أحبّ عبدُ الله رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كأشدّ ما يكون الحب حتى شهد له بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنه يحب الله ورسوله)، وكان لحبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتشهّى له كل طرفة يراها تدخل المدينةº فربما جاء الأعرابي بعكة السمن أو العسل فيأخذها منه، ويهديها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاءه صاحبها يتقاضاه الثمن جاء به إلى رسول الله فقال: أعطِه هذا الثمن، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألم تهدِه إليّ) فيقول: بلى، يا رسول الله، ولكن ليس عندي، فما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضاحكه ويأمر لصاحبه بالثمن. إن هذه الممازحة اللطيفة تعكس الإلف النفسي والعشرة الجميلة بين رسول الله وصاحبه عبد الله، بقي أن تعرف أن عبد الله هذا كان مبتلًى بشرب الخمر، مكثراً منها، وكثيراً ما أُتي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمِلاً من السكرº فيأمر بجلده فجيء به يوماً كذلك فلما جلده وانصرف، قال أحد الصحابة: (اللهم ألعنه ما أكثر ما يُؤتى به)، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يردّ هذه المقولة: (لا تلعنوه فو الله ما علمت إنه ليحب الله ورسوله، لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم).
دعونا نقف عند معانٍ, من هذا الخلق المحمديّ لنرى العجب العاجب في روعة التعامل النبوي مع النفس البشرية.
أولاً: ألا يشدّ بصرك هذا التآلف بل التمازج بين هذا الصحابي على ما وقع فيه من خطأ مع قمة السموّ والطهر ومعلم الناس الخير، إنه إلف وحب وممازحة وموادّة مما يكشف لنا أنه لم يكن ثمّة في مجمع النبوة تشطير للمجتمع، أو عزل لفئة منه لمعرة خطأ كان، وإنما الاندماج والتمازج بينهم على تفاوت مقاماتهم في الخيرº فمنهم السابق، ومنهم المقتصد، ومنهم من ظلم نفسه، ولكن لم يكن أحد يعيش النبذ أو النبز أو الإقصاء وإنما كان التآلف والاحتواء، وبذلك تظل الأخطاء التي يقع فيها بعضهم محدودة الأثر والتداعيات لأنها محاصرة بهذا الجو التآلفي الكريم الذي لا يتيح لها التطور ولا التكاثر، وكلما عثر أحد بخطيئته آنس أيدي إخوانه تمسك بضبعيه أن يهوي من هذه العثرة أو ينقطع عنهم بسبب هذه الزلة.
ثانياً: ما أعجب الإشارة إلى المساحة الإيجابية في نفس عبد الله مع أن المقام مقام عقوبة على خطأ، وخطأ تكرر كثيراً، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفت النظر إلى ناحية إيجابية في نفسه وهو حبّه الله ورسوله، وتأمل الخصلة: إنها ليست منقبة خاصة بعبد الله، ولكنها الخصلة التي يشركه فيها كل مؤمن، فلا يصح إيمان إلا بحبّ الله ورسوله، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبرز هذه الخصلة وامتدح الرجل بها، وهو أسلوب تربوي فريد يترتب عليه توسيع مساحة الخير في النفوس، وتأكيد انتسابها إليه وارتفاعها به، وإن حصلت منها الهفوات فلا تكبّلها ولا تجترها للقاع، ولك أن تتصور نفس عبد الله هذا، وقد بلغته مقولة النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فأي نشوة ورفعة تستثيرها فيه تلك المقولة حتى لكأنما يعرج بنفسه إلى أفق أعلى يسمو به فوق هذه الخطايا والهنات؟! إن هذا لمن أقوى الأسباب للتخلص من هذه الخطايا والتأكيد لنفسه أن هذه هفوات عارضة وليست الأصل في حاله، ولا الحاكم لنا عليه فالأصل فيه حب الله ورسوله.
إن الإشادة بالجوانب الإيجابيّة عند الخاطئين وتوسيع رخصة الخير في نفوسهم هو الأسلوب النبوي الكريم، وإن كنا نغفل عنه أحياناً فنجعل الأخطاء أسواراً مانعة، بل زنازين ضيقة نحبسهم فيها فلا نعرفهم، ولا نذكرهم إلا بذاك الخطأ أو تلك الهفوة، وننسى أن ذلك -وإن لم نشعر- معونة للشيطان عليهم. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد وصف ذاك على كثرة ما أُتي به إليه سكراً بأشرف الخصال وأجملها إنه ما علمت يحب الله ورسوله.
ثالثاً: أن هذا الذنب خطأ ظاهرº بل كبيرة من الكبائر، لا مجال فيه لاحتمال الخطأ أو التأوّل، إنها الخمر التي لعن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة-، ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أقام عليه حد الخمر قد حفظ حقه أن يُستطال عليه بأكثر من العقوبة الشرعية، ورأى ذلك من معونة الشيطان، ولفت الأنظار إلى مساحة الخيرية فيه بدل أن تظل مصوّبة إلى جهة الخطأ.
نقف أمام هذا المعنى لنرى كيف نلجّ أحياناً في الخصومة مع بعض إخواننا حول أخطاء ليست بهذا الوضوح ولا الضخامةº بل كثيراً ما تكون هذه الأخطاء في نظرنا هي محل اجتهاد، ويسعها اختلاف وجهات النظر ومع ذلك نجد أنفسنا -ومن غير وعي أحياناً- نجرجر القضية حتى نجعلها خطأً شرعياً لا محل للاجتهاد فيه، ثم نبرّر لدَدَنا في الخصومة ومِراءَنا في الجدل بأنها من الدين وللدين، بينما الهدى النبوي حفظ حق من وقع في كبيرة من الكبائر وكرّرها وأكثر منها حتى قيل ما أكثر ما يُؤتى به، ومع ذلك لم يسمح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك جسراً يعبر عليه إلى الاستطالة في عرضه بشتم لم يجعله الله عقوبة له. وبقي بعد ذلك الصاحب الذي يحب الله ورسوله ويألفه ويمازحه ويهاديه.
إنها معانٍ, جميلة لو استشرفناها من هذا الهدي النبوي لاتسعت مساحة الخير، وحوصر كثير من الأخطاء، وقويت لحمة المجتمع، وعوفي من كثير من أمراض القطيعة المبررة بأنواع المبررات الخاطئة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد