صِفَات الكمال هي تِلك الصِّفَات التي اتَّصَف الله- تبارك وتعالى -بِها.
والحياء صِفَة مِن صِفَات الله - عز وجل -.
ومِن أحَبّ الخَلق إلى الله مَن اتَّصَف بتِلك الصِّفَات.
\" ومَن وَافَق الله في صِفَه مِن صِفاته قَادته تلك الصِّفَة إليه بِزِمَامه، وأدخَلَته على رَبِّـه، وأدنته مِنه وقَرَّبَته مِن رَحمته، وصَـيَّرَته مَحبَوبًا له، فإنه - سبحانه - رَحيم يُحِبّ الرٌّحَماء، كَريم يُحِبّ الكُرَماء، عَليم يُحِبّ العُلماء، قويّ يُحِبّ المؤمن القوي - وهو أحب إليه مِن المؤمن الضعيف، حتى يُحِبّ أهل الحياء، جَميل يُحِبّ أهل الجَمَال، وِتر يُحِبّ أهل الوِتر \" كما قال ابن القيم - رحمه الله -.
والحياء صِفَة مِن صِفَات الله - عز وجل -،
ففي الحديث الصحيح: \" إن الله - عز وجل - حَيِيّ سِتِّير يُحِبّ الحَيَاء والسِّـتر \". رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
والحياء صِفَة مِن صِفَات الأنبياء..
فقد وَصَف النبي - صلى الله عليه وسلم - موسى - عليه الصلاة والسلام - بالحَيَاء.. بل بِشِدَّة الحياء..
ففي الصحيحين قوله - عليه الصلاة والسلام -: إن موسى كان رَجلا حَيِـيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى مِن جِلدِه شَيء استِحيَاء مِنه.
بذلك وُصِف القويّ الأمين..
وحَياء العَذَارَى مَضرِب المثَل.. !
قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدّ حَياء مِن العَذراء في خِدرِها. رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء. رواه البخاري ومسلم.
وكان الحياء خُلُقًا تتوارثه الأجيال، وتَفخَر به الأمم.. ففي خَبَر موسى - عليه الصلاة والسلام - حين وُورِده ماء مَدين أنه جاءته إحدى المرأتين تمشي على استحياء..
(فَجَاءَتهُ إِحدَاهُمَا تَمشِي عَلَى استِحيَاءٍ,).. قال عُمر - رضي الله عنه -: قد سَتَرَت وَجهها بِكُمِّ دِرعها.
وكان دليل هذا الحياء أنها لم تَنسب أمر الدعوة والجزاء لِنفسها بل نسبته إلى أبيها، فـ (قَالَت إِنَّ أَبِي يَدعُوكَ لِيَجزِيَكَ أَجرَ مَا سَقَيتَ لَنَا)..
قال ابن كثير: وهذا تأدٌّب في العبارة، لم تَطلبه طَلبا مُطلقا، لئلا يُوهِم رِيبة، بل قالت: إن أبي يدعوك لِيجزيك أجر مَا سقيت لنا، يعني: لِـيُثِيبك ويُكَافئك على سَقيك لِغَنَمِنَا. اهـ.
وما كان مِن موسى - عليه الصلاة والسلام - إلاّ أن قابَل الحياء بِحياء..
كيف لا، وهو الحَيِيّ؟
قال سلمة بن دينار - رحمه الله -: لَمَّا سَمِع ذلك موسى أراد أن لا يَذهب، ولكن كان جائعا فلم يَجِد بُدًّا مِن الذهاب، فَمَشَت المرأة ومَشى موسى خلفها، فكانت الريح تَضرب ثوبها فَتَصِف رِدفها، فَكَرِه مُوسى أن يرى ذلك منها، فقال لها: امشِي خَلفي ودُلّيني على الطريق إن أخطأتº ففعلت ذلك.
وكان الحياء مِن أخلاق العَرب في الجاهلية.. مِمَّا لَم يَندَرِس مِن الأخلاق..
ففي قصة إسلام أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال للمرأتين كلامًا.. قال: فانطلقتا تُوَلوِلان وتقولان: لو كان ها هنا أحد مِن أنفارنا! قال: فاستقبلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وهما هَابِطان. قال: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها! قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال لنا كلمة تَملأ الـفَمّ! رواه مسلم.
فما أحوج المرأة على مَـرّ الزَّمَان إلى هذا الخُلُق الـنَّبِيل، والوصف الكريم..
ذلك أنه لا يُوصَف أحَد على وَجـه المَدح بِقِلَّـة الحَيَاء..
وإنما يُذَمّ مَن يُذَمّ بِقِلَّـة الحَياء.. وصَفَاقة الوَجه.. والوَقَاحَـة.. !
ففي لسان العَرَب: وَقِح الرَّجُل إذا صار قَليل الحَياء، فهو وَقِحٌ.
وقال ابن الأثير: في حديث أبي الدراداء: وشَر نِسائكم السَّلفَعَة. هي الجَرِيئة على الرِّجَال. اهـ.
فالحياء زِينة للرِّجَال والنِّسَاء..
وَوُصِف به خير الناس بعد الأنبياء.. فقد وُصِف الصِّدِّيق - رضي الله عنه - بذلك.
حَدَّث الإمام الزهري أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: يوما وهو يخطب: أيها الناس استحيوا من الله، فوالله ما خَرَجت لِحَاجَة منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُرِيد الغَائط إلاَّ وأنا مُقنع رأسي حَياء مِن الله.
ووُصِف عثمان - رضي الله عنه - بأنه شديد الحياء..
حتى قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَلا أَستَحِي مِن رَجُلٍ, تَستَحِي مِنهُ المَلائِكَةُ؟ رواه مسلم.
والحياء خَير.. ولا يأتي إلاَّ بِخير..
قال - عليه الصلاة والسلام -: الحياء لا يأتي إلاَّ بِخَير. رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحياء خَير كُله. قال: أو قال: الحياء كُله خَير.
وحِين مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ, مِن الأَنصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: دَعهُ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِن الإِيمَانِ. رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية: مَـرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على رَجُل وهو يُعَاتِب أخَاه في الحَياء يقول: إنك لتستحيي، حتى كأنه يقول: قد أضَرّ بِك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دَعه، فإن الحياء من الإيمان.
قال ابن القيم عن الحياء: هو أصل كُلّ خَير، وذَهابه ذَهَاب الخَير أجمَعه. اهـ.
وصاحِب الحياء يَقودُه حياؤه إلى الجنة..
قال ابن حبان: الحياء مِن الإيمان، والمؤمن في الجنة. اهـ.
ولَمَّا كان الحياء خُلُقا عالِيًا مِن أخلاق الإسلام وأهله، فقد جَعَله النبي - صلى الله عليه وسلم - شُعبَة مِن شُعَب الإيمان، فقال: الإيمان بضع وسَبعون شُعبة، والحَيَاء شُعبة مِن الإيمان. رواه البخاري ومسلم.
وكما أن الحَيَاء مِن الإيمان فإن رَحِيل الإيمان مِن القلب مرتبط برحيل الحياء!
قال - عليه الصلاة والسلام -: الحَياء والإيمان قُرِنا جَميعًا، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر. رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما. وصححه الألباني.
وفُسِّر لِبَاس التقوى بالحياء..
قال - تعالى -: (وَلِبَاسُ التَّقوَى ذَلِكَ خَيرٌ)..
وذلك لأنَّ الحياء يَحجُز عن المعاصي.. وهو أحد معاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لَم تَستَح فاصنع ما شِئت. رواه البخاري.
قال ابن عبد البر: لفظ يقتضي التحذير والذم على قِلّة الحياء، وهو أمـرٌ في معنى الخَبَر، فإنّ مَن لم يكن له حَياء يَحجُزُه عن مَحَارم الله - تعالى -فَسَواء عليه فَعَل الكبائر منها والصغائر. اهـ.
قال ابن القيم: وبَين الذٌّنُوب وبَين قِلَّة الحياء وعَدم الغَيرة تَلازُم مِن الطَّرفين، وكل منهما يَستَدعِي الآخر ويَطلُبُه حَثِيثًا. اهـ.
قال ابن حبان - رحمه الله -: الحياء اسم يَشتَمل على مُجَانبة المكروه مِن الخصال، والحياء حياءان:
أحدهما: استحياء العَبد مِن الله - جل وعلا - عند الاهتمام بمباشرة ما خطر عليه.
والثاني: استحياء مِن المخلوقين عند الدخول فيما يَكرهون مِن القول والفعل معا.
والحياءان جميعا محمودان، إلاَّ أنَّ أحدهما فَرض، والآخر فَضلº فلزوم الحياء عند مُجانبة مَا نَهى الله عنه فَرض، ولزوم الحياء عند مُقَارَفَة مَا كَرِه الناس فَضل. اهـ.
ولا خير في وَجه قَلّ حياؤه..
إذا قَلّ مَاء الوَجه قَلّ حَياؤه = ولا خير في وَجه إذا قَلّ مَاؤه
حَياءك فاحفَظه عليك فإنما = يَدُلّ على وَجه الكريم حَياؤه
ولأنَّ الحَيَاء هو مَادَّة حَيَاة القَلب كما يقول ابن القيم.
وقديما قيل:
إذا لم تَخش عاقبة الليالي = ولم تَستحي فاصنع ما تَشاء
فلا والله ما في العيش خير = ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بِخير = ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقليل الحَياء في عِدَاد الأموَات.. !
قال ابن القيم: فَمَن لا حَـيَاء فِيه مَـيِّت في الدٌّنيا، شَقِيّ في الآخِرة. اهـ.
فنعوذ بالله مِن ذَهَاب الحَياء.. الذي يَموت بسببه القلب..
وبَعد هذا كله - فلا غَرابة إذاً.. أن يَكون الحياء هو خُلُق دِين الإسلام..
قال - عليه الصلاة والسلام -: إنَّ لِكُلّ دِين خُلُقًا، وخُلُق الإسلام الحياء. رواه ابن ماجه، وقال الشيخ الألباني: حسن.
إلا أنَّ الحياء لا ينبغي أن يَحجِب عن الـتَّعَلٌّم والـتَّفَقُـه.. قالت عائشة - رضي الله عنها -: نِعم النساء نِساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يَتَفَقَهن في الدِّين. رواه مسلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد