبهم مرض كما وصف الله، لما كان مذهبهم أنهم يعتقدون ثم يستدلون تراهم يفتعلون المتشابه، عن طريق بتر النص، أو بعدم الجمع بين أطراف الأدلة، أو إهمال الدليل المضاد، أو استخدام مقدمات عقلية أو عرفيه لفهم النصوص مستغلين في ذلك جهالة المستمع.
فهم فيما تشابه منه، وهم يبترون ويبدون قليلا ويخفون كثيرا يرجون دليلا على باطلهم.
ومن يتمعن في شبهات النصارى حول الإسلام ونبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - يجد عمدتها البتر واعتماد الشاذ والضعيف وما لا يصح من الأحاديث وأقوال المفسرين مستغلين جهالة المتلقي.
وأهل الإرجاء و (التفكير) يبترون ويستخدمون مقدمات لغوية وعرفيه يحرفون بها الكلم عن مواضعه. ويتركون الحق الأبلج المتمثل في فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام.
فمن قال بأن الإيمان قول والعملُ شرط كمال من شاء عمل ومن شاء لم يعمل وهو مؤمن، نزع نصا من سياقه العملي أو القولي وترك نصوصا كثيرة، وترك سيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - التي لم تتكلم أبدا في يوم من أيامها بأنه يكفي المرء أن يصدق ويتكلم ثم يفعل ما يشاء بل كانت جادة من يومها الأول تقول للناس في وضوح وصرامة {قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] تقول لهم: {لَّيسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمَانِيِّ أَهلِ الكِتَابِ مَن يَعمَل سُوءاً يُجزَ بِهِ وَلاَ يَجِد لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}[النساء: 123] \" إِنَّهُ مَن يَأتِ رَبَّهُ مُجرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحيى. وَمَن يَأتِهِ مُؤمِناً قَد عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى \" [طه: 74 ــ 75]
وعباد الصليب كلامهم غث رديء كذب صريح أو بتر وقص لذات النص.
وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وأولئك يجادلون بالتي هي أحسن، وعل كل داعية أن يكون محدد الأهداف، يتكلم فيما يعرف. ولا يستنزله الخصم لمهاترات وآراء شخصية وغير ذلك مما يدخله في المراء ويخرجه من الجدال بالتي هي أحسن.
---------
1-هذه الكلمة جزء من حديث أبي سالم وابصة بن معبد الأسَدِي في سنن الدرامي كتاب البيوع / 2421. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوابصة: جئت تسأل عن البر والإثم، قال: قلت نعم، قال فجمع أصابعه وضرب بها صدره وقال: استفت نفسك استفت قلبك يا وابصة ثلاثا، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. وعند أحمد في مسند الشاميين بنحوه.
وقول نبينا حق أنزله القوم في غير منزله. فلا استفتاء في الأحكام وإنما في المناط الذي تتنزل عليه الأحكام. ولو كان الاستفتاء في الأحكام لصار الدين بالهوى كل يحل ويحرم كما يحلو له. وفي شرح بن حجر لحديث بن عباس في البخاري. كتاب العلم / 119 (قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل.. الحديث.. ) كلاما نفيسا لمن أراد أن يطلع عليه.
2- وفي شرح بن حجر لحديث بن عباس في البخاري. كتاب العلم / 119 (قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل.. الحديث.. ) كلاما نفيسا على استفتاء القلوب. لمن أراد أن يطلع عليه
3- أبو داود. كتاب الآداب / 4167من حديث أبي أمامه صدي بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه -، وعند الترمذي كتاب البر والصلة / 1916 وابن ماجة في المقدمة / 50. بنحوه، وربض الجنة هو أدناها وأسفلها.
4- فتح الباري شرح كتاب الحج، باب قول الله - تعالى -(ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام).
5- لسان العرب. جـ 11 / 105.
6- أقرر هذا بعد استقراء للآيات والأحاديث التي جاء فيها ذكر الجدال والمراء، ومراجعة شروح الأحاديث وأقوال المفسرين، وكذا أقوال أهل اللغة في معنى الكلمتين.
7- الطبري تفسير الآية 7 من سورة آل عمران، بتصرف يسير جدا.
8- البخاري. كتاب تفسير القرآن / 4183، ومسلم. كتاب العلم / 4817. وغيرهما.
9- إشكال وجوابه في حديث أم حَرام بنت ملحان للدكتور / علي بن عبد الله الصيّاح. ص 23.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد