كنت أحدثه[1] ونحن نستقل سيارتي في إحدى شوارع الرياض الجميلة - حديث الصديق لصديقه، وتناولنا جهود العلماء المعاصرين المخلصين في قضية الإعجاز العلمي في القرءان الكريم والسنة النبوية المطهرة، ودقة العلماء في استنباطهم للنتائج المتوافقة مع النصوص..ومنها ربط النمص الذي تفعله أكثر نساء الإسلام اليوم عناداً وبلاهة ومخالفة صريحة لأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم -، التي تدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، ورتب عليه اللعن الشديد،..ربطه بأمراض تصيب الكبد قد تصل إلى السرطان نسأل الله السلامة والعافية -.. والسبب النمص!.
وذكرت له شيخاً [2] فاضلاً وأستاذاً معروفاً بإخلاصه وهمته العالية نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تحدث عن هذا الأمر بإسهاب وتأصيل علمي جميل، وله زيارات كثيرة لهيئة الإعجاز العلمي بالقاهرة، ولا أنسى ثناء أساتذتي في كلية دار العلوم العامرة عليه، وتبجيلهم له ولعلمه وخلقه العظيم.. فلما وصلت عند ذكر الأخلاق التفت إليّ صاحبي وقال: سأحدثك عنه بحديث تعجب له؟
فقلت له: أتعرفه؟
قال: (بعد أن ضحك ممازحاً) لا! إلا أنه كان شيخي وأستاذي وعميد لكلية الشريعة بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بأبها عندما كنت طالباً بها -.
قلت: هات ما عندك.
قال: هذا الشيخ.. كان يأسر قلوب الطلاب بحسن خلقه، وتلهج الألسنة بالثناء عليه والدعاء له، وكنت حينها أعاني من آلآم نفسية عظيمة جداً من جراء مرض والدتي الحبيبة ومراجعاتي بها للرياض لعلاجها، وهموم الدراسة.. حتى أصبحت في حالة محزنة. !
ذهبت إلى الشيخ في صباح يومٍ, ولم يكن بيني وبينه تلك العلاقة القوية أكثر من كونه أستاذاً لنا، وعميداً للكلية فحسب.
وقفت بين يديه بعد أن ألقيت السلام - وأنا لا أعلم كيف أصوغ كلامي، وليس لي بدٌ من استئذانه للذهاب بوالدتي إلى الرياض، ولم يكن من عادتي التملق واصطناع الكلام.
رفع الشيخ نظره إليّ ورد السلام ثم قال:
نعم، ماذا تريد يا ولدي؟
قلت: لدي ظروف قاسية وأرغب في إعطائي إجازة لمدة ثلاثة أيام.
قال الشيخ: لا يا ولدي.. دراستك مهمة.. فانتبه لها بارك الله فيك.
فسكتٌّ أنا ولم أدر ما أقول.
قال الشيخ: ألم تسمع كلامي يا ولدي؟
قلت: بلى يا شيخنا، ولكن والدتي مريضة جداً وأحتاج إلى نقلها للرياض عاجلاً.
فنظر إليّ الشيخ ولم يتكلم.. فخشيت أن يكون قد غضب من ردي عليه. جعل يحدق بي، وأطال السكوت... وفجأة تحدرت دموع الشيخ من عينيه على خديه الحبيبين ولحيته الكريمة.. فأصابني الوجوم والذهول، ولم أزل أنظر إليه ولا أعرف كيف أتصرف، فدموعه تغني عن ألف جواب، وتحوي كل معاني السمو والرحمة والخلق العظيم.. لقد فهمت جوابه الصامت الذي يغني عن البيان.. لكنه تكلم فقال:
يا ولدي.. أمك مريضة؟!.. يا ولدي.. لا خير في الدراسة ولا في الدنيا التي تحول بينك وبين برّك بأمك... يا بني.. قد جعل الله السعادة كلها بين يديك إذا أحسنت إلى أمك وبالغت في ذلك، ألم يقل الله - تعالى -: (وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله من أحق الناس بحسن صحابتي: (صحابتي قال أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أبوك)..
اذهب يا ولدي.. اذهب لك مني إجازة شهر! اذهب وفقك الله وعالج أمك.. وأمر الدراسة سيبارك الله فيه إذا أخلصت نيتك في برّك بأمك.
قبّلتُ رأسه ثم ودعته وخرجت من عنده وأنا أصارع دموعي.. وأقول في نفسي:
لله درٌّ صاحب هذه الأخلاق الفاضلة، والنموذج العظيم الذي تمثّل أخلاق النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، في كل شيء، حتى وهو يتربع على أعلى قمة من قمم الهرم الأكاديمي في الجامعة، ومع هذا فكلما علا وسما في مراتب الدنيا كلما علت وسمت أخلاقه إلى مراتب الآخرة، فلا يريد من أحد (جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) إلا من الله - تعالى -، وهو أيضاً يدنو من الناس بنفسه الطيبة الكريمة.. يرحم العباد، ويتلمس حاجاتهم... والله لقد خرجتُ من عنده وأنا أصارع دموعي التي كنت أحاول جاهداً أن أواريها عن زملائي الطلاب لئلا يروها.. ليس فرحاً بعلاج والدتي الحبيبة فحسب، بل فرحٌ برؤيتي للإسلام الغض الطري، العذب الصافي النقي، الذي جسدته تلك الدموع الكريمة من شيخ كريم.. في زمن كادت أن تتلاشى فيه معاني الإسلام وتندثر على يدي بعض من ولاّهم الله أمور العباد، فانقلبوا وحوشاً كاسرة لا ترحم العباد ونسوا أن (من لا يَرحم لا يُرحم)[3]..
7 صفر، 1426 هـ
-----------------------
[1]- أخي الحبيب الشيخ / عبد الله بن سعيد آل خالد.
[2]- الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد العزيز المصلح.. الأمين العام للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة شهرته تغني عن التعريف به.
[3] - صحيح البخاري. كتاب الأدب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد