القناعة والشكر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سورة سبأ:

\"لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ء فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم بدلناهم بجنتّيهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ء ذلك جزينهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ء وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرة وقدرّنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين ء فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إنّ في ذلك لآيات لكل صبار شكور ء ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ء\" (1).

 

شرح المفردات:

آية: علامة.

سيل العرم: سيل المطر الشديد.

أكل خمط: ثمر حامض أو مر.

أثل: ضرب من النبات.

سدر: نوع من النبات لا ينتفع به.

فجعلناهم أحاديث: أخبار يتلهى بها ويتعجب منها.

جنتان: بستانان.

قدرنا فيها السير: جعلناه على مراحل متقاربة.

مزقناهم: فرّقناهم في البلاد.

 

الشرح:

كلما عظمت نعمة على عبد، عظم حق المنعم عليه بالشكر، ولكن كثيراً من الناس يتلقون نعمة الله فلا يعرفونها ولا يعرفون قيمتها، بل لا يرون فيها إلا نقصاناً عن حقهم حتى ليكاد الواحد منهم يصل إلى حد جحود النعمة وإنكار وجودها وقيمتها لأنَّه قصر نظره على جوانب منها في ظاهرها سلبية وهي بحد ذاتها قيمة ايجابية..والذي يستغرق في النظر إلى سيئات الأمور يعمى في النهاية.فأولى له أن يؤدي حق النعمة بشكر المنعم..

 

ويحدثنا الباري في هذه الآيات عن قوم سبأ، وهم قوم سكنوا في غابر الأزمان في بلاد الملكة بلقيس في ناحية من نواحي اليمن.

 

وكانت المملكة هذه تتميز بالجبال العالية والأودية السحيقة ذات تربة خصبة وغنية إلا أن المياه العذبة كانت تتوفر في بعض أيام السنة فتسقي أراضيهم ومواشيهم، ثم لا تلبث أن تنحدر من بين جبلين كبيرين سالكة المنحدرات باتجاه البحر جنوباً أو تغور في رمال الصحراء شمالاً ثم يحل موسم الجفاف وتنقطع المياه..

 

حياة بسيطة تستند إلى الزراعة والرعي إلاّ أن ما كان ينغصها قلة المياه وذهابها هدراً ما بين البحر والصخور.. مما جعل الحياة فيها صعبة وأدى ذلك إلى أن يعيش أهلها في عزلة وحصار ما بين البحر والصحراء.

 

مشروع فريد:

وفي خضم هذه المعاناة يأتي قضاء الله الرحيم فتنقدح في أذهان البعض فكرة رائدة.. لماذا لا يبنون سداً يحجز المياه عن تجاوز الجبلين ويؤمن لهم المياه على مدار أيام العام.. وهكذا شرعوا ببناء السد فأقاموا من الصخور والكلس وجعلوا في جوانبه منافذ للمياه يشرعونها عند الحاجة، فحفظوا بذلك الماء وجرّوه عبر القنوات إلى الأماكن البعيدة لري المزروعات.

 

التحول الكبير:

وبعد فترة من الزمن تبدلت الأرض القاحلة إلى أرض دائمة الخضرة وارفة الظلال، وامتدت الجنائن والبساتين غنية بالأشجار الفارعة والثمار والفواكه المختلفة من كل صنف ولون وطعم وفاقت مأرب حاضرة سبأ وقراها على ما جاورها من المدن والقرى جمالاً ونعماً وهواءً عليلاً.. فغدت منية الناظرين وقبلة الساعين إلى الحياة الهانئة.. وقامت في جوانبها الحدائق الغنّاء تسري فيها ألسنة المياه الجارية والغدران السارية.. بل قيل إن كثافة الأشجار الوارفة والملتفة كانت تحجب الشمس عن السائر فيها مسيرة عشرة أيام.. وكانت المرأة تحمل المكتل)الوعاء(على رأسها وتسير بين الأشجار في موسم القطاف فيمتلىء بالفواكه بغير أن تمس يدها شيئاً: وازدادت النعمة نعماً حيث إن سكانها لم يعرفوا في تلك الفترة معنى للأمراض كالحمى وغيرها بل إن البعوض والذباب والهوام لم يجد طريقه إلى تلك البلاد رغم كونها زراعية كثيفة الزرع موفورة المياه.

 

ونتيجة هذا كله أصبحت هذه البلاد مقصداً يرتادها الناس من كل الأرجاء للنزهة والسياحة ومطمعاً يرغب القاصي قبل الداني أن يجد له فيها مكاناً للسكن ونتيجة لذلك عمرت البلاد وتقاربت القرى وانتشر العمران فأمن المسافرون وسهلت الطرق.

 

\"سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين\".

لقد حوّل الله - تعالى -قوم سبأ كل هذه النعم في فترة قصيرة وبجهد يسير وأمدهم بما لم يكونوا يتوقعون..

 

جزاء الإحسان:

ولكن ما الذي يريده الله من جزاء على كل هذه النعم.. \"كلوا من رزق ربكم، واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور\".

 

طعام.. ماء.. جمال.. وأمن.. كل ذلك ثمنه فقط عرفان حق النعمة وأداء حق المنعم.

 

وهو أن يتذكروا أولاً أن النعمة من عند الله \"من رزق ربكم\".

 

وإذا عرفوا ذلك أن يشكروه.. \"واشكروا له\".

 

وأن يقدروا النعمة ويعرفوا قيمتها فلا يبخسوها حقها ولا يجحدوا حق المنعم فذكرهم بذلك بقوله: \"بلدة طيبة.. \".

 

ولكن هل لأنهم يستحقون ذلك؟ أو بسبب كثرة طاعتهم؟

 

لا بل لأن الله تجاوز عن سيئاتهم وغض عنها بل غفرها فقال: \" بلدة طيبة ورب غفور\".

 

كيف قابل القوم هذه النعم:

 

ولكن القوم كفروا بنعمة الله.. وأصابهم الجشع والغرور وظنوا أن بهم استحقاقاً لأكثر من ذلك واغرقوا في حب الاستئثار بالخيرات حتى تمنوا لو أن بينهم وبين باقي البلاد مسافات شاسعة لكي لا يشاركهم في ما أنعم الله به عليهم أحد من الناس، \" فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا \".

 

ونسوا أن هذا الأمر جعل السبل إلى بلادهم آمنة، فلم يروا هذه النعمة العظيمة وهي نعمة الأمن، ولم يروا نعمة كونهم مقصد الأقوام الآخرين، ولم يقدروا نعمة احتياج الآخرين إليهم وإلى بلادهم، وإنهم يغبطونَّهم على تلك الخيرات لقد أعماهم الطمع عن الالتفات إلى عظيم النعم الإلهية عليهم فأدى بهم إلى نكران النعمة بل إزدادوا عتواً وكفراناً.

 

عاقبة الكفور:

ولكن يد الرحمة الإلهية تأبى أن تأخذ الناس بظلمهم قبل أن تعمل إليهم بآيات الإرشاد والهداية والتذكير.. فأرسل الله إليهم من رحمته ثلاثة عشر نبياً بعدد قراهم يحذرونهم وينذرونهم ويدعونهم إلى مقابلة نعمة الله بالشكر وبحسن التقدير ولكن هيهات أن يسمعوا.. وإذا سمعوا هيهات أن يعوا وإذا وعوا هيهات أن يتوبوا أو يرتدعوا، وتمت الحجة الإلهية وبلغ الناهي عذره..

 

وجاء العقاب الإلهي.. فكما جاءت هذه النعم شاملة قدّر - تعالى -أن تذهب شاملة.. فسلط على السد الجرذان فأخذت هذه الجرذان تنقب الصخور والحجارة من مكانها.. بدأت تباشير النهاية.. تفتت السد، ثم انهار وهجم السيل عارماً هادراً يجرف ما يواجهه من البيوت والأشجار وتشتت الجمع وعلا الصياح فراحوا يلوذون بالفرار وكلّ يبتغي في ذلك النجاة بنفسه.. ولم ينجل الموقف إلا وقد انهار الحلم وكما جاء السد بالخيرات كذلك تركهم إنهياره في العراء مشتتين، ديارهم خربة ما فيها إلا خراب.. ثم غدت تلك الأرض الغنّاء بوراً ذات شجر بري مرير الطعم كثير الشوك كالأثل الذي هو شجرة لا ثمر له أو هي ذات قيمة زهيدة كشجر السدر: \"فأعرضوا فبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أُكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور\".

 

وبعد إن كانوا مقصد الطامحين لم يحتملوا الحياة في أرضهم فسعوا في الأرض وتشتت قبائلهم في كل اتجاه حتى صاروا مضرباً للمثل فقيل: \"تفرقوا أيادي سبأ\".

 

عبر من القصة:

1- إن حق النعمة أن يقدرها الإنسان ويلتفت إلى قيمتها.

2 - القناعة أمر مهم يؤدي إلى معرفة قيمة النعمة وفضل المنعم.

3 - على الإنسان أن يحيل بصره في كل الاتجاهات حتى لا يبخس النعمة حقها فيؤدي ذلك إلى جحود النعمة.. وإنكار فضل المنعم.

4- من أكبر النعم حاجة الناس إلى أهل النعم.. وغنى أهل النعم عن الناس.

5- النعمة لا يعطيها الباري لاستحقاق وجدارة فقط بل بألطافه بعباده ولأنَّه يتجاوز عن سيئاتها التي توجب حرمانها \"ورب غفور\".

6 - كلما عظمت النعمة عظم حق المنعم وهو الشكر.

 

حكمة للحفظ:

قال - تعالى -: \"ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد\".

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply